الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فيدريكو فلليني: وجدت نفسي ميتا

فيدريكو فلليني: وجدت نفسي ميتا
23 أغسطس 2012
بدأت الكاتبة والناقدة الاميركية شارلوت شاندلر حوارها مع المخرج الايطالي الكبير فيدريكو فلليني في ربيع عام 1980، ولم تتوقف سلسلة حواراتها المثيرة معه إلا بعد أن توقف قلبه عن النبض في شتاء عام 1993. ثلاثة عشر عاما رافقته وزوجته الجميلة جيوليتا والتي فارقت الحياة بعده بخمسة أشهر فقط، رافقتهما الكاتبة في رحلاتهما العديدة، وكثيرا ما كانت تزورهما في العاصمة الإيطالية روما. هنا نعيش بضعة لحظات خاصة مع كتاب “أنا فلليني”، الذي جاء بصيغة وصية، فهل تحمل هذه الوصية شيئا خاصا ومهماً واستثنائيا يمكن للجيل الجديد أن يستفيد منه؟ في الواقع لا نريد هنا التحدث عن هذا المخرج المتمرد في إطار توثيقي مستهلك، فقد كتب عن الرجل وعن حياته السينمائية في أرجاء العالم مجلدات وكتب ومقالات ودراسات يصعب حصرها. نود هنا الوقوف على فكر الرجل وتصوره الإبداعي للحياة والافلام والسينما على وجه الخصوص. كان فلليني يحمل وجهة نظر غريبة تجاه كل شيء، حتى بدا للبعض وكأنه قادم من كوكب ثان، وتجسيدا لذلك كان يردد دائما مقولات يحللها النقاد كل على طريقته ومن ذلك ما قاله: “أغوص في النفس الإنسانية وأبحث معها ومن أجلها، نحو أمل الخروج من المأزق والضياع وأحاول تحريرها من قيود الكبت والحرمان والقيود السياسية والاجتماعية التي تحوّل حياتنا الى جحيم، والمستفيد من هذه القيود الساسة والطبقة البرجوازية”. وقال أيضا “أكره الحرب كونها جريمة تبرر قتل الأبرياء”، وأيضا “الساسة ورجال الدين يحاولون استعبادنا، كل على طريقته الخاصة”. بداية صحفية من رحم سسلة حوارات شارلوت شاندر مع فلليني ولد كتاب يمكن اعتباره سيرة ذاتية لحياته الخاصة التي قد لا يعرف الكثيرون عنها شيئا، وهذا الكتاب الجميل الشائق في محتواه ظهر في مكتبات إيطاليا وفرنسا وألمانيا تحت عنوان جاذب “أنا فلليني”، وتعرف منه أنه ولد في 20/ 1/ 1920، في مدينة “ديميني” الإيطالية، وترعرع في ظل أمّه المتزمتة، وفي ظل تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، إذ كان أبوه كثير الأسفار التجارية. من ناحية ثانية سيطر على عالم صباه مهرجو السيرك والقصص المصوّرة التي كان يلتهمها التهاما على حد تعبيره. جرّب الرسم، لكنه، وهذا الأهم كان الضيف الدائم في دور السينما الصغيرة في بلدته لشدّة شغفه بالسينما والأفلام، ولكنه في كل الأحوال كان ساخرا من معظم الأشياء في الحياة، بل وسخر كثيرا من بعض المواضيع والأفكار التي كانت تطرحها بعض الافلام. ذهب فلليني الى روما عام 1938 لدراسة الصحافة حسبما وعد أمّه، ولكنه لم يدخل قاعات الجامعة، ويقول حول ذلك “وعدتها أن أسجّل في كلية الصحافة والاعلام، وهذا ما فعلته، ولكنني لم أعدها بحضور المحاضرات. كان يحلم بالعمل الصحفي، وكانت للأفلام الأميركية التي تتناول الصحفيين تأثير كبير في اختياره لهذه المهنة، وكما يقول “لقد ولّدت أفلام الصحافة الأميركية لدي فكرة خاطئة عن السلطة الرابعة والعمل الصحفي بشكل عام. ابتدأت العمل في صحيفة في روما رسّاما وكاتبا، ولم أجد فيه ما كنت أتصوره عن العمل الصحفي في الأفلام الأميركية، نساء وسيارات ومعاطف ترانشكوت فخمة، وكان الفيلم يسحرني إن كان بطله يرتدي هذا النوع من المعاطف الساحرة، ولكنني كصحفي بقيت فترة طويلة حتى استطعت شراء معطف ترانشكوت”. سيرك السينما عن طفولته وصباه، وهذا مهم ومؤثر في حياته السينمائية القادمة، يقول فلليني: “عندما كنت في السابعة أخذني والديّ الى السيرك، وقد أرهبني المهرجون، ولم أدرك للوهلة الأولى إن كانوا حيوانات أم أشباحا، ورغم ذلك المناخ المضبب لم اجدهم غريبين، وقد تولّد عندي شعور غريب بأنني سأحط رحالي هناك، ولازمني الحلم بالسيرك وأحسست أين مكاني ولم أكن أعلم أن السيرك بكل حركته وجنونه وإدهاشه سيكون مستقبلي ـ سيرك السينما، عرائس طفولتي هي من ذكرياتي الجادة ، كنت في التاسعة عندما بدأت أصنعها بنفسي وأقدمها للجمهور، من كارتون ورؤوس جبصية، كان لنا جار نحّات، أعجب بعرائسي وإمتدح قدراتي وشجّعني، ولا أثمن للانسان من التشجيع وبداء الاعجاب في الوجود”. يضيف فلليني “هذا الأمر شجّعني كثيرا، فكتبت تمثيليات في المدرسة، وقدّمت عروضا، ولعبت العديد من الأدوار، وأعتقد أن بذرة الإخراج قد بدأت تنمو في داخلي منذ ذلك الوقت، حيث كنت أوجّه الممثلين معي كيف يؤدون أدوارهم، وكيف يتقمصون شخصيات التمثيلية”. “نيمو الصغير” شخصية رسوم متحركة كوميدية أميركية، كانت تمثل حلم الطفل فلليني وهو في الخامسة من عمره: “كان صغيرا مثلي، وكان قادرا على القيام بأشياء ساحرة عجيبة لا تصدّق، عشقت تلك الرسوم، وكنت أحلم برسمها، وهذا ما قوّى عزيمتي على الرسم، لكن هذا لم يعجب والدي، حيث إنّه قال لي ذات مرّة “الرسم من شغل البنات”. الى جانب مثل هذه الاهتمامات الصغيرة كانت السينما الأكبر من حياته، لم يعرض فيلم واحد في قريته مهما كانت نوعيته لم يشاهده، وكان الفتى مهوساً بالأفلام الكوميدية البوليسية وأفلام الصحافة ومعاطف الترانكشوت الثمينة وكانت رمزا للبطولة عنده، فقد لعبت مثل تلك الافلام دورا مهما في تشكيل وصقل ذائقته السينمائية، بل وأثّرت في مجرى حياته ومستقبله. فلليني وزوجته تعرف فلليني إلى زوجته جيولينا عام 1942 عندما عيّن للتمثيل في بعض التمثيليات الاذاعية التي كتبها، وعن أول لقائه زوجته يكتب: “دعوتها هاتفيا لتناول الطعام في مطعم فاخر ـ وقد استغربت كما أخبرتني بعدئذ ـ فهي كطالبة لم يدعها أحد لأكثر من فنجان قهوة، وأنها احتاطت لبعض الاحتمالات أو المفاجآت فأخذت معها نقودا، وبعد أشهر قليلة تزوجنا. كلانا كان في بداية العشرين، وهذه ميّزة خاصة، فعندما يرتبط الزوجان مبكرا، يترعرعان ويكبران معا، ويصبحان ليس مجرد عاشقين أو زوجين، بل كأخ وأخت، وكنت لها أحياناً كالأب، وكانت هي لي كالأم أيضا، وتلك مشاعر جميلة وشديدة الخصوصية قلّما يحظى بها زوجان”. يصف فلليني زوجته الممثلة أيضا وصفا غريبا، لكنه وصف لا يخلو من الرومانسية والخيال الجميل، فمثلا يقول عنها “عندما أتكلم عنها كممثلة أقع في مشاكل، إذ لا أستطيع التحدث عنها كجيوليتا الممثلة الرصينة دون أن تكون الشخص الخاص في رأسي، لم تلهمني فقط في بعض أفلامي مثل “لا سترادا” وفيلم “ليالي كابريا”، فهي أيضا الجنية الصغيرة الحلوة في حياتي، وسوية دخلنا “الأرض الجديدة” وصارت حياتي مطلقة، وربما دونها لم أكتشف هذه الارض الجديدة السينما المنفتحة على الحياة”. في وصف فلليني لزوجته نوع جديد من السرد والبوح الجميل، بل لعله وصف سينمائي من عصر النبلاء فتعال لنقرأ ماذا قال عنها في جزء خاص من حواراته مع الناقدة الاميركية شارلوت شاندلر: “كلانا كان شابّا، بلا خبرة كبيرة في معترك الحياة، ربما كنت الأكثر منها خبرة، فقد ترعرت هي في جو كلاسيكي محافظ جدا، كانت رقيقة وبحاجة دائما الى حمايتي، لطيفة جدا، بريئة وطيبة القلب ومليئة بالثقة، كانت دائما تنظر اليّ ليس لأنني كنت أطول منها، بل لأنها قد تأثرت بي وتحتاج الى حمايتي، ويبدو أنني لم أكن قد أثّرت على أحد مثلها، وأنني أحببت نفسي أيضا في صورتي المعكوسة في مرآة عينيها، والحق أن عينيها كبيرتان، ووجهها وجه مهرّج، وهي امرأة ناعمة صغيرة، ذات مرة سألتني لم أنت قاس معي؟ أنت مع الناس ألطف، ولم أكن أعرف ذلك، ولكن ذلك كان عين الصواب”. جيوليتا في نظر فلليني هي الأنموذج المثالي للمرأة الايطالية التي تصنع الزواج والسعادة في كفتي ميزان متعادلتين، وفي الوقت ذاته كانت العين الناقدة لأعماله السينمائية، وغالبا ما كانت تخالفة الرأي حول مضمون وحوار بعض الأفلام، التي لم تلق النجاح المنشود، كانت تحاول إبداء الرأي أو التغيير في الفكر المطروح وطريقة رسم ومعالجة بعض الشخصيات ،خاصة النسائية منها، لكنها كانت تصطدم بعناد زوجها المخرج، ولما كان يفشل أحد أفلامه، كانت تبتعد حتى لا تقدم لوما أو عتابا، وهذه سمة من سمات المرأة الودودة التي لا نجدها كثيرا في أيامنا هذه. ..إلى السينما في السرد التاريخي، احتل الأميركيون روما عام 1944، وكانت خالية تقريبا من الطعام والسوق السوداء، كان سكّانها في حالة يرثى لها، فكثيرون بلا طعام ومأوى وأحلام، ووسط هذا المناخ الضبابي والمظلل بسوداوية واضحة على المكان وساكنيه، إفتتح فلليني بالتعاون مع بعض أصدقائه “حانوتا لرسم الكاريكاتور”، أطلقوا عليه اسم “الوجه اللطيف”، ومن الغرابة أن يكون عدد كبير من الجنود الأميركيين زبائن لحانوت فلليني، الذي كان يتفنن في طريقة رسم الوجوه على طريقة فن الكاريكاتور، كانت تجارة لا بأس بها، ويقول: “الأميركيون كما عرفتهم في الأفلام، فما أن يربحوا الحرب حتى يشعرون بأنهم أغنياء، فيصرفون دون حساب”. يضيف في ذات السياق “ذات مرة دخل حانوتي رجل نحيف رثّ الهيئة، لا يمكن لهذا المخلوق أن يريد رسم نفسه كاريكاتوريا، في الواقع كان الرجل هو روبيرتو روزليني، وقال بأنه يريد التحدث معي، لم أكن أعلم في حينه أن هذا الرجل الرّث الثياب قادم لكي يغير مجرى حياتي، ليقدم لي ما أتمناه قبل أن أعرف أصلا ما الذي أتمناه، رجاني روزليني أن أشاركه في كتابة سيناريو فيلم والذي حمل بعدئذ عنوان “روما مدينة منفتحة”، وقال لي إن هذا العمل وراءه دوقة ثرية جدا، وهو قد بدأ في كتابته، ولكنه بحاجة اليّ، فيما تبين لي مع الوقت أنّه أراد الوصول عن طريقي الى الممثل الكوميدي المشهور آنذاك ألدو فابريشي، هذه كانت بدايتي الحقيقية مع السينما، كانت رحلاتي وجولاتي مع روزليني المفتاح، واكتشفت ما أصلح له، إخراج الأفلام، وشجعني هو على ذلك، وقبلت العمل كمساعد مخرج في هذا الفيلم، وصرت بحسب تصنيف النقاد من الواقعيين الجدد، إذ بعد أن دمّرت مدينة السينما ـ ستوديو سينيستا ـ لم يبق أمامنا سوى في الأماكن الطبيعية للتصوير تحت أضواء الشمس”. ويرى فلليني أن عالم السينما يشبه تماما عالم السيرك، فلا بد أن تكون هناك علاقة شبه عائلية بين الجميع حتى يتم إنجاز عمل ذات قيمة، يقول عن طريقته في بناء وصناعة الفيلم “العمل في الفيلم يستنزفني كليا، وقتي وأفكاري وقواي، ولكنني أحسّ بأنني حر أكثر من أي وقت مضى، أشعر وأنا أبني الفيلم بأنني أشعر بنشوة وصحة، حتى وإن لم أخلد الى النوم، كل ما يسعدني في هذه الحياة يتلخص في إنجاز صورة مصقولة جيدة، أفلامي ليست كالساعات السويسرية، فهذا ينافي طبيعتي، لذا فإن سيناريوهاتي ليست كسيناريوهات “هيتشكوك” الذي لا يخطط لكل حرف وكلمة وجملة فحسب، بل ولكل انطباع على الوجه، إنه يرى الفيلم في دماغه قبل أن يصوّره، صحيح أنني عندما أبدأ التصوير أكون عارفا تماما ما أريد، واكون قد حضرت مقدما وباعتناء كل شيء، وخططت لكل شيء، ولكني عند التصوير ودوران الكاميرا اضع كل هذا جانبا، مثلي مثل الورقة المكتوبة، جانب مكتوب وجانب أبيض، وعند التصوير الفعلي يكون الجانب الأبيض عندي هو الأهم”. مع الممثلين للمخرج فلليني طريقة خاصة في اختيار ممثلي وممثلات أفلامه، فالأدوار تشغل بحسب النماذج، وعن ذلك يقول: “ليس المهم عندي إن كان الأنموذج محترفا أو هاوياً، يتكلم الإيطالية او لا يتكلمها، أحيانا أطلب من الممثل غير الإيطالي أن يعدّ وبلغته الاصلية أرقاما عدّا تنازليا، وأنظّم ما أريد بعدئذ في عملية الدبلجة، والخبرة غير مهمة عندي، فأحيانا تكون الخبرة مستهلكة ولا تقود الى الاستسهال في الأداء وميكانيكية التعبير، فأنا أوصل الممثل الى أن يرتاح ويأخذ حريته في التعبير، وعلى المتردد الخائف أن ينسى خوفه وتردده، وعلى المحترف المتمكن أن ينسى تقنيته، فالعمل مع المحترفين غالبا ما يكون أصعب، لأنهم تعلموا الدرس الخاطئ وانغرس عميقا في دواخلهم، يهمني كمخرج أن أوصل الممثل حتى يجد حقيقة الشخص الذي سيتقمصه وليس حقيقته هو، وهذا خير من ابدع فيه الممثلة السويدية “أنيتا أكيرك” في فيلم “الحياة الحلوة”، كذلك زوجتي الممثلة جيوليتا في فيلمي “ليالي كبريا” و” ثمانية ونصف”. مواضيع أفلامه يستمد افكارها من الحياة، ومن اليومي المعيش في بعض الافلام الخفيفة، ويوضح: “أحيانا حينما أشرع في التخطيط لفكرة فيلم جديد، أبدأ بالعودة الى هوايتي الجميلة في رسم الوجوه، حيث أنصب لوحة “السبورة” وأبدأ برسم وجوه، صور وجوه، كي أثير خيالي وأحفزه بطريقة فانتازية، عندها تتضح ملامح الوجوه وتتضح معها بسرعة شخصيات الفيلم، وما أن أضعها على الورق حتى أتعرف إلى أشياء كثيرة عنها، كنت من قبل أجهلها. أما الخطوة الثانية فأقوم بالبحث عن الفيلم، وهذا أول جزء جوهري في العملية، ولا أفقد التوازن أبدا، فالفيلم سيأتي لا محالة، سيطرق عليّ الباب قريبا كل فكرة هي باب، تقودك الى باحة الدّار “الحوش” قد تسحب ذيلا وإذا به فيل ضخم، المهم أن تبقى واضحا مصرّا على حصد النتيجة التي تريدها”. ..ومع الجمهور فلليني في طريقته وافكاره ومواضيعه وطريقته في تناولها، يذكرنا بالمخرج المصري العالمي الراحل يوسف شاهين، الذي كان في العديد من أفلامه على مفترق طرق مع الجمهور العادي البسيط، وكأن هذه الافلام صنعت للنخبة بحسب ما يرى العامة. أما فلليني فقد ظل حتى أواخر حياته يعاني الإشكالية ذاتها أي علاقة أفلامه بالجمهور البسيط . يقول في ذلك: “كثيرا ما يسألني سائقو التاكسي، لم لا تضع أفلاما نفهمها نحن أيضا؟ وأجيبهم بأنني أقص الحقيقة، وهي على الدوام معقدة ومرفوضة، بينما الكذب يدركه الجميع، ولا أريد أن أوضّح كل شيء وأقدمها طبخة جاهزة في نهاية الفيلم. أنا مؤمن بمعتقداتي وفنّي، فإن تكون أسطورة فهذا ليس في مصلحة المخرج، بل عائقا في طريقه، المرء يصبح أسطورة تدريجيا، كما يشيخ تدريجيا، ليس في يوم ولا في سنة، والمرء لا يحس بذلك عندما يحدث، ربما لا يعرف المخرج بعد أنّه يصور فيلمه الأخير لأن الآخرين يريدون ان يحيلوه على التقاعد قبل أوانه، وأنا أؤكد دائما بأنني لا أريد إيصال رسالة من افلامي، ومن حقّ المخرج الشهير أن يخرج مرّة فيلما أقل نجاحا، وربما فيلماً فاشلا، فالفشل أحيانا يكون صورة أخرى من النجاح”. صانع النجوم مع كل الاتهامات الموجهة له من النقاد والجمهور الى الحد الذي وصف بأنه يصنع الأفلام لنفسه، فقد عرف فلليني بأنه صانع النجوم ومنهم على وجه التحديد الممثلة الايطالية “أنّا ماكناني”، ويقول عن لقائه الأول بها “تعرفت عليها ما أن دخلت عالم السينما، إذ كانت تصاحب روبيرتو روزليني، ولا عجب أن تجاهلتني في أول لقائها، فمن أكون أنا النحيف الفقير المبتدئ أمام زير النساء روبيرتينو؟ أنّا ماكناني كانت امرأة فوق العادة، بدأت حياتها مغنّية، وكانت على استعداد لعمل أي شيء كي تبقى في دائرة الضوء ومحط اهتمام الآخرين والأثرياء، ولكنها اختتمت حياتها بآخر دور مثلته في فيلم “روما” الذي أخرجته عام 1972، كنت أعرف انها مريضة، ولكننا لم نتحدث عن ذلك، كان يكفيني أن أصنع منها نجمة سينمائية وقد كانت”. وعن الممثل مارسيللو ماستروباني يقول فلليني: “أول فيلم أدخلته فيه هو “الحياة الحلوة”، وأنا في الواقع أعتبره من أنجح وأروع أفلامي، كان لمارسيللو اسم في عالم التمثيل في ايطاليا، درس مع زوجتي في نفس الجامعة، ومثّلا سوية على خشبة المسرح الجامعي، كنت أعرف بأنّه ممثل جيد، وكنت أود العمل معه وتطوير وصقل مهاراته، كان الفتى مثل الانسان الأفعى، يقدر على كل شيء، ويتجاوب مع رغباتي بشكل كامل، ولهذا نجح في أن يكون من أخطر الممثلين الايطاليين وحتى على المستوى العالمي، بعد أن نجح أيما نجاح في أداء دوره في فيلم “كينكر وفرد” وهو فيلم أميركي قديم من عهد سينما الثلاثينيات، وأعدت إخراجه بوجه جديد، وكنت أهاجم بعض الشيء من خلاله التلفزيون بسطحيته المعهودة، وقد عرض الفيلم عام 1985 في نيويورك، ونلت عنه جائزة من مركز لينكولن الاجتماعي. بعد كل ذلك اعتبر النقاد الممثل ماستروباني من أفضل 10 ممثلين على مستوى العالم، بعد أن قدم عشرات الافلام في أوروبا، لكنه عرف بشكل أفضل وأوسع في السينما الاميركية من خلال استفادته الكبيرة من المخرج فلليني، وربما يعتبر فيلم “لا دولشي فيتا” واحدا من أروع أفلامه”. بالعودة قليلا الى النجمة السويدية أنيتا إيكبرك، نجد أن فلليني يتخيلها مثل امرأة تشبه كاريكاتور فينوس، ولهذا أسند إليها دور “سيلفيا” في فيلم “الحياة الحلوة”، أمام مارسيللو ماستروباني، وحقق الفيلم بهما أرباحا خيالية رغم أنه لم يعجب بعض النقاد المتزمتين، لدرجة جعلته هائما في عالم آخر، وعن هذه اللحظة الخاصة يقول فلليني “لا احد منّا يرى العالم على حقيقته. لقد تأثرت جدا عندما وجدت نفسي ميتا وأنا لا أدري، كان على باب الكنيسة إعلان محاط بالأسود يحمل اسمي “صلّوا من أجل إنقاذ روح المخطئ علنا فلليني” لقد اقشعر بدني، ألهذا الحدّ كان الفيلم سيئا، أليس من حق المخرج ان يخرج مرّة فيلما أقل نجاحا؟”. «الحياة الحلوة».. هجاء الحداثة لا يمكن الحديث عن المخرج فيدريكو فلليني من دون التوقف عند رائعته الساحرة فيلم “الحياة الحلوة”، ذلك العمل المنفتح جدا على الحياة، والذي تعامل معها بخصوصية شديدة، فهو يظل أحد مفاتيح ثقافة وخيال القرن العشرين، وعن ذلك يقول فيلليني: “بانتظام كنت أضلل الأصدقاء والصحفيين بالقول إن روما التي صوّرت في “الحياة الحلوة”، هي مدينة باطنية، وأن عنوان الفيلم ليس له أي غاية أخلاقية أو هجائية، فالعنوان يعني ببساطة أنّه بالرغم من كل شئ مؤلم وعبثي فإن للحياة عذوبتها وحلاوتها العميقة التي لا يمكن إنكارها. لقد أظهرت في الفيلم بعضا من طقوس العربدة عند الطبقة البرجوازية، لكن الفيلم في الواقع أكبر من ذلك بكثير برغم ما أحدثه من اشكاليات وجدل واسع على المستوى النقدي، فهو يصوّر تخوم مرحلة خاصة في الحياة الايطالية لمدة 3 ساعات، أمتعت الجمهور في أنحاء العالم وحققت لفلليني شهرة واسعة بعد أن نجح في إرساء قواعد للغة التمويه السياسي من خلال السينما”. ويؤكد أندريه مينوز أستاذ تاريخ السينما في جامعة “لا سابينزا دي روما” ومؤلف كتاب “رحلة الى نهاية ايطاليا” أن فيدريكو فلليني سياسي من الطراز الاول، وكان من أكثر المخرجين الايطاليين إيغالا في السياسة، لأنه كان يعمل على تحويل الخطاب السياسي الى عالم الحلم والخيال دون أن يتحدث مباشرة عن السياسة، وخير مثال على ذلك فيلمه الرائع “الحياة الحلوة” الذي أضحى بعد عرضه رمزا للجمال والموضة، ولكن أعتبر ضمنا واحدا من الافلام السياسية لأنه كان بمثابة ورقة اتهام وتنديد ضد الحداثة في كل شيء..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©