السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيان من أجل النّقد الجذري

بيان من أجل النّقد الجذري
17 سبتمبر 2014 21:30
سأبدأ بالسّؤال الأكثر إثارة: هل يمكنني أن أكون ديمقراطياً حين أنتقد تيّاراً فائزاً بالأغلبية أو من المرجّح أن يفوز بالأغلبية في انتخابات حرّة ونزيهة؟ كثيراً ما يعترضني مثل هذا السّؤال. ورهاني في هذه الورقة أن أكون مقنعاً للبعض وواضحاً بالنسبة للكثيرين. ليس المشكل بسيطاً، كما أنه ليس محليا يخصّ المجتمعات الإسلامية على وجه التحديد، بل لعله سؤال كوني يمسّ كل المجتمعات وإن بدرجات متفاوتة. هل كان من حق المثقفين الفرنسيين، مثلاً، أن يشهروا النقد الحاد في وجه اليمين الفاشي عقب صعود حزب لوبين إلى الدور الأول من رئاسيات 2002؟ ثم ماذا لو فاز ذلك الحزب في الرئاسيات هل سيكون نقد خطابه إنكاراً لمبدأ الاحتكام للديمقراطية؟ هشاشة بنيويّة لا شكّ أنّ الديمقراطية هي أفضل النّظم المتاحة والممكنة إلى حد الساعة، غير أن هذا لا يمنع من الاعتراف بوجود هشاشة أصلية تجعل الديمقراطية قابلة للانقلاب على نفسها بنفسها. وإلا فكيف نفسر أن الآلية الديمقراطية لم تسعف الكثير من المجتمعات الغربية في تفادي الصعود الانتخابي لليمين الفاشي؟ لربما يقال إن الحركات المتطرفة والأكثر تطرفا عندنا لا تترشح في الانتخابات، مثل تنظيم الدولة الإسلامية، وتنظيم النصرة، وبوكو حرام، مثلاً. لكن ليس الأمر كذلك على الدوام. وإلا فما القول في دخول جهاديي القاعدة الليبيين إلى الانتخابات وإلى المجالس المنتخبة؟ ولنواجه الأسئلة الحقيقية بجرأة أكبر: ماذا لو تقدّمت الدولة الإسلامية إلى الانتخابات العراقية على سبيل المثال؟ وبالأحرى هل الديمقراطية قادرة على احتواء خصومها كما يراهن البعض؟ بكل تأكيد، لا يعدّ السؤال مجرّد مسألة إسلامية أو شرقية، لكنه أمسى سؤالا كونيا يرتبط بالهشاشة الأصلية للديمقراطية نفسها، غير أن الأمر عندنا في العالم الإسلامي أشدّ تعقيدا لثلاثة أسباب: السبب الأول يتعلق بالوضعية الإشكالية للحركات الدينية والتي قد تحملها نتائج الانتخابات إلى السلطة فتحتكر كل شيء في وقت لم تترسخ فيه تقاليد ومؤسسات وقوانين الدولة الديمقراطية. والسبب الثاني يكمن في أن نفس التيار الديني الذي قد يَضطهد حين يَحكم وينفرد بالحكم (سودان النميري- الترابي- البشير) هو نفسه قد يُضطهد حين يُحكم وينفرد بالمعارضة (مذبحة حماة مثلاً). والسبب الثالث يكمن في أن المزاج الشعبي لا يرحب بالنقد الموجه ضدّ الحركات الدينية؛ فإنه يرى في ذلك النقد مغالبة للأمر ومكابرة للحق وإنكاراً للمعلوم. وكل ما يتيحه لنا هو النصح متى أمكن ذلك. لذلك ليس مستغربا أن تواجه بعض الدول جرائم التطرف الديني بلجان المناصحة! في الوقت الذي تواجه فيه النشاط الثقافي والحقوقي بحد السيف. إنها ثقافة التساهل مع الجريمة الدينية. وليس مستغربا والحال كذلك أن يواجه تنظيم القاعدة تنظيم الدّولة الإسلامية بخطاب النّصح بدل النّقد الذي لا يعرفانه، حتى وهما في أوج التناحر بينهما في العراق وسوريا. أفخاخ كثيرة نصبناها بأنفسنا قبل أن نقع في شراكها تشلّ ملكة النقد. وشلّ ملكة النقد يعني شيئا واحدا، التعويل على غرائز الجمهور. لذلك وحدها كتب التراث الفلسفي والصوفي والكلامي من كانت تميز بين الخواص والعوام (ابن رشد، ابن عربي، الغزالي. . . ) أما كتب الفقه فهي أصلا موجهة لغرائز الجمهور. لذلك كانت القدرة على تأليب العوام هي السلاح الفتاك الذي قاتل به فقهاء الجمهور أمثال ابن رشد والسهروردي وعلي عبد الرازق وطه حسين وغيرهم. وإذا كان أفلاطون يقول بحق إن السياسة هي وظيفة النفس العاقلة على وجه التحديد، فلعل الجموع تمثل أكبر تحد غريزي أمام قيم التمدن كما ترى رجاء بن سلامة في كتابها "نقد إنسان الجموع". لكن هل يعني ذلك التضحية بالخيار الديمقراطي كما كان يدعو العفيف الأخضر، من أجل حداثة فوقية قد تأتي وقد لا تأتي وقد تأتي بسرعة وتنهار بسرعة طالما يعوزها الأساس، الشرط الإنساني؟ المعضلة أننا نحاول أن ندخل إلى عصر الديمقراطية ونحن نحمل معنا فقه الجمهور وإنسان الجموع، نحاول أن ندخل إلى عصر الديمقراطية بنفس المنطق الذي كان يؤلب الجمهور على المرأة والأقليات والمثقفين. ما يعني أن الديمقراطية قد تُستعمل في الأخير لأجل تدمير شروطها. وهنا وجه المفارقة. نقد خطاب الأغلبية عود على بدء، هل من حقنا أن ننتقد الخطاب الذي يريده أو يتبناه أو يصوت عليه الجمهور؟ هل من حقنا أن ننتقد الخطاب الفائز بأغلبية الأصوات في الانتخابات أو الاستفتاء؟ مباشرة بعد صعود الاسلاميين إلى الحكم عقب انتصار ثورة الياسمين، ظهر من يحتج علينا بالقول: أنتم لم تفوزوا في الانتخابات، الشعب لم يصوت لكم، فاصمتوا على الأقل، واتركوا الديمقراطية تقرر بنفسها. ما يعني أن المطلوب منا أن نكف عن النقد بدعوى أن صناديق الاقتراع قالت كلمتها، وأن نكف عن النقد معناه أن نتوقف عن التفكير، أو على الأقل أن نفكر بصمت فلا نخبر أحدا. ثمة سوء فهم مذهل، كما لو أن الفوز بالأغلبية الانتخابية يشبه انعقاد البيعة بالإجماع. وبالتأكيد، فقد سمعنا ما يكفي من المصطلحات الهجينة: البيعة بالاقتراع، غزوة الصناديق، الشورقراطية، إلخ، خلط مذهل في المفاهيم والمرجعيات على طريقة ماكدونالد حلال، والمايوه الشرعي، والبنك الإسلامي، ولست أدري. وفي كل الأحوال، أين المؤسسات؟ أين التوافقات؟ أين التوازنات؟ أين التنازلات؟ أين المساومات؟ أين التسويات؟. . . أين السياسة؟ ويبقى السؤال قائما، هل يجوز من وجهة نظر ديمقراطية أن ننتقد الرأي الفائز بالأغلبية؟ ثم ماذا يعني الفوز في الانتخابات، هل يعني فقط الحق الكامل في تطبيق رؤية الحزب الفائز بحذافرها؟ ولنسائل نموذجاً ينحاز له جمهور الإسلاميين حتى من دون أن يتمثلوه: ماذا يعني نجاح تجربة العدالة والتنمية في تركيا؟ هناك أمر أساس ينساه جمهور الإسلاميين "العرب" - وقد صدق من قال العرب ظاهرة صوتية - وهو ان أساس نجاح أي مشروع هو القاعدة الاجتماعية التي يستند إليها. والحال، إذا استثنينا المشاعر الفياضة، فلا وجود لأي قاعدة اجتماعية للإسلاميين العرب عدا النعرة الطائفية والتجييش ضد الأقليات، وضد المرأة، وضد السينما، وضد الفنون الجميلة إلخ. الحال في تركيا يختلف؛ لأن الإسلاميين هناك – وهم إسلاميون باشتراك الاسم ــ يطبقون البرنامج الاقتصادي الليبرالي لحزب تحضنه البورجوازية الأناضولية الصاعدة، وذلك لاعتبارات تسويقية تهم فضاء الشرق الأوسط والعالم الإسلامي لا سيما بعد أن أغلقت أوروبا أبوابها. طبعا قد لا تصبر تلك الحاضنة الاجتماعية طويلا أمام خسارة الرهان السوري وبعض أسواق الخليج والعراق وليبيا ومصر بسبب حسابات سياسية معينة، لكن هذا نقاش آخر، إنما السؤال، هل نجاح أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة يعني بالمنطق الديمقراطي تفويضا له لتطبيق أجندته "الافتراضية" كما ينتظر جمهوره في العالم العربي، أم أن الأمر يتعلق بتفويض له غاية أخرى هي تدبير التوافقات داخل المجتمع التركي؟ أظن أن سوء التقدير موجود عند جمهور أردوغان "العرب" أكثر ما هو منتشر لدى جمهوره في تركيا. نعم، كان هذا مجرد تمرين لتأكيد الحاجة إلى نقد أي خطاب كيفما كان، لا سيما الخطاب المنتصر أو المنتشي بالانتصار أو بوهم الانتصار. لكن هل كل هذا يكفي لإقناع الكثيرين بالحاجة إلى نقد الخطاب الذي يمثل الأغلبية؟ طبعا يجيز الكثيرون النصيحة، وفي حدود النصيحة، ومن طرف "أهل النصيحة"، لكننا نتساءل هنا عن النقد وليس النصيحة، نتساءل عن الحق في النقد، عن حق المثقف في ممارسة وظيفته النقدية، ليس فقط نقد الأيديولوجيات المنهزمة حيث النقد يتطلب القليل من الشجاعة، وإنما أيضا ومن باب أولى، نقد الإيديولوجيات المنتصرة أو التي تنتشي بالانتصار دون أن تحسب أي حساب للكلفة. احتياطات الرهان على غرائز الجمهور لعبة خطرة في غير صالح الديمقراطية نفسها. لذلك أوجدت الديمقراطية الغربية عدة احتياطات دستورية ومؤسساتية للتخفيف من أخطار الهشاشة الأصلية للديمقراطية، من بينها: الانتخابات عبر دورتين؛ التفاوت الزمني بين الانتخابات التشريعية والجماعية والجهوية؛ إشراف السلطة القضائية على الانتخابات وأثناء النزاع بين السلط؛ نظام الكوتا؛ دسترة حقوق الأقليات؛ دسترة حرية التعبير؛ ترسيخ دور المجتمع المدني كسلطة مضادة؛ إلخ. هذا يعني أن مفهوم الديمقراطية نفسه قد تطور لأجل حماية المكتسبات الديمقراطية من التقلبات الديمقراطية. وهو التطور الذي تحقق بفعل إعمال العقل النقدي في مفهوم الديمقراطية نفسها. في كل الأحوال لا شيء يعلو على سلطة النقد، ولا يمكن بأي حال توظيف المشروعية الديمقراطية ضد حق الإنسان في أن يفكر وأن يعبر. وإذا كانت الدساتير الديمقراطية تصرح في الغالب بحرية التعبير، فلأن حرية التفكير يُفترض أنها مثل التنفس الطبيعي لا تحتاج إلى تصريح. أي إسلام نريد؟ في فرنسا خلال أواسط سنوات الثمانين من القرن الماضي، وعندما فتحت الدولة نقاشا شعبيا لأجل إلغاء عقوبة الإعدام، كان المزاج الشعبي العام يميل إلى إبقاء العقوبة. ولو تم الاحتكام إليه لما ألغت فرنسا عقوبة الإعدام. لكن شجاعة وزير العدل وقتها دفعته إلى إصدار قرار إلغاء تلك العقوبة البدائية من القانون الجنائي الفرنسي، بمعزل عن المزاج الشعبي. وبالمناسبة دعنا نقول: الإعدام جريمة، سواء نفذ باسم الدين أو كان ضحيته من يتكلمون باسم الدين. ولنتكلم بصراحة، فقد كان إلغاؤه يتطلب توقيعا حكوميا بسيطا، وكان ذلك سيمثل مكسبا للجميع وخطوة كبيرة للحد من أي استبداد محتمل سواء باسم الدين أو باسم شيء آخر. وكان فهما جديدا للدين من شأنه أن يغير من مزاج الجمهور المسلم. لكن لا أحد اكترث بالأمر فيما يبدو. أين المشكلة؟ المشكلة مرة أخرى هي الاحتكام لغرائز الجمهور من أجل السلطة حصرا كما لو أن السلطة ستفتح خزائن الأرض. وهذا مجرّد وهم، لكنه وهم قاتل في بعض الأحيان. دعنا نعيد القول الذي قلناه للحركات الدينية مرات ومرات: سيف الجمهور ذو حدين، فلا تراهنوا على دغدغة عواطف الجمهور؛ لأن الجمهور الذي سيبايعكم اليوم بالعاطفة سيبيعكم غدا بالعاطفة. ماذا كان ردهم؟ مزيدا من المزايدة: الشعب يريد تطبيق شرع الله. ثم أين التفاصيل؟ وفي الواقع، كل الشعارات التي تدور حول الإسلام اليوم تصادر على المطلوب، سواء أكانت شعارات من موقع السلطة أو المعارضة أو المقاومة. والمطلوب إعادة طرح السؤال: أي إسلام نريد، إسلام ابن تيمية وابن حنبل، أو إسلام ابن عربي والسهروردي، أو إسلام ابن رشد والفارابي، أو أن هناك إسلاماً جديداً لم يجد بعد من يبلوره؟ فهل يكفي الاحتكام للجمهور لكي نجيب عن أسئلة الدين والهوية والوجود التاريخي؟ لا أحد من الشيوخ الذين يعارضون سياقة المرأة للسيارات في السعودية عثر على نص، ولو ضعيف، يستدل به على تحريمه، ولذلك فإنهم يستدلون هناك برأي الجمهور، وبمزاج الجمهور الذي علينا فقط احترامه (هكذا!). ثم، اين أصوات "المعتدلين" من هذه الغوغائيات المدمرة؟ مؤلم فعلا أن يتألم حكيم الثورة السورية الذي رافقها من داخل رحمها وتحت مظلة الجيش الحر طيلة السنوات الماضية، المفكر ياسين الحاج صالح، ويشتكي ليس فقط من جماعات داعش والنصرة والتي لا تزال تختطف زوجته إلى الآن وتختطف أخوين له وكثير من أصدقائه، وإنما يشتكي من الإخوان المسلمين أنفسهم والذين لم يكلفوا أنفسهم أي عناء في استنكار جريمة اقترفها الجهاديون المرتزقة ضد أحد أبرز وأصدق أصوات الثورة السورية. مرّة أخرى فنحن أمام نفس المنطق: السلطة أولا والباقي لا يهم. لذلك، عدا سلفية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعلال الفاسي، لا وجود لأي حركة دينية ناهضت العنف ضد النساء أو الاعتداء على الأقليات أو اعترضت على خوصصة التعليم والصحة أو جرمت التملص الضريبي أو طالبت بإلغاء عقوبة الإعدام. . . إلخ؟ فماذا هم يفعلون؟ نعم، البعض يقاوم الاحتلال في بعض الأراضي المحتلة، وهذا عمل جليل لا أحد ينكره، لكن ماذا عن بناء البيت الداخلي لمجتمعاتنا، لحضارتنا، لأوطاننا، لإنساننا؟ ماذا عن معركة تحسين ظروف الحياة لأبنائنا وبناتنا؟ ولست أشك في التالي: باسم الدين، ومن منظور الدين، كان يمكن خوض معارك حاسمة في تحسين نوع الحياة، لكن المعضلة كل المعضلة هي التركيز على إرادة السلطة. والحق يقال، حتى في الغرب نفسه لم تتطور مفاهيم وقيم حقوق الإنسان إلا من خارج الرهان على حصاد أصوات الانتخابات. لقد تبلورت آخر مفاهيم حقوق الإنسان بفعل المجهود النقدي والممارسة النقدية للمجتمع المدني وللمثقفين التنويريين. وهكذا كان. لماذا يجب نقد الحركات الدينية؟ تواجهني أسئلة تفصيلية على النمط التالي: هل يمكنك أن تكون ديمقراطيا إذا كنت ستستمرّ في انتقاد الإسلاميين في سورية مع أنهم يحاربون الاستبداد الأسدي؟ هل يمكنك أن تكون مناصرا للقضية الفلسطينية إذا كنت ستستمر في انتقاد الإسلاميين الذين يقاومون الاحتلال الإسرائيلي؟ من نافل القول إننا هنا إزاء سوء فهم مذهل لدلالة النقد. وهذا يذكرنا بالكثيرين ممن قرأوا كتاب "نقد الحداثة" لألان تورين من عنوانه، فجعلوا العنوان شعاراً دالا على "إفلاس" الحداثة الغربية، ومن ثمة يكون "الحل هو الإسلام"!. هؤلاء يجهلون بأن العقلانية نفسها تطورت بنقد نفسها، التنوير كذلك، مفاهيم كثيرة مثل التقدم، المجتمع الصناعي، التنمية، وحتى الرأسمالية نفسها لم تتطور إلا بفعل قدرتها على استيعاب كل الانتقادات التي طالتها سواء من داخلها أم من خارجها. لذلك يعدّ النقد حالة صحية بكل المقاييس. وبالطبع يواجهنا اعتراض حاد: لماذا نركز النقد في هذه الأثناء على الحركات الدينية؟ أليست الحركات الليبرالية واليسارية والتيارات المدنية تستحقّ النّقد بدورها؟ هناك معطى حاسم: الحركات الدينية هي الأكثر قوة وشعبية وتأثيراً، وهي بسبب ذلك الأكثر تعبيراً عن أزمتنا الثقافية والحضارية. نعم، إنها ليست سبب الأزمة، لكنها على وجه التحديد تمثل المظهر الأكثر تعبيراً عن الأزمة. إنّ جوهر الأزمة السورية اليوم لا يتعلق فقط بطبائع الاستبداد الأسدي وإنما يتعلق أيضاً بالتظيمات الدينية الجهادية والتكفيرية والتي حولت إحدى أعظم ثورات ما كان يعرف بالرّبيع العربي إلى مجرّد فتنة دينية وحرب طائفية تأكل الأخضر واليابس. ومع ذلك يبقى السؤال الحقوقي وارداً: الجريمة يعاقب عليها القانون، والذي يعاقَب هو الشخص أو الأشخاص الذين اقترفوا الجريمة، ويجب أن يحاكموا أمام قضاء منصف وعادل، وفي كل الأحوال لا يجوز للاتهام القضائي أن يشمل الخطاب الإيديولوجي. من واجب القانون الجنائي أن يعاقب المجرم ويترك الإيديولوجيا والخطاب الإيديولوجي جانبا. هذا صحيح من وجهة نظر حقوقية وقانونية. لكن، إن كان القانون الجنائي لا يجب أن يهتم بالإيديولوجيات فهذا يعني أن نقد الإيديولوجيات أكانت دينية أم وضعية يبقى وظيفة المثقف التنويري على وجه التحديد. على أن اختيار المثقف للايديولوجية التي سيشملها النقد خلال كل مرحلة من المراحل ليس مسألة متعلقة بمزاج المثقف وإنما هي متعلقة بالإيديولوجيات الغالبة أو المتمكنة أو التي تحظى بفرص أكبر للتغلب والتمكين. تأثيم النقد النزوع الغالب على جمهور الحركات الدينية هو تأثيم النقد، لا سيما النقد الموجه ضد التيارات الدينية نفسها. وهو تأثيم يعزف في نفس الأثناء على ثلاثة أوتار غير متجانسة: وتر امتلاك الحقيقة، وتر امتلاك المشروعية، ووتر مقاومة الاستبداد أو الاحتلال. الخلط بين هذه المستويات الثلاثة أثناء تأثيم النقد الموجه للحركات الدينية، يجعل الدفاع عن الحق في النقد أمرا بالغ الصعوبة. ولذلك، لابد من توضيح أولي للسّؤال: لماذا لا يجوز لنا أن ننتقد الحركات الدينية، هل لأنها تمتلك الحق الإلهي؟ أم لأنها تمتلك الأغلبية الانتخابية؟ أم لأنها قد تعارض الاستبداد أو الاحتلال؟ اللعب على الأوتار الثلاثة دفعة واحدة يؤدي إلى سوء التفاهم؛ لأن المستويات هنا تختلف من حيث المرجعيات، ولا يمكن الخلط بينها بأي حال. لا يمكنني أن أقول لك، مثلاً، سأعمل برأيك لأنه صحيح، وأيضا لأن الناس يقولون إنه صحيح. مستويات الحجاج هنا متفاوتة ومتضاربة. ففرق كبير بين أن تكون الحجة صواب الرّأي وأن تكون الحجة اعتقاد الجمهور بصواب الرأي. الغالب على الإسلاميين هو نفسه ما كان غالبا على الفقهاء القدامى، مجاراة غرائز الجمهور. وحين نقول الغرائز فنحن نقدر بأن الجمهور لا يفكر طالما التفكير مهارة فردية، وحين لا يتعلم ممارسة التفكير طالما أن التفكير ممارسة نقدية، وحين يمكث في مستوى الوجود الغريزي فإنه يميل طبيعيا إلى التعصب للرّأي، والتوجس من الآخر، والخوف البدائي من أن يصيب العقاب الإلهي الجميع بسبب تصرفات البعض. . . إلخ. هكذا هي الأمور عندما ينحدر منسوب التفكير والثقافة والعقل النقدي في أي مجتمع كيفما كان. بل، إنّ النّقد ليس مجرّد حق من الحقوق، لكنه واجب أخلاقي وإنساني وسياسي في معظم الأحيان. وضمن ذلك لا يغمرنا أيّ شك في أنّ نقد دور الحركات الدينية في إجهاض ما يسمى بالربيع العربي يبقى من أوجب واجبات العقل النّقدي اليوم. والحقّ يقال، تعدّ الثورة السورية المجهضة بمثابة النّموذج الأبرز لخطايا الحركات الدينية في العالم الإسلامي، المسمّاة بالمعتدلة، والتي وقع عليها رهان دولي وعالمي كبير لغاية احتواء الحركات الدينية المتطرفة والأكثر تطرفاً. في اللحظة التي انتقلت فيها الثورة السورية من الحراك السلمي إلى الحراك المسلح انتقلت موازين القوى ميدانيا وتدريجيا لفائدة الإسلاميين. لذلك وبصرف النّظر عن مآل الرئاسة فقد كان المجلس الوطني المعارض في الخارج يتألف من أغلبية تنتمي إلى الإخوان المسلمين. وكان الأمر يبدو كما لو أنه يستجيب لأربع تطلعات: أولا، إنصاف الإخوان المسلمين الذين أبيدوا بعد مجزرة حماة ولم يعودوا إلا مع اندلاع الثورة السورية؛ ثانيا، التمثيلية الافتراضية للإخوان المسلمين لجل المناطق السنية والتي يُفترض أنها تؤلف بؤر الثّورة؛ ثالثاً، بسبب التركيبة الطائفية لسورية لا خوف من أن يحتكر الإخوان هياكل الدولة؛ رابعا، لربما يكون الإخوان وبالتعاون مع كل من تركيا- أردوغان وقطر- المال هم الأقدر على احتواء الجهاديين الذين يقاتلون بجانب الثوار، حتى لا تبتعد الثورة كثيراً عن أهدافها التحررية. تفخيخ الثورة السورية انطلاقا من التطلع الرّابع بدأ تفخيخ الثورة السورية. كان المال القطري سخيا، وكان الدعم السياسي واللوجستي التركي كبيرا، وكانت خلايا الإخوان المسلمين أولى القنوات لتسرب الجهاديين الأوائل إلى داخل شرايين الثورة السورية مروراً بالحدود التركية وبمباركة المخابرات التركية نفسها. لكن، مرّة أخرى، وكما حدث في ميدان رابعة بالقاهرة إبان مقاومة الانقلاب، انفلت زمام المبادرة من يد الإخوان المسلمين وانتقل على حين غرة إلى يد الجهاديين المتطرفين ثم الأكثر تطرفا. وفي كلتا الحالتين انتهى الأسلوب الديني في المقاومة إلى تفخيخ نفسه بنفسه. لربما هو الاغترار بالجمهور، إذا جاز لنا الكلام بلغة يفهمها الجمهور. لكن الأمر فوق ذلك متعلق بإفلاس تكتيك الرهان على وسطية منزوعة المواقف. الآن، وقد أجهضت الثورة السورية بفعل الرهان غير المحسوب على الجهاديين، كما حدث في ليبيا، فهل كان يجب السكوت عن خطايا أردوغان في حق الثورة السورية بدعوى أن الرجل يمتلك الأغلبية الانتخابية في بلده، وأنه سيساعد في تحقيق الغاية: إسقاط الأسد؟ هل كان يجب السكوت عن خطايا إخوان سورية بدعوى أنهم يمتلكون أغلبية عددية في المجلس الوطني، وأنهم من أبرز ضحايا النظام الأسدي، ويحتمل أن يفوزوا بالأغلبية في أولى الانتخابات فيما لو سقط نظام الأسد؟ أتذكر أنّ في بداية الحراك السوري كانت هناك صفحة (فايسبوكية) نشطة ورائدة أنشأها شباب الحراك تحت عنوان "نقد الثورة السورية". في تلك المرحلة كان نقد الثورة جزءا من الثورة نفسها. لكن، كثير من رواد الصفحة اعتقلوا من طرف قوات النظام والباقي هاجروا إلى خارج سورية هربا من متطرفي الثورة، وبقيت الثورة السورية في الأخير يتيمة بلا نقد ولا نقاد. بكل تأكيد، عندما يتلاشى النقد يتلاشى كل شيء. هل نسينا هذا؟ لقد تطورت الحداثة السياسية بمفعول النقد الذي تعرضت له (نيتشه وفوكو مثلا)، تطورت العقلانية بمفعول النقد الذي رافقها منذ كانط إلى كارل بوبر وهابرماس، وتطورت المسيحية الغربية بمفعول النقد الجذري الذي تعرّضت له النصوص المقدّسة من طرف سبينوزا وفيورباخ. إن النقد لا يعني بأي حال من الأحوال العدوان على حقوق الآخرين وعلى رأسها حقّ الإنسان في الوجود، إنه يعني فقط فتح الباب أمام التطور والتجاوز والطموح الإنساني نحو إمكانيات أفضل للوجود الإنساني بكل أبعاده، وضمنها البعد الديني أيضاً. وأما إذا كان المنقود يحظى بالأغلبية أو بالمشروعية أو المظلومية، فإن كل هذا لا يمنحه العصمة في أن يقول ما يشاء ويفعل ما يشاء بلا حسيب ولا رقيب. . هذا إن كنا لا نريد أن نعيد تجارب الانهيار العراقي، والإخفاق السوري، والتدهور الليبي. .
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©