الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

عزة بدر تسرد هموم الإنسان المعاصر

20 نوفمبر 2006 00:51
د صلاح فضل: عزة بدر كاتبة مصرية متميزة، احترفت الصحافة في مدرسة صباح الخير منذ عقدين من الزمان، فحصلت على جوائز التفوق في المقال والحوار، لكنها منذ صباها الباكر مسكونة بشيطان الشعر الذي نشرت منه مجموعتين، ثم جربت موهبتها السردية في أدب الرحلة والقصة القصيرة، وتوّجت كل ذلك بطموح أكاديمي عنيد فحصلت على الماجستير والدكتوراه في الإعلام عن المجلات الأدبية والثقافية، قبل أن تقفز إلى منطقة الرواية لتعثر في فضائها على الإهاب العريض، الذي يتسع -مثل جوف الفرا- لكل أنواع الصيد من شعر وبحث وتحقيق صحفي وحوار، وتجد فيه -كما يتجلى ذلك في روايتها الشيّقة ''في ثوب غزالة'' مجمع الفنون ومطهر الكتابة· بيد أنها تقدم في هذه الرواية تجربة مثيرة ترتبط بهموم الإنسان المصري في محنته المعاصرة، عندما يضيق به وطنه ويتسع له الرزق في أوطان شقيقة تحتضن أشواقه وتكبح خياله وطاقاته، خاصة عندما يكون هذا الإنسان امرأة مثقفة تختبر بعنف فوارق العادات، وتفتح عينيها بدهشة على خفايا مجتمع المهجر وغواياته المرهفة، بما يتيح لها أن تكشفه من صراعات إنسانية خبيئة زاخرة بالمشاعر والمواقف، وإن كان أهم ملمح شعري لافت في هذه الرواية لا يتمثل في كثرة النصوص الشعرية المقتبسة من إنتاج الشعراء الشباب هناك، وإنما يتمثل في خاصية فنية للسرد الجميل هي تعادل الصور التي تجسد الملامح المتباينة لهذا المجتمع، بما يزخر به من متع حسية وأخرى روحية، بما يجعل إيقاع العمل الإبداعي شديد التوازن والعدل والنبل، دون أن يختزل العالم في مظهر مادي أو معنوي واحد، كما تفعل بعض الكتابات المبتسرة السريعة عن المهاجر العربية· المشهد المستفز على أن مطلع الرواية ينفتح على مشهد مستفز يكاد يهدد هذا التوازن الذي يستقر في وعي القارئ عندما يفرغ من تلقيه العمل كله؛ مما يضفي على إطار الاستجابة الجمالية للنص طابعا شجيا هو إحدى سمات شعريته إذ نقرأ ''تبدو جميع الأبواب مغلقة والنوافذ أيضا، مبنى السفارة مصمم لا تستبين منه كوّة، النائمون أمام باب السفارة قضوا الليل مفترشين جلابيبهم وأوراق الجرائد أمام عمائر وفيلات جاردن سيتي، ينتظرون أن يفتح شباك الحصول على تأشيرات السفر للبلد العربي الشقيق، لم يفتح الشباك، بل تساقطت الأوراق من عل·· من نافذة ما في السفارة، يد ما ألقت للمنتظرين بطاقاتهم الشخصية وأوراقهم الممهورة بإمضاءات السماح بالسفر والدخول إلى عالم الغربة، تصارع المنتظرون·· تسابقوا في الوصول إلى الأوراق وجوازات السفر القدسية التي انهالت على الأرض، بينما انفتحت الشبابيك في الأعالي، وظهر موظفو السفارة ليتأملوا المشهد·· يتأملون تزاحم الجموع لالتقاط الأوراق بعدما ضاقت بهم سبل العيش في أم الدنيا''· ومهما كان دور الخيال النزق في بناء هذا المشهد الموجع فإنه يضغط بعنف على عصب حساس لا يقتصر على أوضاع العمالة والغنى والفقر في الوطن العربي فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى مأساة الهجرة الشرعية وغير الشرعية في العالم المعاصر· ومع أن الصورة السردية التي تصنعها الكاتبة أقرب إلى الشعر في استحالة وقوعها بالمنطق المعتاد فإنها تجسد بطريقة متطرفة بليغة مشاعر الطرفين ممن يحفرون الأرض أو يطلون من الأعالي للتسلي، ويتعين على القارئ أن ينتظر طويلا حتى تشفى نفسه صور أخرى تتعلق بمباهج الروح وقداسة طقوس الحج والزيارة التي تقوم بها الراوية المثقفة ذاتها خلال معايشتها للطيبين من أبناء هذا البلد الشقيق ومشاركتها لهم في مواجدهم وحياتهم المفعمة بمظاهر الخير والشر على السواء· منظور الأنثى تمضي الرواية في مجملها لتحكي قصة عروس تطير إلى زوجها الذي يعمل في السعودية، وهي مثقلة بميراثها المصري من الحساسية والطموح والثقافة، فإذا تأخرت طائرتها في الإقلاع جثم على صدرها همٌّ ثقيل، وتناهت إليها أصداء هارب فرعوني وأغنية قديمة تقول: ''وا أسفاه ·· إن نفسي لتذوب حسرة على مدينة منف وكنوزها· هناك بين جدران بيتي كنت حرة كالحمامة واليوم أنا أختبئ في كهف إن هيكلي من خلفي، ما أبعد المسافة بيني وبينه أي سيدتي ·· مدينتي، متى تعودين؟'' ثم لا تلبث الراوية أن تلاحظ خلال الرحلة ذاتها أن ''ملابس الراكبات قد أخذت تتبدل، اللواتي كن قد أخذن زينتهن عند الإقلاع تجلببن في ثياب سوداء، فلم تبد منهن سوى أعين براقة مكحولة، كتمن الأنفاس بقماشات سوداء ثقيلة، اختفت الملامح والكلمات، والابتسامات وقطرات الدمع، وكأننا سندخل إلى غرفة معقمة بالسواد، وسيلة التعبير الوحيدة فيها نظرات الأعين'' ويمتد هذا المنظور الأنثوي ليرصد على مدار الرواية بأكملها أشكال العلاقات المهيمنة على هذا المجتمع المغاير في عشرات الأحداث والتفاصيل الصغيرة من حفلات الزفاف النسوية، وشهوات النساء المكبوتة من وافدات ومقيمات، وكيف يتكيفن مع هذا الواقع القاسي، فترسم نماذج إنسانية لا يقوى المبدعون من الرجال على النفاذ إلى بواطنها، كما نرى عند جاراتها المنصورية وهند وشغفها بالمطربة الغلانية، وكما نرى أيضا فيمن تلقاهن من موظفات مكتبة الجامعة التي تتردد عليها لإتمام بحثها العلمي وما تخبئه كل واحدة منهن، حتى المطوّعة عقيلة والصبايا فتنة وسعدى· على أن الراوية تمر بتجربة بالغة الأثر في حياتها عندما تكتشف عمقها المؤقت وتدخل في حرب بيولوجية مع جسدها حتى تتفتح فيه منافذ الخصوبة في مشاهد حميمة لم تخطر على ذهن كاتب من قبل، فهي تصف مثلا لوعة انتظار الأنثى لغياب الدورة ''كم من الوقت أعاني ليجري السيل الأحمر ما عشش من بيض في حنايا الرحم·· تلك الأنسجة والشعيرات التي تنفجر بالدم تعلن عن غضبها، عن مكنون يأسها من أن الرحم لم يحمل طفلا، لم يسع نجمه أن يبزغ ولم يؤذن له بالصعود'' وعندما تحمل النهاية بعد تباريح الشوق والعلاج المضني مشهد الولادة القيصرية ومفارقاته الطريفة تكون الراوية قد سكبت خلاصة تجربتها الأنثوية المقطرة في الخلق الحيوي عبر هذا الخلق الإبداعي المحكم· معادلة الحرم المكي يقول الباحثون إن المقدس يقترن في الوجدان الجماعي بنقيضه، وإذا كان أهل مكة أدرى بشعابها فهم يعرفون أن الحرم وهو مهوى أفئدة الناس أجمعين طالما اتخذه العشاق منذ القدم مكانا آمنا لعقد اللقاءات البريئة وبث العواطف الملتاعة· والطريف أن الراوية التي تعتمد على مصادر تاريخية وعلمية تسجلها في ذيل الرواية تقيم معادلتها الدقيقة للأمكنة بالجمع بين هذين المظهرين للحرم المكي، فهي في سعيها لجبر كسور صديقتها سُعدى، النادمة والمكرهة على فراق زوجها المحبوب فهد، تلتقي به عند ''باب السلام''، فتجد نفسها صريعة غوايته ''نظر إلى وجهي بعمق، التقت عينانا، معنى صامت يدور بيننا غامض له رائحة عطر فاغم، فراشة صامتة انطلقت فجأة من بين أهدابه، نظرة من علٍ هوت كذرات كحل مفاجئ، نظرت باتجاه الطائفين والركع السجود فأحسست بالخجل، طفق قلبي يدق في صدري حتى كاد أن ينخلع، وليت وجهي شطر الصفا، وكنا لم نجاوز بعد حدود المروة ·· تطلعت إليه ثم خفضت بصري، يا ليتني ما رأيت سعدى ولا قابلتك ولا لامست تفاحتك، خذ أية امرأة غيري إلى مثوى حواء ودعني ألتمس الملك الذي يشق القلوب ويطهرها··'' وعندما تعود الراوية إلى هذا المكان الطهور بعد ذلك في طواف الحج، وتسعى بصدق بين الصفا والمروة هذه المرة، تتأمل رموز شعائر الحج، قائلة لنفسها ''كنت أفكر في حكمة هذا السعي وهذه الهرولة بين جبلين إلى جانب مغزاها التاريخي·· فكرت أن الحركة والأصوات صورة من سعي الإنسان وشقائه أمام حاجاته، ورغبته في الحصول والوصول إلى نقطة ارتواء''· وفي التوازن بين الارتواء العاطفي المخايل المخاتل من ناحية، والارتواء الروحي المتدفق من ماء زمزم يكمن سر هذا التعادل الروائي الذي مارسته الكاتبة في تجربتها الخصبة لسرد مواجد امرأة مصرية مثقفة وهي تسعى للتحقق الإنساني والطبيعي في رحلة البحث عن الذات المبدعة·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©