الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البحث عن كوكب آخر

البحث عن كوكب آخر
24 أغسطس 2012
نورا محمد (القاهرة) - خرج الشاب في رحلة سياحية إلى أحد البلدان العربية، فهو من محبي السياحة والسفر، ومع أنه هادئ، فإنه يحب المغامرة، لكنه بعدما قضى عشرة أيام جاب فيها المناطق السياحية وتجول بين المناطق العتيقة وشاهد بعض الآثار، توطدت العلاقة بينه وبين الفتاة الأنيقة التي كانت تعمل مرشدة سياحية في الشركة المنظمة للرحلة، حدث بينهما نوع من التفاهم والارتياح، ثم الاتفاق على التواصل والاتصال، وبعدما عاد لم يستطع أن يصبر كثيراً وخلال شهر واحدة عاد إليها، واتفقا على الزواج، لكن المشكلة الأولى أنه بلا عمل، فقد تخرج حديثاً في الجامعة وأيضاً ليست لديه أموال، فهو من عائلة متوسطة، ولا يمكنه العودة إلى بلده ليتحمل نفقات أسرة، وهو بلا أي دخل أو عمل، وهي أن غادرت معه ستفقد وظيفتها في هذه الحال، وكان الحل الوسط أن تجد له عملاً معها في بلدها ويتم الزواج، وبهذا يمكن ضرب كل العصافير بحجر واحد، وبالفعل كانت الفكرة عبقرية، كما بدت لهما لأنها أنقذتهما من الأزمة. استطاعت الفتاة أن تساعده في العمل بأحد المراكز التجارية كبائع يرتدي “اليونيفورم” أو زي المركز المميز، وإن كانت الوظيفة لا تناسبه ولا تروق له، لكنه يضحي من أجلها وطمعاً في مستقبل أفضل، ولا يعتقد أن ذلك سيطول كثيراً، وأيضاً لن يطول به المقام هنا في ذاك البلد، وحتماً سيعود قريباً إلى بلده الذي هجره، وهذا كله جعله يتحمل الأوضاع المؤقتة، وفي نفس الوقت يبحث وتبحث هي معه عن عمل آخر يناسبه يكون أفضل حالاً، ولم يكن أمامه إلا المطاعم والأسواق وأخيراً وجدت له فرصة في إحدى الشركات السياحية من خلال عملها في هذا المجال، لكنه لن يكون مديراً ولا مسؤولاً ولا محاسباً، وإنما مجرد كاتب يسجل بعض البيانات أو يرد على الاتصالات والاستفسارات من العملاء، وأحياناً يقوم بقضاء بعض المهام التي توكل إليه خارج الشركة، وفي الحقيقة كانت دراسته النظرية سبباً في تضاؤل وانعدام فرص العمل أمامه. لم يكن أمامه إلا أن يقنع نفسه بأنه بالصبر يبلغ ما يريد، وواصل الشاب والفتاة العمل ليل نهار وقد خطبها رسمياً من أسرتها التي رحبت به فهو على خلق ومريح في التعامل ولديه قبول، وحاول الجميع مساعدته بقدر ما يستطيعون وقد تحول بالفعل إلى واحد من أفراد أسرة الفتاة، ومع أول مبلغ تم تجميعه وادخاره منه ومنها تم الترتيب للزواج بأثاث متواضع، لكنه جديد، واستئجار شقة صغيرة، وفي حفل الزفاف لم يكن من أقاربه أحد بين الحضور فتأثر بذلك كثيراً، فكم تمنى أن يكون أبوه وأمه وأخوته وأخواته بجانبه في ليلة العمر، وأيضاً أقاربه وأصدقاؤه وأبناء المنطقة التي تربى ونشأ فيها، لكن ما باليد حيلة فالبلاد بعيدة، وتحتاج إلى إجراءات وتأشيرات وموافقات وأوراق ومبالغ ضخمة لتكاليف السفر والإقامة، فحال ذلك كله دون ما يتمنى ويرغب. بدأت الحياة الزوجية للعروسين برحلة يسرتها لها الشركة التي تعمل بها كهدية لزواجها، كان شهر العسل خيالياً، أنهياه بعدة أيام بين أبيه وأمه في بلدته، وأفراد أسرته الذين أعادوا الاحتفال بالعروسين بحفل كبير عوضه عن افتقادهم في ليلة العرس، وها قد رأت زوجته عائلته لأول مرة وباركت اختياره، لكن اشترطت عليهما التواصل والتزاور على فترات متقاربة، إلى أن يتم لهما الاستقرار في بلدته. كانت دوامة الحياة أقوى من الجميع، انشغالات بالعمل والظروف وأنواع شتى من المشاكل التي لا يخلو منها بيت أو إنسان، والاستغراق في دوامة لا تنتهي من المهام والأحوال وأيضاً المناسبات والمجاملات الضرورية، فاقتصرت علاقة الشاب بأسرته على الاتصالات كل أسبوع مرة ثم تناقصت إلى كل شهر مرة حتى وصلت إلى الأعياد فقط، ثم انقطعت بعدما توفي أبوه وأمه تباعاً، وهو يتنقل من عمل إلى آخر بجانب عمله في الشركة ليواجه أعباء الحياة، وغير قادر على العودة، وقد تأخر الحمل بسبب ظروف عمل الزوجة، حيث إن الحمل والولادة لا يناسبان طبيعة عملها، لكن رغبتهما في الإنجاب كبيرة فقررا التضحية، وقبول العقوبات والشروط التي ستفرض على الزوجة، فما إن بدأ الحمل يظهر حتى قررت الشركة نقلها إلى وظيفة روتينية مثل وظيفة زوجها، وبالطبع وهذا هو الأهم كان راتبها قد تقلص وخسرت منه كثيراً إلا أن المهم هو الفرحة بقدوم أول مولود طال انتظاره. رفرفت السعادة على الأسرة الصغيرة التي أصبحت تضم ثلاثة أفراد، والطفل يكبر شهراً بعد الآخر، وقد تعلم النطق والحروف والكلمات، لكنه في ارتباك بين لهجة أمه ولهجة أبيه رغم أنهما يتحدثان العربية، لكن كأنهما يتحدثان بلغتين مختلفتين تماماً، بسبب الفوارق الكبيرة بين اللهجتين واللتين تكشف كل منهما عن جنسية صاحبها بمجرد أن يتحدث بضع كلمات، فعانى الصغير كثيراً، لكن مع كثرة اختلاطه بأقارب أمه، وملازمته لها معظم الوقت أصبح يتحدث بلهجتها، تاركاً لهجة أبيه عن غير عمد، وبلغ الطفل الثالثة من عمره وخرج إلى الشارع والحدائق مع الصغار، وهو يجيد تلك اللهجة مثلهم كأنه واحد من أبناء جنسيتهم وانتقل بعد ذلك إلى مرحلة الدراسة عندما التحق بالمدرسة، وأصبح له أصدقاء جدد ولا مشكلة إلى هنا على الإطلاق. أحاديث الأطفال لا تعرف الكذب والمراوغة، وكان الولد صريحاً أو ببراءة يخبر أقرانه أنه ليس من جنسيتهم وإنما لأن أباه تزوج أمه، فهو يقيم هنا معهما على أمل أن ينتقلوا فيما بعد إلى بلد أبيه، ولا يخلو الصغار من المكر، فقد عاملوه على أنه غريب أو أنه ليس في مستواهم، وليس له نفس حقوقهم، وإن كان كثير منهم لا يهتم بذلك ولا يحسب له حساباً، لكن الصبي شعر بذلك وتأثر بتصرفاتهم، ونقل ذلك إلى أبيه وأمه، اللذين لم يعد أمامهما اختيار أو حل، فلا يستطيعان الآن ترك هذا البلد الذي لا يعرفان غيره ويعملان فيه وقد استقر بهما المطاف، تلك التصرفات قد تتسبب في عقدة نفسية لابنهما الذي لم يرزقا بغيره وهو وحيدهما وكل أملهما في الحياة، لم يجدا غير حل مؤقت وقد يكون فيه مخرج من الأزمة وهو الانتقال إلى مسكن جديد في حي آخر لا يعرفهم فيه أحد، وبذلك يتخلصون من الموقف ببساطة وينتهي الأمر. وحتى بعد أن تم ذلك وكبر الصبي وانتقل إلى طور الشباب ووصل إلى مرحلة الجامعة، واجه إجراءات معقدة لأنه غريب لا يحمل الجنسية، فلابد من ضمانات ومبالغ ومصروفات كبيرة أعجزت الأسرة وكان هذا أهون من حالة التيه التي يعانيها الابن، خاصة وأنه لا يوجد حوله ولا معه واحد من المنتسبين لجنسية أبيه، ولا حتى في المراحل الدراسية، فكان وحيداً في كل مكان وكل موقف، لم يتعرض أحد من حوله لمثل ما تعرض له، الناس هنا كلهم يتحدثون لهجة واحدة وهو وإن كان يتحدث مثلهم، لكنه ليس منهم، فانتساب أمه اليهم لم يشفع عند أعراف الناس وعند القوانين، ولذلك لم يكن يعتزم الاستمرار في البقاء هنا، وما ان انتهى من دراسته الجامعية حتى اتخذ قراره الذي لا رجعة فيه رغم المعارضة الكبيرة له من أبيه وأمه وهو ابنهما الوحيد أصر على العودة إلى بلد أبيه الذي ما زال يحمل جنسيته، لعله هناك يتخلص من كل المشاكل ويشفى من تلك العقد النفسية والإجرائية التي يواجهها عند كل معاملة، خاصة أمام الجهات الرسمية. وعاد الشاب إلى بلد أبيه أو بالأحرى إلى بلده، البداية كانت مبشرة، يجد ترحاباً من كل من يلقاه، وخاصة من بقي من أقاربه، احتفلوا به وسعدوا بقدومه وشجعوه على قراره، لكن سعادته الكبرى أنه وجد نفسه بلا تعقيدات إضافية أو معاملة استثنائية، فهو مثله مثل كل المواطنين في الحقوق والواجبات، لكن اللهجة التي يتحدث بها غريبة، فما إن يسمعه أحد أو يعرف حقيقته يستنكر لماذا لا يتحدث مثل أبناء بلده، ولا يشفع له عندهم أنه نشأ وتربى وتعلم في الخارج، اعتبروه منسوباً إليهم أو يدعي ذلك، الغالبية العظمى لم تسترح للتعامل معه يتشككون فيه كأنه جاء من كوكب آخر أو من المخلوقات الفضائية، قد يضيع معظم وقته في التبرير لماذا يتحدث لهجة غير لهجة بلده، وفي كل مرة يفشل في إقناع محدثيه الذين يمطون شفاههم وينكرون عليه طريقة الكلام وهم لا يدركون أنه غير قادر على تغيير لسانه بعد كل تلك السنين الخوالي، وحتى بعد أن وجد عملاً في شركة واستقر فيها لم يعد قادراً على التعامل مع من حوله الذين يعاملونه كغريب أو مواطن من الدرجة الثانية في بلده من تلقاء أنفسهم بلا ذنب جنته يداه. عادت إليه حالة المعاناة النفسية التي تلازمه منذ نعومة أظفاره، وتصاحبه أينما حل أو ارتحل كأنها سبة في وجهه، فلا أبناء جنسية أمه تقبلوه ولا أبناء جنسية أبيه، هؤلاء وهؤلاء قسوا عليه وفرضوا عليه عقوبات العزلة والغربة، أصابه اليأس من الجميع وقرر أن يرحل هذه المرة إلى بلد ثالث لا ينتمي إليه أحد منهم عساه أن يجد فيه ضالته ولا يجد فيه التفرقة، فشد الرحال إلى دولة عربية ثالثة، مليئة بالجنسيات واللهجات، بيئة جيدة قد يجد نفسه فيها لأنه لا مشكلة أبداً، بل على العكس، فإن تعدد اللهجات لا يجعل أحداً يتوقف أمام شخصية المتحدث ولا يسأله عن جنسيته، فهذا السؤال ليس مهماً. وبعيداً عن الإجراءات التي تسري وتنطبق على الجميع، فقد عادت إليه نفس المشكلة الأولى بعدما عرف من معه في العمل والمسكن أنه لا يتحدث لهجة بلده فنبذه بنو جلدته واعتبروه لا يستحق أن ينتمي اليهم، أما الآخرون الذين يتحدث بمثل لسانهم فلم يقبلوه أيضاً لأنه يدعي الانتساب إليهم بالكلام وحده، وضاقت عليه الأرض بما رحبت وأصبح غريباً في كل مكان فيها على اتساعها أعيته الحيل واتعبه التفكير. الحل قد يكون في الهجرة من الأرض كلها إلى كوكب آخر.!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©