فتح المسلسل الرمضاني الشهير ''حدائق الشيطان'' الذي لعب بطولته الفنان السوري جمال سليمان الباب واسعا لقراءة جديدة لصعيد مصر، واضاء مناطق ظلت معتمة طويلا بفعل فاعل أو ربما بجهل غافل·
ويرى الصعايدة رغم تحفظاتهم الكثيرة على هذا المسلسل أنه قدم الصعيد بصورته شبه الواقعية لأول مرة، بعد أن ظل الصعيد في الدراما التليفزيونية والافلام السينمائية والمسرحيات مجرد صورة كاريكاتيرية ممسوخة ومشوهة ومبالغ فيها، فيما يتعلق باللهجة والملبس والسلوكيات، ورسخت صورة ذهنية سيئة في وجدان المتلقي تربط بين الصعيدي والبلاهة والغباء والحماقة والغفلة، وانتشرت النكات التي تبدأ بعبارة ''مرة واحد صعيدي'' وتنتهي دائما بابراز صفات سيئة له·
القاهرة ـ محمد أبوكريشة:
اسم الصعيد يعني الأرض المرتفعة وقد ورد في القرآن الكريم ''فتيمموا صعيدا طيبا'' اي إذا لم يتوفر الماء فليكن التيمم بديلا للوضوء بشرط أن يكون من أرض مرتفعة ضمانا لطهارة ترابها·
وهناك أسماء أخرى للصعيد منها مصر العليا وقبلي وجنوب مصر، لكن كلمة الصعيد هي الأعم لأن الصعيد ليس وحدة جغرافية ولا اجتماعية واحدة لكنه اكتسب اسمه من كونه الأعلى جغرافيا في مصر اذ يجري النيل من الجنوب الى الشمال·
ويمتد الصعيد جغرافيا ابتداء من محافظة الجيزة التي تعد آخر محافظة صعيدية قبل أن يبدأ بحري من القاهرة· وجغرافيا ايضا فإن الكباري التي تفصل بين الجيزة والقاهرة هي نفسها التي تفصل أو تصل بين الصعيد ''الوجه القبلي'' وبحري ''الوجه البحري''·
العرق الصعيدي
وعرقيا يعد أهل الصعيد عربا خلصا، فقد تركزت الهجرات القبلية العربية التي جاءت الى مصر من شبه جزيرة العرب مع الفتح الاسلامي في مصر العليا أو في الصعيد الجواني كما يسمونه نظرا لتشابه طبيعة الأرض والمناخ في الصعيد مع مناطق شبه الجزيرة العربية· ومن الادلة على ذلك لهجة الصعيد باعتبارها أقرب لهجات مصر الى العربية الفصحى وهي الآن متقاربة حتى التطابق أحيانا مع لهجات أهل الخليج العربي·
والدليل الآخر هو ان القرية الصغيرة في الصعيد تسمى النجع، وهي تقابل الكفر في الوجه البحري· والنجع لغة أو المنتجع هو المكان الصحراوي الذي يكثر فيه الكلأ الصالح لرعي الماشية والاغنام، ولا يخفى ان الرعي حرفة عربية بدوية معروفة·
وهناك قرى كاملة في الصعيد تحمل اسماء قبائل عربية شهيرة ومنها قرى بني عدي وبني مرة وبني محمد في أسيوط وقرية فزارة في سوهاج، كما ان هناك مجموعات من القرى تجمعها كلمة عرابة، والعرابة نسبة الى العرب ومنها عرابة أبي ذهب وعرابة أبي كريشة والعرابة المدفونة وهناك قرية عرب الأطاولة وقرية كوم العرب وغيرها·
والصعايدة مثل العرب في الخليج مغرمون بالانتساب وتتبع الاصول وشجرة العائلة وتلك عادة عربية واضحة· فالصعيدي يحفظ اسمه حتى الجد الرابع عشر وربما العشرين كما ان عادات وتقاليد الصعيد هي نفسها التقاليد البدوية العربية، ومن ذلك عادة الأخذ بالثأر واستمرار الدم بين عائلتين أو قبيلتين سنوات طويلة وعدم تقبل التعازي في القتيل حتى يتم أخذ ثأره·
وهناك عادة رفض تزويج فتاة العائلة أو القبيلة الكبيرة خارج عائلتها مع حق الشاب في أن يتزوج من أي عائلة يريد مما أدى ذلك الى انتشار العنوسة بشكل كبير بين بنات العائلات العريقة· لكن هذا التقليد تراجع كثيرا الآن وخفت قبضة العائلات على بناتها في مسألة الزواج، وانتقلت عدوى المادية والفلوس من المدن الكبرى الى الريف والصعيد وصار العريس الغني مفضلا دون السؤال عن مصدر فلوسه، كما انتشر تعليم الفتيات في الصعيد بشكل واسع، وعرفت الفتيات الحب والموضة والمكياج مع انتشار التلفزيون بالاضافة إلى الدش والكمبيوتر والهواتف النقالة·
نجوم من الجنوب
عندما نستعرض نجوم مصر في كل مجال نجد الصعايدة على القمة وفي البؤرة وهو أمر قديم منذ الفراعنة· فموحد القطرين الملك الفرعوني مينا صعيدي من سوهاج من قرية كانت تسمى طينة وهي الآن تسمى العرابة المدفونة أو عرابة أبيدوس· والسيدة هاجر أم سيدنا اسماعيل الذي انجب العرب جميعا صعيدية من طيبة أو الأقصر حاليا لذلك يقال إن الصعايدة هم أخوال العرب وانسحب القول على المصريين عموما فيقال إن المصريين أخوال العرب، كما ان السيدة مارية القبطية أم المؤمنين وزوج الرسول صلى الله عليه وسلم صعيدية من المنيا·
وفي العصر الحديث لا يمكن أن ننسى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر ابن قرية بني مر أو بني مرة الصعيدية في أسيوط، والمشير الراحل عبدالحكيم عامر ابن قرية أسطال الصعيدية بالمنيا، ومن سيدات مصر الاولى السيدة جيهان السادات قرينة الرئيس الراحل أنور السادات فهي صعيدية من بني سويف، وكذلك السيدة سوزان مبارك قرينة الرئيس حسني مبارك صعيدية من نزلة ثابت بالمنيا· أعظم مفكري وأدباء وشعراء وفناني مصر من الصعيد ومنهم عباس محمود العقاد من أسوان والدكتور طه حسين من المنيا ومصطفى لطفي المنفلوطي من أسيوط والشاعر محمود حسن اسماعيل من أسيوط والروائي جمال الغيطاني من سوهاج والشاعر عبدالرحمن الابنودي والشاعر أمل دنقل والشاعر عبدالرحيم منصور والاديب يحيى الطاهر عبدالله وكلهم من قنا· ومن الفنانين نادية لطفي من البلينا بسوهاج ويوسف وهبي من الفيوم وعماد حمدي وأبوبكر عزت وحمدي أحمد وجورج سيدهم من سوهاج، ولا ننسى أيضا ان شيخ الأزهر الحالي الدكتور محمد سيد طنطاوي صعيدي من سوهاج ومنها أيضا بابا الاقباط شنودة الثالث· والنقباء المعروفون الآن ايضا صعايدة ومنهم نقيب المحامين سامح عاشور ونقيب الصحفيين جلال عارف ورئيس نادي القضاة زكريا عبدالعزيز وكلهم من سوهاج، وأول صحفي مصري انشأ صحيفة بعد الشوام في مصر هو الشيخ علي يوسف وهو صعيدي من قرية بلصفورة بسوهاج·
القاهرة الحديثة
والصعايدة هم الذين انشأوا القاهرة الحديثة· فالمعروف انهم أول من انشأ وسكن حي الزمالك العريق· والزمالك يقال انها كلمة تركية بمعنى العشش· كما ان أشهر رجال المال والاعمال في مصر الآن صعايدة ومنهم المهندس نجيب ساويرس من سوهاج· والصعايدة يساهمون بأكثر من ستين في المئة من تحويلات المصريين العاملين بالخارج·
والخلاصة ان الصعيد لديه نفس عيوب كل مناطق مصر والدول العربية الأخرى، ولديه نفس المميزات والانجازات ولا يمكن اعتباره كتلة واحدة تصدر ضدها او لها حكما عاما بالاعدام أو بالبراءة·
لكن يبقى الصعيد مستودعا للفولكلور والتقاليد العريقة، ورغم الهجوم المدني والحضاري فانه من الصعب جدا تذويب الصعايدة الذين يوصمون بالغفلة والبلاهة بينما هم متطرفون في صفات حميدة عندما يتم تهذيبها بالتثقيف والتعليم تنتج شخصا قريبا من الكمال البشري·
فالصعيدي متطرف في الكرم والشجاعة وفي الحفاظ على عرضه وكرامته، والصعيدي مازال شديد الرومانسية وهذا يؤكده ان أشهر الشعراء والأدباء والفنانين صعايدة· كما ان الصعايدة يقفون طويلا أمام الموت ويبالغون في الاحتفاء بالأموات والجنازات وسرادقات التعازي، بينما يقيمون افراحا بسيطة ويكون سرورهم وقورا وقصيرا، وإن كانت المبالغة في حفلات الزفاف واعياد الميلاد واعياد الزواج واعياد الربيع وفالنتين قد غزت الصعيد بقوة الآن·
عدد اليوم
