الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اخضرار المسرح الإماراتي

اخضرار المسرح الإماراتي
23 أغسطس 2012
ثمة من يرى أن النص المسرحي المعاصر يجب أن ينبع من الواقع المعاش، وهذا صحيح، وثمة من يرى بأن توظيف التراث لابد أن يكون من خلال رؤية متناغمة مع الماضي والحاضر والمستقبل هو المسرح المعاصر، وهذا صحيح أيضاً، وثمة من يؤكد بأن الاتكاء على التاريخ وإسقاط حوادثه على الحاضر يفيد المتلقي في معرفة موقعه وما يدور حوله وهذا صحيح بلا شك، وهناك من يرى بأن أسلوب التجريب هو المنهج الناجح الذي يوائم هذا العصر، وهذا الرأي لا يختلف عليه أحد. السؤال الملحاح: أين يقع المسرح الإماراتي من ذلك؟! وهل استطاع أن يقدم رؤيته من خلال نصوص مسرحية بجودة سواء أكان ذلك عبر العلاقة مع التراث أم من خلال محاولة إيجاد التناغم بين الفن والواقع أم من خلال التجربة؟ أعتقد بأن المبالغة في توظيف التراث من أجل التراث في المسرح يؤخر تقدم المسرح، وأعتقد بأن الدوران في فلك بعض القضايا التراثية غير المنيرة أو الذابلة يسهم في تراجع المسرح، كما أعتقد بأن المبالغة في الحداثة وتحويل التجريب إلى تخريب يسهم في تراجع المسرح أيضاً، أما عن موقع المسرح الإماراتي وتوجهه فإنه أدرك ما يجب أن يقدم، فنهل من الواقع ووظف التراث من أجل الحاضر والمستقبل وأسقط بعض الشخصيات والحوادث التاريخية على الواقع واعتمد التجريب في بعض المسرحيات.. كل ذلك أسهم في اخضرار المسرح الإماراتي وقدرته على الحياة. «التريللا» وإذا كنت سأقارب مجموعة من المسرحيات الإماراتية، فإنني اعترف بأن كل مسرحية من هذه المسرحيات تحتاج إلى دراسة مفصلة ولكنني اخترت محوراً واحداً لأتمكن من الإنارة على المسرحيات كلها وهو: معماريّة النص المسرحي الجديد: قراءة في نصوص جائزة الشارقة للتأليف المسرحي 2010: ? مسرحية التريلا تأليف إسماعيل عبد الله (النص الفائز بالمركز الأول) منذ البداية يكسر المؤلف الجدار الرابع حيث يبدأ العرض من الصالة، وكأن المقدمة الإثارية تنطلق على إيقاعات طبل المسحراتي والنداء المعروف: “قوم اصح يا نايم واذكر ربك الدايم”. وعندما تبدأ الأحداث يلتفت الدارس إلى مجموعة أمور تنهض بالنص المسرحي أذكر أهمها: الأول تمايز الشخصيات وتفردها في السمات والتوجهات وسندلل على ذلك لاحقاً. والثاني: وعي الكاتب للزمكانية بشكل واضح. والثالث: الاهتمام بالإشارات الإخراجية لا لمصادرة المخرج ولكن لتعميق مسارات الشخصية ودلالات الفعل المسرحي. والرابع: عدم الاهتمام بالممهدات والتمهيدات المسرحية حيث يدخل إلى الحدث مباشرة وبقوة. “جمعان: المكتوب وينه.. وين المكتوب اللي عطيتج إياه من ثلاث أيام.. وينه؟! غريبة: (تخرج المظروف من جيبها) هاذوه (ترفعه بيدها)”. ويأتي الحوار في المسرحية ليخدم الحدث فهو مهاد له وعامل فاعل في تفجيره. لقد استطاع المؤلف أن يجعل الحوار في المسرحية ملائماً للشخصيات من حيث البيئة والثقافة والزمان وأكد على الاتجاه الكوميدي في النص عبر الحوار الدافئ المليء بالمفارقات والمفعم بالدلالات، كما طوع الثيمة التي اعتمدها لتكون موظفة بشكل جلي لخدمة الأحداث والأفعال: “عبود لا لا لا توقعون: قوم اصح يا نايم بياع ذمه اتوليه شو قوم اصح يا نايم لا اتبه بتفرق مقهور قوم اصح يا نايم واذكر ربك الدايم. خلفان: منو هذا اللي يزاعج وحاشر البقعة. جمعان: ما عليك يا أبو الروس شوف شغلك هذا عبود عنكبوت تراه عرس أمه اليوم عشان جي يالس يدق”. وعلى الرغم من أن المؤلف كان بإمكانه تكثيف الحوار أكثر، إلا أنه أصر أن يقدم الشخصية على سجيتها لكي تقنع المتلقي ويكرس المفارقات في السلوك والفهم والتوجه. وإذا كان (جمعان) الشخصية الرئيسة في النص فإن بقية الشخصيات لم تبتعد عن البطولة باستثناء غريبة الذي كان دورها أقل عمقاً من بقية الشخصيات. صحيح بأن المؤلف لم يلم بجوانب الشخصية النفسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية إلخ.. إلا أن ذلك يسجل له لأن الكاتب الواعي يدرك بأنه ليس ضرورياً أن يلم بكل هذه الجوانب على الإطلاق ويكفي أن يأخذ من الشخصية ما يفيد فكرته وما يدعم هدفه الأعلى، لأن النص المسرحي لا يمكن أن يلم بجوانب الشخصية كلها، ويكفي أن أذكر على سبيل المثال لا الحصر شخصية عبود التي رسمت بدقة وبدت محببة وفاعلة مع أنها مثلت دورين الأول الراوي والثاني الشخصية الفاعلة والمنفعلة بالأحداث. لقد خلدت شخصية هملت، ولير، ورميو، لشكسبير لأن الأخير استطاع أن يستوفي فيها جانبا واحداً من حياة الشخصية. المهم أن المؤلف كتب نصاً مجوداً يمتلك الشروط الفنية ويستطيع الحصول على جواز سفر ليكون عرضاً له قيمته على الخشبة؛ إذ يمكن أن نضيف إلى الوجه الكوميدي والفكرة المعاصرة الطروحات ذات الدلالات والمرموزات التي تهدف إلى تعميق الوعي في اختيار من يمثل الشعب ويكون قادراً على تحمل المسؤوليات الملقاة عليه، وما انتصار جمعان في نهاية المسرحية سوى موقف ذكاء اختاره المؤلف لإيصال رسالة مفادها: إذا استلم منصباً من هو غير مؤهل له فلسوف يظلم الناس بجهله ولسوف يهتم بسفاسف الأمور ويهمل الهدف الذي وجد من أجله في منصبه. لعبة البداية ? مسرحية “لعبة البداية” تأليف محسن سليمان (النص الفائز بالمركز الثاني) في هذه المسرحية لا يدخل المؤلف بالحدث فوراً وإنما يمهد له عبر تعريف غير مباشر بالشخصيات. وما يميز الحوار أنه قصير ومكثف، إلا أنه قصر عن تفجير الحدث في بعض الأحيان بسبب اهتمام المؤلف بمحاور الحكاية بشكل عام. “شاه بندر: يشرفنا التعاون معك. سالم: الحاجيات يا إسماعيل. إسماعيل: سمعاً وطاعة.. احمل عن سيدك يا فاتن. سالم: لا..لا.. دعم فاتن احملها أنت. تاجرى: تفضل هذه هدايا قيمة انتقيتها لك. سالم: نحن نطلب رضا الرعية”. والجميل في المسرحية هو هذا التكالب على السلطة والأسلوب المخادع الذي اتبعه سالم للوصول إليها، وقد كان بالإمكان تقوية الصراع بين سالم ووصيفة، إلا أن المؤلف رأى أن يبقى الصراع على هذه الصورة وقد أفلح المؤلف في النهاية التي اعتمدها حيث انتهت من جانب وابتدأت من جانب آخر فهي معلقة ومفتوحة في آن معاً كما وفق المؤلف في رسم شخصيتي سالم وإسماعيل حيث أبرز سماتها الداخلية والخارجية. وما يمكن الإشارة إليه هو أن ننعم النظر في الأغاني أو الأشعار التي ترد داخل المسرحية إذ لابد أن تكون موقعة من جهة وأن يكون موضوعها من صلب الحدث وإذا كان المؤلف استطاع أن يزج بعض الأشعار في الحدث إلا أنها لم ترق بالإيقاع إلى المستوى المطلوب وأضرب مثالاً على ذلك: جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الفصل في الأدرس لم يكن قصرك حلماً في الهوى أو فرصة معدما مفلس قل للفقر أيامك من عما يغدو سالم على ما رسما زمجر ومجد بين الثرا وثنى كما يكون الكي وشما عشت حياً قد حل الروض هنا رويت الظمآن من ماء السما ثمة رأي يؤكد عليه الدارسون في المسرح وهو أنه لا بد أن تكون شخصية الراوي شخصية فاعلة في النص المسرحي أي تشارك في الحوار وبناء الأحداث للوصول إلى الذروة (العقدة) لكن المنادي في هذه المسرحية كان خارجياً لم يتفاعل مع الأحداث ولم يكن فاعلاً. إن تجربة محسن سليمان في مسرحية (لعبة البداية) تجربة جديرة بالدراسة لأنها مبشرة وتستحق الاهتمام. الطوفان ? مسرحية طوفان تأليف حميد فارس (النص الفائز بالمركز الثالث) يسعى المؤلف إلى طرح أسئلته الاستفزازية من بداية المسرحية، حيث تتمحور المقدمة الإثارية حول مسالك متعددة، ويتطور ذلك إلى طرح حدث مجهول لم يكشف عنه الحوار لكنه يكشف عن شخصيات مأزومة: “سيف: ما في غيره كاسر ظهري يا روية. روية: اللي ظهره دقل ما ينكسر يا نواخذا سيف. سيف: رقاد الليل تحنيه وتكسره الأحلام. روية: بعدها لين الحين تراودك الأحلام؟”. وسرعان ما يسعى المؤلف إلى الإفصاح عن هذه الشخصيات عبر الحوار المكثف ذي الدلالات الفائضة والفعل المسرحي الذي ينبي عن أمور غير مريحة. “روية: والله واقفة جدامك ما يحق لها توطي رأسها ع الفراش وهو خالي من الهم؟ سيف: بدها تزيح الهم، وبدها تبقى مثل ما هيه. روية: كيف وشاهين مذوقنها المر؟ ومب ذايقه طعم الراحة وياه”. إن المؤلف مصر على اعتماد الدراما أسلوباً مهماً وضرورياً في النص، ولهذا نلحظ تناغماً واضحاً ما بين توتر الحدث والدراما التي تنهض به، مع الأخذ بعين الاعتبار تطور الشخصيات ونموها إضافة إلى القدرة على الانتقاء في بناء الشخصية بما يتلاءم مع الحدث والفكرة. لقد أدرك المؤلف بأن الجوهر الحقيقي لبناء الشخصيات هو إيجاد صيغة من التناغم والتلاؤم مع موضوع المسرحية ومع الحدث دون الوقوع في مطب التفاصيل ليبعد النص عن الثرثرة والملل والحشو. في هذه المسرحية يسيطر الفعل المسرحي وهذه إيجابية لأنها تكرس الدراما وتأخذ الشخصية حقها بعيداً عن الاستطالات ويقربها من فاعلية الحدث، وهذا ما فعله آرتو وبيكت وأدامون وما يسجل لهذه المسرحية النهاية المفتوحة التي أكدت الهدف الأعلى للنص حيث أراد المؤلف أن يقول: (الألم في الحياة قائم والظالم موجود لكن مجابهة ذلك والصمود ضرورة حياتية من أجل العيش الكريم). شهيد التين ? مسرحية “شهيد التين” تأليف عبد الله صالح (النص فائز بالمركز الرابع) يدخل المؤلف بالحدث مباشرة ليشد المشاهد إلى الخشبة، وما يسجل لهذا النص فكرته القافزة المميزة فقد اقتنص الكاتب فكرة جديدة وإن حدثت فهي نادرة، ولم يكتف بذلك، بل عمل على معالجتها بأسلوب حذر بحيث أنه لا يريد أن يسيء إلى الشهيد والشهادة في الوقت الذي يهدف إلى إدانة من يستغلون بطولات الآخرين من أجل شهرتهم وتدعيم منصبهم والوصول إلى أوسمة التبجيل والافتخار بما ليس لهم به يد. ومن مميزات هذا النص الحوار الرشيق وعدم الوقوع في الحوار السردي الإنشائي حيث نجده وبفنية واضحة يحول السرد إلى فعل مسرحي باعتبار أن المسرح لا يتقبل السرد: “الصحفي: طيب أبو الشهيد.. خبرني أكثر كيف هيأت ابنك للشهادة؟ (مؤثر موسيقي.. تظلم الساحة.. مشهد فلاش باك – تضاء على إثره ساحة في ليلة تسبق ذهاب مبروك إلى الجيش.. يدخل مبروك من إحدى الغرف وهو يحمل صينية ويأكل متأففاً...)”. ومن جانب آخر رسم المؤلف شخصياته رسماً قائماً على مبدأ السببية بمعنى آخر إن الشخصيات تطورت ونمت بناء على واقع وأسباب، ولهذا جاء حزنها وتفاؤلها وغضبها وحلمها مبنياً على مسوغات منطقية مقنعة، وهي ليست مجردة وليست دمى بل هي من لحم ودم تحمل فلسفتها وزادها الفكري الذي يرتبط بجانب من جوانب الحياة دون إغفال للفنيات التي تشارك الواقع في إظهار سمات الشخصية. وما يحسب للمؤلف التركيز على الجانب الإنساني عند بعضها وضياع البعض الآخر بين المصلحة الشخصية والأنانية وبين الحب الذي هو أهم أعمدة الجانب الإنساني. وحتى يميز المؤلف النص فقد جهد - كما أعتقد - ليقدم لنا نهاية إشكالية تثير جدلاً واسعاً ولكنها تبقى نهاية استفزازية خلاّقة. إذ عندما عاد مبروك الذي كان بعين أهل القرية شهيداً وبارك الوالي وأهل القرية هذه الشهادة وتأملوا بمستقبل مزهر للقرية هللت زمزم (الأم) لعودة ابنها بينما رفض الأب هذه العودة وتمنى ولده مبروك أن يبقى شهيداً. لقد رتب المؤلف أحداث نصه المسرحي بحنكة ودراية ولم يكتف بذلك بل عمل على تخليصه من التكرار والابتذال. “رجب: مبروك لازم يبقى في عين الكل شهيد.. ما لازم يرجع لا.. مبروك مات بلغم.. لا.. مات بآر بي جي..لا لا.. مات بفوهة مدفع من الكبار.. مبروك هو الوحيد اللي صار شهيد ولازم يتم جذه.. هذا مب أي شهيد لا.. هذا شهيد التين يا زمزم.. شهيد التين. (يضحك بتصاعدية.. بينما الأم تبكي حرقة وهو يكرر جملته الأخيرة.. مؤثر موسيقي مناسب يمازج بين الضحكة والبكاء... إظلام تدريجي”. الطين ? مسرحية “الطين” تأليف محمد صالح محمد (النص فائز بالمركز الخامس) تلعب مسرحية الطين لعبة الخطف خلفاً، وهي لا تكتفي بذلك بل تعتمد السرد الحواري الطويل دون الالتفات إلى ضرورة التجديد والمفاجآت على الخشبة. لقد أثبت الفن المسرحي بأن لغة العرض لا بد وأن تستند على ممهدات اجتماعية واقتصادية وإنسانية، وأحياناً تجارية لكي تستطيع لغة العرض أن تحافظ على اخضرارها، وإذا كان النص المسرحي أساس لغة العرض فإن تأطير السرد بحوارية لا تقطعها مفاجآت تشد القارئ يؤثر على النص المسرحي وعلى العرض. إن الأب الذي لم يوفق في زواجه بسبب الاختلاف بينه وبين زوجته يفاجأ بتكرار الحدث مع ابنته التي لم تتزوج وتطمح إلى الزواج وإلى أن تكون مؤثرة في مجتمعها، وهذا لا يتحقق إلا إذا فكرت بالخروج عن طاعة الأب الذي يتمسك ببيت أجداده كما يتمسك بالتقاليد. “ شفو: أنا ما بيلسلك في هذا البيت دقيقة واحدة. الأب: نفاد سيرة أمج.. تراني قايلج الحب يطلع على بذره..أمج ما همها غير البيزات. شفو: ذبحتني بيزات.. بيزات.. إنت من وين لك بيزات حتى لو عندك بيزات شو بتسوي بها.. بتموت بتوديها وياك. الأب: لا يا بنتي لا.. ما بوديها وياي.. بخليها لج.. لبنتي.. أن أيمع بيزات لبنتي.. الحبيبتي لا تفرطين في حقك.. كلهم طمعانيين، بيت أبوج هذا ويتكرر هذا الحوار الإنساني الجميل، ولكن ما ينقصه في رأيي إدخال بعض المفاجآت لكسر الملل والارتقاء بالحدث طالما إن نمو الحدث بدا غير متسارع. لقد تحدثت في مقالة كتبتها عن دور المسرح الحياتي وأكدت بأن المسرح يجب أن يجمع بين الخبز والحلوى. وحتى يتحقق ذلك فإن الضرورة تقتضي أن يضم المسرح ما في الحياة من ألم وحزن وفرح وطموح وأمل ونشوز وسعادة وعقد و..و..إلخ. إن من يقرأ نص الطين يصل إلى نتيجة مفادها: إن وراء هذا النص كاتب مسرحي مبشر، وإن مثل هذه الفنيات التي ذكرتها يمكن تلافيها في نصوص أخرى. وبناء على ذلك فإنني أقول: إن هذا النص يحاور الدواخل النفسية والمشاعر العامرة بالأمل كما يبرز قدرة الإنسان على الدفاع عن قناعاته وآرائه التي يتمسك بها: “ شفو: إذا إنت ما بتبيع.. أنا ببيع. الأب: بيعي.. بيعي.. بس بعد ما أموت.. وأنا هي ما بخليج يا شفو.. ما بخليج اذبحيني وبيعي”. وإذا كانت الحكاية هي الإطار الذي ندرك عن طريقه الحدث الدرامي ونحس به، فإنه لابد من التأكيد على أن الحركة الداخلية للأحداث (البناء الداخلي والترتيب) تشكل الحبكة التي تلعب دوراً كبيراً في شد المتلقي إلى الخشبة ومن المفيد الإشارة هنا إلى الاشتباك بين الحكاية وحركة الأحداث. إن حركة الأحداث في مسرحية الطين سارت مساراً أفقياً واحداً ولو أن المؤلف اعتمد بعض الانكسارات أو الهزات لاستطاع أن يحير المتلقي في معرفة المآل النهائي لحكاية النص، وبناء على ذلك فإن المؤلف اعتمد الحدث البسيط الذي يتطور بأسلوب الكل المستمر، أي في الوقت الذي يحدث التغيير في مصير البطل لا يكون هناك انقلاب أو أية مفاجأة، أما الحدث المركب الذي غاب عن النص فهو الحدث الذي يستند إلى المفاجأة ويتضمن الانقلاب والاكتشاف، ويمكن أن يجمع المؤلف الاثنين معاً وهذا ما يسهم في صناعة الدهشة لدى المتلقي. والذي يقوي الحدث الصراع، لأنه يمثل العمود الفقري في البناء الدرامي، لأن المشاهد لا يستطيع أن يتابع العرض دون الصراع الذي تعمل عليه عناصر العرض حتى يكون التجسيد لائقاً، لا ننكر وجود صراع في النص، لكن هذا الصراع لم يصل إلى ذروته مع أن بعض المواقف كانت تسمح بذلك وخاصة قبل موت الأب الذي كان مؤسياً ومحزناً. أؤكد أخيراً بأن المؤلف محمد صالح كاتب مسرحي سيكون له دوره في ساحة التأليف الإماراتي. حديث الماء ? مسرحية “حديث الماء” تأليف صالح كرامة العامري (النص فائز بالمركز السادس) هذه هي المسرحية الوحيدة التي كتبت باللغة العربية الفصحى، فمن خلال انسيابية واضحة في الحوار تعرفنا إلى المكان، المليء بالقتل والدمار والحروب وإلى هجرة الشباب إلى الخارج بسبب الوضع المأساوي في الوطن، كما تعرفنا إلى تجار الحروب الذين وصلوا إلى الغنى الفاحش في ليلة وضحاها بعدما كانوا يعيشون حياة مليئة بالتقتير وشظف العيش. ولا ريب في أن ذلك خدم النص المسرحي كثيراً، كما خدمه الحوار الجميل المكثف والمفعم بالدلالات والذي يخدم الحدث ويسهم في بنائه وفي رسم الشخوص من الداخل والخارج. ومن خلال ما تقدم نتعرف إلى سبران الغريب الذي يعاني من المكان وقوانينه ونتعرف إلى شقير وحياته القلقة ووطنه المستعمر الذي غدا وطن الغرباء الذين يعيثون فيه فساداً وتكون المفاجأة بعد ذلك حين يعري سبران شقيقة شقير الذي كان يبيع دواء أمه وأخته والأموال التي يرسلها سبران إليهما، واللافت أن هذا المال لم يكن فائضاً، وإنما كان سبران يعمل عملاً إضافيا ً لكي يلبي حاجة أمه وأخته: “شقير: اسمعني. أين هم هؤلاء الناس الذين كنت ترسل لهم الأموال؟ سبران: هم أمك.. أخواتك يا كلب! شقير: اسمح لي كلهم أموات. سبران: كيف تتفوه بمثل هذا الكلام؟! شقير: إذا ظلت تتهمني هكذا فلن نتفق. سبران: ومن قال لك إننا سنتفق. شقير: أريد أن أقول لك إن أموالك هي رمّمتني وأعادتني إليك.. ولو صرفتها عليهم ما وصلت إليك سالماً.” وقبل أن أتحدث عن البناء الفني للنص لابد أن أشيد بالنهاية الذكية حين ربط المؤلف بين اختلاف الشقيقين سبران العصامي وشقير الأناني - آكل أموال أمه وأخته - وبين عامل الصيانة الذي بدل القرميد القديم، لكأنه يريد القول لم تعد القيم صالحة لهذا العصر ولم يعد الصدق الذي نفتخر به أسلوب الناس في هذه الأيام: “سبران: مع الأسف لقد ضيعت كل شيء.. فلم يعد هناك شيء. عامل الصيانة: لقد قمت باستبدال القرميد القديم ووجدت عدداًً من الطيور تعشش بداخله”. لقد قدم المؤلف نصاً مسرحياً جميلاً له أبعاده الفكرية والإنسانية لكن المشكلة الرئيسة في النص هي أن الحدث سار بأسلوب أفقي وسيطر الحوار السردي على النص إذ لا نلحظ مفاجآت ولا انكسارات، والمعروف عندما يعتمد المؤلف الحكاية التي يريد تحويلها إلى نص مسرحي يفكر بترتيب الحدث وبنائه بناءً مشوقاً لكي يظل المتلقي باحثاً عن الكشف والاستكشاف، ولهذا فرق الدارسون والمبدعون بين الملحمة والدراما، فقد فرق أرسطو بينهما حين أكد على أن الملحمة تختلف عن الدراما في اعتمادها على السرد أي (إن الأحداث لا تقدم لنا بطريقة مباشرة في الفن الملحمي، بل لابد من وجود وسيط بين الحدث والمتلقي أو القارئ لهذا الحدث). وما دام الحوار في المسرح يفجر حدثاً درامياً ويصور صراعاً إرادياً بين إرادتين تحاول كل منهما التغلب على الأخرى، فلا بد أن يتضمن الحوار أحداثا شائقة مليئة بالدراما ومفعمة بالإدهاش، ولا يتحقق ذلك إلا بالانتباه إلى الهدف الكلي وتركيزه، وهذا الهدف يتضمن وحدة عاطفية أو فكرية تحكم الصراع عبر حدث يتصاعد ويتنامى من خلال اللا متوقع واللا متناقض مع الممهدات الفكرية والبيئة والمنطقية للنص. إن ما يجب أن نعترف به هو أن المؤلف صالح كرامة استطاع أن يبدع سرداً يؤكد قدراته الفنية وأن يقدم فناً أدائياً في عرض الأحداث حياً وحاراً لكنه في إطار مثل هذه الحكاية التي شدته إلى البعدين النفسي والاقتصادي والإنساني والسياسي جعلته لا يهتم بكسر الإيقاع الرتيب في السرد، وعلى الرغم من كل ذلك لا نستطيع إلا أن نؤكد على مكنة هذا الكاتب في التأليف المسرحي بعد أن أثبت وجوده من خلال مجموعة من النصوص المسرحية ومن خلال حصوله على جوائز عديدة من جهات مختلفة في الوطن العربي. أخيراً: إن المسرح الإماراتي مسرح ناهض وإن الكاتب المسرحي الإماراتي يتميز بالدراية والوعي وهذا الرأي لا ينشأ من فراغ فالنصوص التي قاربتها خير دليل على ذلك. وهنا لا بد أن نشير إلى كتاب مسرحيين آخرين جودوا في ميدان التأليف ولم يردوا في الكتاب لأنهم خارج إطار الجائزة أذكر على رأسهم صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حاكم الشارقة، وماجد بوشليبي، مرعي الحليان، سالم الحتاوي، جمال سالم، محمد سعيد الضخاني وإبراهيم سالم وباسمة يونس وعلي جمال وغيرهم كما لابد أن نشير إلى اهتمام النص المسرحي الإماراتي بالواقع والتراث والحداثة والتجريب وكل ذلك شواهد وعلامات تدل على أن النص المسرحي الإماراتي يسير في الاتجاه الصحيح فالنصوص تحمل مضامين جديدة، وهي مفتوحة على أساليب مختلفة في عرضها خاصة المسرحيات التي تعتمد المشهدية أو الصورة عبر المسرح الوثائقي. أوجز فأقول: المسرح الإماراتي مسرح ناهض تأثر بالحداثة وهو يميل إلى توظيف المخترعات الحديثة من أجل الإقناع والتأثير ومواكبة المتغيرات والعصر. * أكاديمي وناقد سوري * من أوراق ملتقى الشارقة الثاني لكتّاب المسرح (مايو 2012)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©