الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يوميات السجينات.. معاركهنَّ الصغيرة

يوميات السجينات.. معاركهنَّ الصغيرة
2 يناير 2013 20:34
“أراد جندي أن يتسلى فأحضر “جندباً” وتقدم مني طالبا أن آكله فرفضت .. هدد .. لكنّي رفضت بهدوء.. مزق رفضي شرنقة القهر.. تحول الجندي بجندبه إلى رسمية عودة وطلب منها أن تأكله فرفضت بصوت أعلى وأشد .. استدار إلى عزية وزوز فصرخت به ..كانت صرختها كشراع نشر أذرعه للإبحار .. رفع الجندي بندقيته ليضربها فتحفزنا للدفاع عنها كأننا لم نكن قبل لحظات نئن من ثقل القهر.. كان لذلك التحدي الصغير أثر كبير في نفوسنا كأننا صهرنا قوة عصية على الانكسار”. هذه فقرة من السيرة الذاتية للمناضلة المحررة عائشة عودة التي دونتها في كتاب بعنوان “ثمناً للشمس” الصادر قبل أيام قلائل عن المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية “مواطن” في رام الله، وهو الثاني لها بعد “أحلام بالحرية” الذي دونت فيه تجربة الاستجواب الذي يتعرض له الأسرى الفلسطينيون وهي من وجهة نظرها الأكثر صعوبة وقسوة ومجموعة قصصية بعنوان “يوم مختلف”. والكتاب الذي جاء في 311 صفحة لا يتحدث عن التعذيب في سجون الاحتلال لكنه يسلط الضوء على صمود الأسيرات الفلسطينيات، وكيف تعاملنَ مع الظروف القاسية، وتكيَّفنَ وهنَّ يقرعنَ جدران الخزان، يدافعنَ عن قضيتهنَّ ويؤكدنَ وجودهنَّ، وعندها تنسمن الحرية وسط الأهل والأقارب ورفقاء السلاح. أما المؤلفة عائشة عودة التي تعيش حاليا في رام الله بالضفة الغربية فكانت قد وصلت عمان عام 1979 مبعدة في عملية “النورس” لتبادل الأسرى التي جرت بين الجبهة الشعبية – القيادة العامة” ودولة الاحتلال بعد ان قضت عشر سنوات من حكم بالمؤبدات. سياسات ممنهجة في “ثمناً للشمس” تصف عائشة عودة السجن بأنه لإخراج الفلسطيني من حياته وزجه في قمقم ضيق ليخضعوه لإجراءات ممنهجة غاية في القسوة، وإنهاء حياته مادياً ومعنوياً.. وكحد أدنى تجميدها حتى تنتهي صلاحيتها؛ فيما الأسر بالنسبة للفلسطيني ساحة مهمة من ساحات الصمود ومواجهة الأسئلة الصعبة.. كيف نصمد ونقاوم؟ كيف نكتشف القوة الكامنة في أعماقنا؟ وكيف نكتشف العدو ومجتمعه وهشاشته حيث يغلفها بعناصر القوة الخارجية ليبدو أنه لا يقهر بل فوق طاقة البشر كما هو فوق القوانين؟. وتروي في مؤلفها الجديد الذي يحوي 32 عنواناً مواجهة مع مديرة سجن الرملة أو كما أطلقت عليها المرأة البيضاء: ? لماذا جئتنَّ إلى السجن؟ ? نحن لم نأت للسجن؟ ? حسنا لماذا أتوا بكن إلى السجن؟ ? اسألي من جاء بنا إلى السجن؟ زادت الدهشة في العيون وتلونت الوجوه . ? لا بد أنكن تعرفن وأود المعرفة؟ ? اقرئي الملفات التي أمامك؟ ? هل تخجلن من أعمالكن؟ ? من يناضل من أجل حرية وطنه وشعبه لا يخجل بل يفتخر. في السجن تصبح الأشياء الصغيرة عالماً قائماً بذاته. ما تفضله الكاتبة وما لا تفضله يصير محوراً للحياة وللسرد: تفضيلها البطاطا المشوية، قصص الحب من وراء القضبان خاصة حكاية الفدائي “عبدالسلام” الذي أحبته أو كما تقول “ومضة في لحظة التقاء العيون”، وكيف استقبلت استشهاده بالأردن.. وبكثير من الشوق انتظارها للقاء المناضلة فاطمة برناوي وسارة رفيقة دربها الموقوفة إداريا آنذاك، ومعاملة السجينات الإسرائيليات لهن: “أطل وجه فتاة من كوة الباب .. بصقت علينا وأسمعتنا شتائم رافقتها حركات بذيئة .. وجوه تطل تهدد وتسب “عربيوت ملخلخوت” أي “عربيات قذرات”. وتحت عنوان “ قلبها يخفق” بينت عائشة عودة أن تصنيع الإشاعات من صناعة الاحتلال بامتياز “خلعوا أسنانك.. وخلعوا أظافرك ورموش عينيك” كحرب على روح المقاومة وبالذات على مشاركة النساء فيها لكن الجهل والتخلف هو متلقيها ومروجها ومستهلكها.. عاتبت أختي “وزينة” على خضوعها للإشاعات مذكرة إياها كيف كنّا نتصدى للإشاعات التي راجت بعد هزيمة حزيران 1967. وتروي تفاصيل أول مواجهة جسدية مع سجينة إسرائيلية التي مدت يدها من الطاقة لتقذفنا بالأوساخ فالتقطتها “عزية وزوز” لتبدأ الإسرائيلية بالصراخ وطلب النجدة وتتوسل “أستطيع كسر يدك الآن وحتى رأسك” هزت رأسها موافقة وهي تتذلل وتطلب إفلات يدها. هذه الحادثة كما تقول عائشة عودة كانت انقلاباً في سلوك الفتاة تجاهنا 180 درجة؛ ففي اليوم الثاني جاءت تعتذر وتطلب الغفران وادعت أن “شوشانة”رئيسة السجينات الإسرائيليات هي التي طلبت منها أن تقذف السجينات الفلسطينيات بالقاذورات. السجن .. مدرسة وتروي عائشة عودة كيف حولت السجينات الفلسطينيات سجنهن إلى مدرسة لمحو الأمية حيث تولت المعلمات تدريس الأخريات القراءة والكتابة واللغة الإنجليزية على وجه الخصوص والعبرية ليتعرفن على لغة سجانيهن “من عرف لغة قوم أمن شرهم” فانتصرن بصمودهن وإرادتهن وعزيمتهن على سياسات الاحتلال الهادفة لسحق شخصياتهن وجعل نضالهن بلا جدوى. ففي حفل إشهار كتابها “ثمنا للشمس” في رابطة الكتاب الأردنيين بعمان الأسبوع الماضي دعت عائشة عودة زملائها على اختلاف جنسهم الذين مروا بتجربة الاعتقال إلى كتابة رواياتهم وتجربتهم كي لا تظل حكايات شفوية وتكون دليلا على جرائم الاحتلال. وتروي الكاتبة صورا نضالية من الصمود في مواجهة سجانيها أثناء قراءة تعليمات السجن ونظامه “على التعليمات والأوامر ألا تمس كرامتنا وإلا لن نتجاوب معها .. نحن أسيرات سياسيات ولنا حقوق تكفلها لنا اتفاقية جنيف الرابعة التي تضمن عدم المس بكرامتنا الإنسانية كما تتطلب تزويدنا بالكتب والصحف والدفاتر والأقلام والرسائل وزيارات من أهلنا”. وتورد رد مديرة السجن ..المرأة البيضاء ذات الملامح الأوروبية: “أنتن لستن سياسيات .. انتن مجرد قاتلات للأطفال .. أعماكن الحقد وكره اليهود الذي تبثه إذاعة أحمد سعيد والإذاعات العربية الأخرى” لترد عائشة عودة: “أنت غير مؤهلة لإصدار الأحكام على نضالنا لأنك من كيان قام على الإرهاب والتزوير والسرقة والمجازر والاحتلال”.. وتحدث المواجهة ويصبح السجن مثل “حمّام قطعت مياهه”. ووفق المؤلفة فقد وفت الضابطة “لويزا” بوعدها وأحضرت كتابا يتيما وهو رواية سخيفة قرأناها وأجرينا نقاشا نقديا حولها .. أصبح اهتمامنا بالكتب مثار إعجاب وتعجب فكيف من وجهة نظر مديرة السجن والسجينان الإسرائيليات لفتيات عربيات أن يكن مثقفات.. ذلك يتعارض مع الصورة النمطية في مخيلتهم عن المرأة العربية التي منبعها عنصري. وتوضح عائشة عودة في “ثمنا للشمس” أنها كتبت مجموعة قصص “أرض البرتقال الحزين” لغسان كنفاني فيما كتبت رسمية عودة ملخصا لرواية “الأم” لمكسيم غوركي وسجلنا الكثير من الأشعار والحكم والأقوال التي تحفظها 11 أسيرة. ومن الحكايات التي يرويها الكتاب كنموذج للصمود والتصدي المشادة التي تفجرت بين سجينتين إسرائيليتين وقيام واحدة بصب الشاي الساخن على المناضلة “رسمية” فأمسكت بمن قذفت “طنجرة” الشاي وبضربة واحدة طرحتها أرضاً.. وكانت النتيجة صاعقة للسجينات والسجانات وتبين فيما بعد أن الشجار كان مفتعلاً بهدف الاعتداء علينا لكن الاشتباك جعل منا بطلات. حكايتي مع المحامي وتصف عائشة عودة نفسها بأنها ثائرة تحمل مشروع التحرر لنفسها وجنسها وشعبها وأمتها وتتساءل كيف يجرؤ المحامي أنطون جاسر من داخل الخط الأخضر 1948 على مخاطبتها قائلاً: “ما كان لك أن تزجي بنفسك في السياسة وتدخلي السجن .. كان من الأفضل لك البقاء في بيتك لتعيشي حياتك مثل باقي الفتيات فذلك خير من أن تكوني سجينة”. هذا ما يريده المحتل .. لست سجينة .. انأ أكثر حرية من عشرات الملايين من نساء ورجال أمتك العربية الذين يقبعون في بيوتهم مكبلين بخوفهم .. هم السجناء لا أنا .. كان من الأجدى أن تدعو هؤلاء كي يتحرروا من خوفهم مثلي لاأن تدعوني كي أصير مثلهم. وتحكي عائشة عن الطالبة الهولندية “لودوين” التي تؤمن بعدالة القضية الفلسطينية وترى النضال من أجلها أولى أولويات النضال العالمي والفتاة الأميركية تري جانسون التي اعتقلت في مطار اللد وتعرفت على القضية الفلسطينية من خلال أصدقائها الفلسطينيين وهي مقتنعة بعدالة قضيتنا وعدوانية إسرائيل لكن منطقها لا ينبع من موقف أيديولوجي بل تؤمن بالنظام الأميركي الديمقراطي وتعادي النظم الشيوعية الشمولية وأنظمة الحزب الواحد لتعارضه مع حقوق الإنسان وكرامته وحريته. وتتحدث في “ثمنا للشمس” كيف تعلمت من الأميركية جانسون المقاومة السلبية المطلقة التي تقوم على أساس كيف يتصرف الفرد أثناء التحقيق فلا يتكلم حتى اسمه .. لا يأكل وعليهم أن يفتحوا فمه ويضعوا الأكل .. لا يذهب للحمّام ويمكن أن يفعلها في ملابسه ليضطروا لحمله .. لا ينتقل من مكان لآخر وإذا أرادوا نقله فعليهم أن يحملوه .. هكذا يحول نفسه إلى ورطة وعبء كبيرين لن يكونوا قادرين على تحمل تبعاته. وممّا جاء في المؤلف “توحمت أمي على تراب أحمر وأكلته بمتعة غريبة ..تأخذه من بين شقوق صخرة أشارت إليها “ومن غزة جاء”. ما أن يحل الظلام حتى يخرج الشهداء من قبورهم يحملون القناديل ويجوبون الشوارع والحواري والأهل يحلفون الأيمان أنهم رأوهم بأم أعينهم .. نظرنا للقصة على أنها أوهام ولم نستطع أن نرى حينها رمزيتها العالية التي يحتلها الشهيد في ضمير أمته .. لم ندرك أن الشعوب الحية والمقاومة تنتج أساطيرها الخاصة لتمثل روحها التي تتحدى الظلم والظلام فيمتشقون مشاعلهم من أعماق روحهم ومن أجدر من الشهداء ليضيئوا تلك الأعماق”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©