السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكاية البياتي وعائشة

حكاية البياتي وعائشة
23 أغسطس 2012
في الثالث من أغسطس عام 1999، رحل في دمشق عن 73 عاما الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي، وكان لموته وقع خاص وأثر بالغ على الساحة الثقافية العربية وذلك للعديد بين العديد من الأسباب، من أهمها أنه نزع في قصيدته الى معاصرة شمولية، وارتباطه الوثيق بالعديد من العواصم العربية والعالمية وشعرائها الكبار، عواصم كانت في حياته بمثابة المنافي الاختيارية أحيانا، والإجبارية في أحيان أخرى، ومن ثم سعة وكثافة تجربته وانتاجه الذي وصل الى أكثر من 12 ديوانا شعريا، صنعت نجوميته وحضوره الشعري الخاص، واصداره لعدد من الكتب النثرية في النقد والأدب من بينها: تجربتي الشعرية، حرائق الشعر، كنت أشكو الى الحجر، القيثارة والذاكرة، ينابيع الشمس. أما آخر اصداراته أثناء اقامته في دمشق فحملت عنوان “تحولات عائشة” عن منشورات “دار الكنوز الأدبية” في بيروت. وعرفت “عائشة” في كتابات البياتي، حتى الشعرية منها على أنها رمز أسطوري معبر عن الوطن والأرض والأم والمدينة، بل ملجئا كان يعود اليه كلما ألمت به الظروف، تماما على النحو الذي وجدناه عند رفيق دربه بدر شاكر السياب الذي اتخذ من مدينته “جيكور” ملاذا وسكينة وميناء استراحة المحارب كلما عصفت به الرياح. لقد ظلّت ملامح “عائشة” التي كانت جارة له في مسكنه في بغداد في فترة طفولته، ومن ثم ماتت، ملاصقة له في روحها، وظهرت في العديد من قصائده، خاصة النساء اللواتي التقى بهن، أو المدن التي عاش فيها، فقد كتب البياتي قصائد كثيرة تحمل اسم عائشة منها على سبيل المثال لا الحصر: بستان عائشة، صورة جانبية لعائشة، كتابة على قبر عائشة، مرثية على قبر عائشة. من ديوانه “كلمات لا تموت” كتب البياتي مستذكرا عائشته الاولى حينما التقى بامرأة مختلفة في موسكو قائلا: أحبها/ أحب عينيها/ أحب شعرها المعطار/ أحب وجهها الصغير/ كلما استدار. ذخيرة تعبيرية يصعب علينا في هذه العجالة الاحاطة تماما بتجربة البياتي، نظرا لسعتها وتنوعها وكثافتها، لكن لا يصعب علينا تذكر واحدا من أبرز شعراء جيل الستينيات، وفيها خاض معارك ثقافية شرسة لتأكيد حضور قصيدة النثر، متمتعا في ذات الوقت بالفرادة في كتاباته المتنوعة ،ولأنه كان متلبسا بتجربة الشعر، ولأنه كان واحدا من أهم رواد الشعر العربي الحديث، ظل عصيا على النسيان، وظل محافظا على بريقه وألقه، بل ظل ساطعا كالشهاب، ويبدو أن البياتي وهو حتى في غيابه من ذلك النوع من المبدعين الذين ضربوا لنا مثلا عن المبدع الحقيقي، حتى وهو في ظروف المرض والنفي القسري، والوجع اليومي وضغوط الحياة والسياسة، فمعظم ميراثه الأدبي الذي تركه لنا، يحمل قيمته التاريخية والفنية. نتذكر البياتي اليوم، ونتذكر تلك الذخيرة التعبيرية التي تركها لنا في صورة قصائد وكلمات وصور انسانية ووجدانيات، تذكرنا بوقع الصدمة لرحيله النادر، وتضعنا أمام تجديداته في تناول المواضيع السياسية، واستلهمها عناصر مثل: التكرار والتداعي والتقطيع والأمثال والصور الاشارية والاسقاطات، وبخاصة في قصائده التي وردت في ديوانه “اباريق مهشمة” الذي يضم بين دفتيه إحدى وأربعين قصيدة، من بينها إحدى عشره قصيدة من الشعر الموزون المقفى، والمجمل العام للقصائد حمل ثلاثة اتجاهات ما بين الرومانسية والوجودية والواقعية، في حين أن تجربته العامة مرت بمراحل متعاقبة هي: القصيدة العمودية التقليدية، والقصيدة شبه العمودية، ثم القصيدة الحرة أو قصيدة النثر، ثم ملامح واطلالات من القصيدة الصوفية. ونجح البياتي عبر كل هذه المراحل، وعبر تجربته الواسعة في تصدير قصيدة ثائرة، فيها صوت التحدي عاليا، متمردا، وتلعب فيها الصورة المزدوجة دورا مهما في طريقة التعبير عن الوطن المأزوم، باعتبارها صورة مكثفة بالالوان والمفردات وظلال من السواد، على نحو ما جاء في هذا المقطع من قصيدته “انتظار”: صلّي لأجلي عبر أسوار وطني الحزين، الجائع العاري وعلى رصيف المرفأ انتظري قلبي مياه البحري تحمله تفاحة حمرا.. كتذكار يتلمسون طريق عودتهم ورسائلي وأبي وازهاري وكلبنا الضاري يعوي، وعين شيخ حارتنا مصلوبتان على لظى النار وشجيرة الليمون يسرقها مهما تعالت صبية الجار وكقبرات الصبح هائمة والموت والثأر ستظل افكاري تعلو وتعلوا عبر وطني الحزين الجائع العاري وأنا وافكاري في غربة الدّار وحدي بلا حبّ وتذكار لن نضيف الكثير عمّا كتب عن البياتي من مئات الصفحات ، ولكن يمكن تفسير بعض المعاني في تجربته كواحد من أوائل المجددين في الشعر العربي، وأول المجددين في مجال القصيدة المعاصرة، وقامة من قامات الشعراء العرب الذين وصلوا الى العالمية من خلال جملة التأثيرات الشرقية والسياق التراثي في لغة عميقة شفافة ذات مفردات منطقية مؤثرة، التي وضعها في ثنايا فكر القصيدة، ولهذا تحققت الترجمات التي تمت لنحو ثلاثين من أعماله الشعرية الى اللغات الروسية والانجليزية والاسبانية والفرنسية والفارسية، وارتبطت جملة كبيرة من هذه الأعمال بالواقع العربي في مستوياته السياسية والاجتماعية والتاريخية، ومسوغات من الأفكار الملتزمة ذات الامتداد الانساني مع تصورات الشعر والأفق الثقافي العالمي في رحلة شاعر وصفت حياته بالصاخبة المعقدة والشائكة مع الكلمة، ومع القصيدة التي كانت عنده تتمتع بحالة من الابتكار والابداع الجديد ضمن رؤى واعية تهدف في النهاية الى تصدير قصيدة انسانية جددية في مذاقها وخصوصيتها وآفاقها الرحبة الضاربة في عمق التاريخ والانسان. هو والموت نفتح اليوم نافذة صغيرة على الجانب الانساني من حياة شاعر كبير في أصالته وقوته، حتى في تحدياته لمنافسيه ومنتقديه، وتحدياته للموت الذي لم يكن يهابه، لأنه لم يكن بالنسبه اليه أكثر من مرحلة جديدة، وكانت فكرة الموت تستفزه لمزيد من القصائد المتمردة الثائرة فقد قال عن هذا الذي تخافه كل البشر في احد حواراته: “سبق لي أن عانيت من الموت آلاف المرات، ورأيته بأم عيني، بل انني ولدت معه، وسافرت معه الى عصور أخرى وأزمنة كثيرة، لقد كان الموت صديقي، اذ أنه كان يفتح لي ابواب السماء. يموت الشاعرمنفيا أو منتحرا أو مجنونا او عبدا أو خدّاما في هذه البقاع السوداء، وفي تلك الأقفاص الذهبية، حيث الشعب المأخوذ العاري يموت ببطء تحت الارهاب وحيدا معزولا منبوذا محروما قرب الاقفاص”. هكذا كان الموت في فكر وقلب البياتي، لكن أكثر ما احزنه في لحظاته الأخيرة أنه ترجل بعيدا عن مدينته بغداد التي خصّها في العديد من قصائده، ومن إحداها نقتطف: أم الدنبا بغداد بناها المنصور لتصبح عاصمة الألم الخلاّق وفد الشعراء اليها من بعد المنصور فباسوا تربتها سكبوا فوق ضفائها خمرا حتى صارت بستانا ومزارا لطيور البحر وبدو الصحراء من كان يحج اليها ينسى مجنونا بالعشق حبيبته الأولى ينسى مفتاح الدّار، ويموت فيها شهيدا خلبت لبّ معرّي النعمان وظل يردد بغداد كانت أحلى امرأة وأحلى الحلوات لم تخل حياة البياتي من الخصوم الذين ناصبوه العداء، سواء الشعراء منهم أو النقاد الجارحون في تعبيرهم حول جرأته في التعبير عن الحياة والسياسة، أو حتى من لهم علاقة بأصحاب القرار، كونه لم يكن مجاريا للسلطة في أي مكان، لكنه كان في ردوده عليهم يذكرنا بشعراء العرب القدامى في تندرهم، ومما قاله في هجاء بعض الخصوم: “أتجنب قطعان الشعراء، المزورين والثرثارين والحمقى، فأغلق فمي وأنام نوما مغناطيسيا، ولا أعود أرى أو اسمع حتى وأنا بينهم، وأحيانا أنام نوما طبيعيا عميقا فيوقظني أحد هؤلاء الثرثارين، كأن يقول لي انك مجهد ومتعب”. كتب الدكتور شاكر الحاج مخلف في دراسة له بعنوان “عبد الوهاب البياتي الافكار والرؤى” يقول: “عندما تقرأ قصيدة من قصائده العديدة تشعر بقوة هذا البياتي وعنفوان روحه وهو يمتد ناشرا أشرعته في المدار الوطني، فارضا بقوة تواجده كبلبل عراقي جرحته النوائ . ظل يواصل الغناء الأبدي لينتج شعرا عراقيا عربيا معجونا بتراب الأرض السمراء وهموم ابنائها كالقنديل يتوهج ليطرد موجات”. ومما قاله الدكتور الحاج نستطيع أن نختم حديثنا عن هذا الشاعر الكبير الذي نجح رغم قسوة الحياة التي عاشها في أن بواصل رحلته مع الشعر لاكثر من خمسين عاما، وأن يثبت قدميه كواحد من عرّابي قصيدة موجة الحداثة المعاصرة في ثوب جديد من سحر التعبير واللغة والصورة الفنية ذات الثراء العريض في عناصرها ومفرداتها في مناخها النظري وبخاصة نصوص الرثاء التي نظمها في الحالة العربية عن طريق القصة الشعرية. لقد رحل البياتي، ومن المرجح أنه ترجل عن حصان الابداع وهو غير راض عما يدور حوله من احداث في ارجاء الوطن العربي الكبير، ونحن نتذكره اليوم وهو أحد أعلام الشعر العربي ونستذكر ما قاله عنه أحد النقاد العرب: “لقد كان بسيطا كالماء، واضحا كطلقة مسدس”، فقد قال في أحد قصائده: الليل، والباب المضاء واصدقائي الميتون بلا وجوه يحلمون بالفجر، والحمى وصناع الظلام يتاجرون بما تبقى من سموم كل الدروب ـ هنا ـ الى روما تؤدي والذئاب تسطو على من لا كلاب له، وسفاكو الدماء يقامرون بما تبقى من رصيد لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى تراق على جوانبه الدماء الشاعر المترحل بين المنافي ولد الشاعر عبد الوهاب البياتي في منطقة “باب الشيخ” في بغداد عام 1926، تخرج في كلية المعلمين باجازة في اللغة العربية وآدابها عام 1950، عمل في مجال التدريس والصحافة، ثم أعتقل بسبب مواقفه الوطنية، وتنقل بعدها حاملا همومه وتجربته الرحبة ما بين دمشق وبيروت والقاهرة التي اقام فيها بعد العدوان الثلاثي وعمل محررا في جريدة “الجمهورية”. عام 1963 كان عام حرمانه من الجنسية العراقية التي أعيدت اليه عام 1968، وعرفت الفترة ما بين 1970 الى 1980 في حياته الشعرية بالمرحلة الاسبانية، نظرا لتأثره الشديد بشعراء اسبانيا، على اثر ذلك تم تكريمه من خلال ترجمة العديد من دواوينه الشعرية الى اللغة الاسبانية. وكان قبل ذلك قد اقام في الاتحاد السوفييتي في الفترة ما بين 1959 الى 1964، حيث عمل استاذا في جامعة موسكو. بعد حرب الخليج عام 1991 أقام في العاصمة الأردنية عمّان لعدة أشهر، لينتقل بعدها الى دمشق التي كانت كما قال “حلمه الأخير”، حيث وافته المنية هناك، ودفن حسب وصيته الى جانب ضريح الشيخ محي الدين بن عربي. من دواوينه الشعرية: ملائكة وشياطين (صدر عام 1950 عن منشورات دار الكشاف بيروت)، أباريق مهشمة (صدر عام 1954 عن منشورات الثقافة الجديدة بغداد)، سفر الفقر والثورة، المجد للاطفال والزيتون، النار والكلمات، كلمات لا تموت، عيون الكلاب الميتة، الكتابة على الطين، قصائد حبّ على بوابات العالم السابع، الذي يأتي ولا يأتي، كتاب المرايا، بستان عائشة، قمر شيراز.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©