الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عبيد السيرك

عبيد السيرك
8 فبراير 2017 19:04
كلّ من شاهد فيلم «المصارع»، Gladiator، للمخرج ريدلي سكوت Ridley Scott، وبطولة راسل Russell Crowe، لا بدّ أن يتذكّر ذاك المشهد الرّهيب الّذي اغتال فيه كومود Commode، أباه الإمبراطور الرّوماني والفيلسوف مارك أورال Marc Aurel، الّذي كان يطمح إلى أن يعيد الحكم إلى مجلس السيناتورات حتّى تصبح روما جمهوريّة من جديد، ويعيّن في الآن نفسه صديقه الجنرال ماكسيموس ديسيموس ميريديوس Maximus Decimus Meridius، خلفا له. غير أنّ موته ذي الخلفيّة الأوديبيّة الّتي تذكّر بشكل من الأشكال بمشهد قتل أوديب لأبيه لايوس دون علم منه، قد عجّلت بنهاية هذا الحلم لمّا استولى ابنه كومود على عرش روما. كان الإمبراطور الجديد محبّاً للشّعب، فقدّم له ما يريد من عروض السّيرك الدّامية، تلك الّتي جعلت من الجنرال ماكسيموس عبداً مصارعاً ذاع صيته في حلبات الصّراع، وكان يعرف فيها باسم «الإسبانيّ». ولمّا بلغت شهرته إلى روما دُعي ليقاتل في حلبة الكوليزي الشّهيرة. وعلى رمالها لفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن أجهز في آخر معركة له على الإمبراطور كومود منتقماً لمقتل مارك أورال وابنه وزوجته. وبموت هذا الإمبراطور استعاد مجلس السيناتورات سلطانه السّياسيّ، وانتهت مرحلة كان الحكم يزاول فيها بعروض السّيرك لا بثقافة الكتاب الّتي كان يمثّلها مارك أورال الإمبراطور الفيلسوف. ويبدو أنّ علاقة الأباطرة بالكتاب، في الأزمنة القديمة، لم تكن دائماً على ما يُرام. ولا تعوزنا الأمثلة. فقد ذكر خورخي لويس بورخيس، في كتابه «تحقيقات»، في المقالة الأولى بعنوان «السّور والكتب» أنّه قرأ ذات يوم أنّ الإنسان الّذي أمر بتشييد سور لا نهائيّ يمتدّ على طول حدود الصّين، أي الإمبراطور «شي هوانغ تي»، هو نفسه الّذي أمر بحرق كلّ الكتب الّتي سبقته. وإن كان بناء السّور أمراً مفهوماً؛ لأنّ من مهامّ كلّ الأباطرة تقوية دفاعات ممالكهم وحماية الحدود، فإنّ حرق الكتب وتدمير المكتبات يعتبر عملاً لا يأتيه إلاّ البرابرة، لا إمبراطور يجرّ وراءه ثلاثة آلاف سنة من تاريخ الصّين. فحرق الكتب هو محو للذّاكرة، ونسخ (بمعنى الإزالة) للتّاريخ الّذي أراده الإمبراطور «شي هوانغ تي» أن يبدأ معه. نظرة ارتياب والحقّ أنّ حرق الكتب في الحضارات القديمة، أو الضّاربة في القدم، ليس بالأمر المستغرب، ولا بالعمل المستعظم؛ لأنّ القدامى لم يكونوا من معظّمي الكتاب ولا من مُقدّسيها، فقد كانوا يعتبرون الكلمة الحيّة زائلةً، والكلمة المكتوبة دائمة ميّتة. فالمعلّمون القدامى من قامة فيثاغوراس وسقراط أو بوذا وغيرهم قد كان تعليمهم شفويّا يعتمد العبارة الحيّة المجنّحة. ولم يكن ينظر، في الشّرق، إلى الكتاب على أنّه يحتوي حقائق الأشياء، وإنّما هو يعين على اكتشافها فحسب. فلم يكن القدامى، في الشّرق كما في الغرب، يحترمون الكتاب كما نحترمه اليوم. ورغم أنّ الإسكندر العظيم كان يضع تحت وسادته سلاحيه الأثيرين: سيفه والإلياذة، فإنّ ملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسا» لم تكونا من الكتب المقدّسة، فلا شيء يمنع من انتقادهما والحطّ من قيمتهما. بل إنّ الكتب في تلك الأزمنة كان ينظر إليها بعين الرّيبة. أَوَلَم تصبح عبارة القدّيس أنسالم Anselm الشّهيرة: «أن تضع كتاباً بين يدي جاهل لا يقلّ خطورة من أن تضع سيفا بين يدي طفل» كالأمثال السّائرة. ويبدو أنّ عبارة القدّيس أنسالم هذه، كانت تترجم إستراتيجيّة في الحكم نفّذها قياصرة روما، طيلة قرون مديدة، لسياسة سكّان روما بجميع طبقاتهم. فكلّ من اطّلع على كتاب «الخبز والسّيرك» للمؤرّخ الفرنسي الكبير بول فاين Paul Veyne المتخصّص في التّاريخ الرّومانيّ يفهم لِمَ شيّد الرّومان المسارح وحلبات الصّراع الدّمويّ بين المصارعين من العبيد والمرتزقة في كلّ مدينة من مدن الإمبراطوريّة. فعبر هذه المؤسّسات الّتي كانت تُذكي لدى الجماهير الرّومانيّة عطشها إلى العنف الحيوانيّ، أصبح «السّيرك والخبز» تقنية في الحكم قد رعتها الإمبراطوريّة منذ عهد جوفينال Juvinal، الّذي ينسب إليه القول التّالي: «الشّعب الرّوماني، الّذي كان في أزمنة سابقة، يوزّع مناصب القضاء، وأكاليل الغار، ويرسل الفيالق، قد أصبح يوزّع أشياء متواضعة: فأقصى أمانيه أن يطالب بشيئين هما: خبزه والسّيرك.». وقد ظلّ الشّعب الرّوماني طيلة ستّة قرون من سنة 200 ق.م إلى 400 ب.م، وهي السّنة الّتي منع فيها الأباطرة الرّومان المسيحيّون هذه الاحتفالات، محكوماً بشيئين «الخبز» وعروض القتال في السّيرك. الإنسيّة والكتاب غير أنّ سياسة «الخبز والسّيرك» الّتي وسمت أسلوب الرّومان في الحكم لا تعني بالضّرورة أنّ الثّقافة الرّومانيّة هي ثقافة دمويّة، موجّهة لترويض أهواء العامّة، أو الطّبقات الدّنيا الوضيعة، أو «البروليتاريا»، (والكلمة من أصل لاتينيّ- proletarii)، أولئك «المنشغلين بوضع الأولاد في العالم» من الّذين تتحكّم فيهم قوى غضبيّة هائلة. فهذه الثّقافة قد أنجبت في المقابل أسماء شهيرة من قامة هوراس Horace وفيرجيل Virgile وشيشرون Cicéron وسيناك Sénèque، وغيرهم من الّذين ارتبط بهم لفظ «humanitas» (ويقابله في العربيّة تقريباً «المروءة»، و«الظّرف»، و«الأدب»). فهذا اللّفظ هو بمعنى من المعاني وليد انتشار ثقافة الكتاب. ويعني ذلك أنّ أيّ نزعة تجعل الإنسان مركزها وقِبْلَتَها هي في كلّ تجلّياتها التّاريخيّة نزعة إنسيّة «humanisme». وهي نزعة لا تظهر بذاتها، وإنّما من شروط وجودها التّقنيّة المادّيّة «الكتاب». فلا نزعة إنسيّة إن لم تلازمها «ثقافة الكتاب». وهذا التّلازم لا يمكن فهمه إلاّ إذا اعتبرنا أنّ النّزعة الإنسيّة، من منظور السّيكولوجيا السّياسيّة، إنّما هي «حركة ضدّ شيء مّا». فهي في جوهرها نزعة ملتزمة، لأنّها قد ألزمت نفسها بأن تنتشل الإنسان من «بربريّته» و«وحشيته». ولقد قدّم الرّومان لأوروبا الأنموذج الّذي حدّد هذه الفظاظة والوحشيّة الحيوانيّة من خلال نشاطهم العسكريّ وصناعة الفرجة والتّرفيه الدّائرة على الألعاب الدّمويّة في مسارحهم وحلبات الموت. فالغرض الضّمنيّ من كلّ نزعة إنسيّة إنّما هو الخروج بالكائن البشريّ من طور التّوحّش. ولا يمكن تحقيق هذا البرنامج إلاّ بالقراءة، أي ترويض الإنسان بالقراءة الجيّدة. فإذا فحصنا الثّقافات المتحضّرة (كالإغريقيّة والرّومانيّة والعربيّة الإسلاميّة والأوروبيّة...) وتأمّلنا فيها من المنظور النّفسيّ السّياسيّ، أو «السّيكولوجيا السّياسيّة»، لا بدّ أن نلاحظ انجذاب الإنسان إلى قوى متعارضة، كالخير والشّرّ، والتّوحّش والتّحضّر، والمادّيّة والرّوحانيّة... وهي قُوى يُمكن اختزالها في قوّتين فقط، هما: القوّة المتشوّقة «الإيروسيّة»، والقوّة الغضبيّة «الثّيموسيّة»، ويتصادم فيهما منطقان: منطق (الإيروس) المهيمن القائم على التّملّك والإنتاج والمتعة بالأشياء، ومنطق (الثّيموس)، الّذي ينهض على الاعتزاز والفخر والغضب والانتقام والحسد والغيرة والتّسابق والتّنافس وشوق الاعتراف. فإذا تأمّلنا في منظومة النّزعة الإنسيّة، في كلّ تجلّياتها التّاريخيّة في شتّى الثّقافات، لوجدنا أنّ من عقائدها الرّاسخة اعتبارها النّاس دون استثناء حيوانات متأثِّرة منفعِلة؛ لأنّها واقعة تحت تأثير إحدى القوّتين، الإيروسيّة أو الثّيموسيّة. فلفظ «humanitas» بهذا الاعتبار يعني معركة مستمرّة لدى الكائن البشريّ الّذي لا يمكنه أن يبلغ منتهى الكمال إلاّ بذاك الصّراع القائم بين النّزعات المروِّضة الّتي من تقنياتها الكتاب، والنّزعات الحيوانيّة الّتي من أنشطتها القتال. لقد كان من اليسير في عهد شيشرون التّعرّف إلى هاتين القوّتين المؤثّرتين، ذلك أنّ لكلّ واحدة منهما وسيطها médium الخاصّ. فالقوّة الحيوانيّة الهمجيّة قد شيّد لها الرّومان «السّيرك» والمسارحَ وحلباتِ القتال الدّمويّ بين المصارعين من العبيد والمرتزقة. وعبر هذه المؤسّسات الّتي كانت تُذكي لدى الجماهير الرّومانيّة عطشها إلى العنف الحيوانيّ، أصبحت سياسة «السّيرك والخبز» تقنية في الحكم مورست طيلة قرون. ولا يمكن أن نفهم النّزعة الإنسيّة القديمة حقّ الفهم إلاّ إذا تصوّرناها بمثابة نزاع وسائطيّ بين مؤسّستي «الكتاب» و«السّيرك». وهو نزاع قد ترجم في الواقع بالصّراع بين القراءة الإنسيّة، الّتي تدعو إلى التّسامح وحبّ المعرفة، وبين نشوة العنف الظّافرة، بوصفها تيّارا غضبيّا غير إنسيّ، يُسكر الجموع في المسارح والحلبات. فما كان الرّومان يسمّيه «humanitas»، لا يمكن تصوّره خارج هذا النّزاع الشّخصيّ الّذي كان يقتضي من الفرد الامتناع عن المشاركة في ثقافة الجماهير في مسارح الموت والقساوة. فكلّ صاحب مروءة يشعر، إذا اختلط بالجموع الهائجة، بأنّ همجيّتهم الحيوانيّة قد خالطته وسرت فيه، فأضحى بتلك المخالطة واحدا منهم. ولذلك نراه يخرج من المسرح إلى بيته وهو يشعر بالخزي من جرّاء مشاركته المرغمة المكرهة في هذه المشاعر المُعْدية. غير أنّ هذا الإحساس لا يعني شيئا آخر سوى أنّه أخطأ في اختيار الوسيط الّذي من شأنه أن يروّض طبيعته ويؤدّبها ليبلغ بها مبالغ المروءة ومنتهى الرّجوليّة والإنسانيّة. فغاية هذا الاختيار الوسائطيّ هو أن يتخلّص من عاداته الحيوانيّة، وأن يضع بينه وبين الانزلاقات اللاّبشريّة مسافة تَقِيه من الاختلاط بجماهير السّيرك الهادرة. فمفهوم «humanitas» الّذي يجعل من النّزعة الإنسيّة صراعا بين قوّتي «الإيروس» و«الثّيموس»، يحملنا على أن نرى في هذه المعضلة: «كيف يُمكن أن نَعْلَمَ أنّ بمقدور الكائن البشريّ أن يصبح كائنا إنسانيّاً حقيقيّاً؟» مجرّد مسألة تتعلّق بالوسيط، هذا إذا فهمنا من الوسيط وسائل الاجتماع والتّواصل الّتي بواسطتها أمكن للبشر أن يثقّفوا أنفسهم بأنفسهم ليصبحوا ما هم عليه، وما آلوا إليه. حلقات القراءة وإذا كانت كلّ «نزعة إنسيّة» في جوهرها معضلة «وسائطيّة» لا تظهر إلاّ إذا اختارت بعض الجماعات ثقافة الكتاب، وزاولت فنّ القراءة حتّى تتخلّص من تأثير القوى الغضبيّة العنيفة، فإنّ تاريخ القراءة يعلّمنا أنّ هذا النّشاط لم يكن البتّة نشاطا فرديا صامتا منعزلا، يقتضي هدوء المكتبات وصمت المعابد، وإنّما كان يؤدّى جهرا وبصوت عالٍ على نحو جماعيّ. ففنّ قراءة الكتب كان يزاول قديما في شكل حلقات، لأنّه كان يحتاج، من النّاحية السّوسيولوجيّة، إلى الجماعات الأدبيّة. فكلمة قارئ ينبغي أن تفهم دائما على أنّها «مفرد في صيغة الجمع». وهي حلقات تختلف عن حلبات الصّراع في السّيرك الرّومانيّ. ذلك أنّ فنّ القراءة هو قبل كلّ شيء فنّ استقبال رسائل الصّديق البعيد. وهذا الصّنف من الصّداقة - وينهض تقنيّا على المكتوب والكتابة والكتاب، وسوسيولوجيًّا على الجماعات الأدبيّة - هو ما نعرّف به كلّ نزعة إنسيّة مهما تكن الثّقافات الّتي ظهرت فيها مختلفة جغرافيّاً وتاريخيّاً. ينبغي أن نشير في هذا المقام إلى أنّ حلقات الاستقبال قد تشكّلت دوما على منوال «حلقة أدبيّة»، أي جماعة يكتشف أعضاؤها وأفرادها ومريدوها، بواسطة القراءة، حبّهم المشترك لرسائل الإغريق. ونجد في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة نظيرا لهذه الحلقات، نعرف منها على الأقلّ «جماعة إخوان الصّفاء وخلاّن الوفاء». وقد ذكرهم التّوحيدي في غضون حديثه عن زيد بن رفاعة بقوله: «وقد أقام (أي زيد بن رفاعة) بالبصرة زماناً طويلاً، وصادف بها جماعةً جامعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة؛ منهم أبو سليمان محمد بن معشر البيستي، ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني والعوفي وغيرهم، فصحبهم وخدمهم؛ وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة، وتصافت بالصّداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته، وذلك أنهم قالوا: الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضّلالات؛ ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلاّ بالفلسفة، وذلك لأنها حاويةٌ للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية. وزعموا أنّه متى انتظمت الفلسفة اليونانيّة والشّريعة العربيّة فقد حصل الكمال؛ وصنّفوا خمسين رسالةً في جميع أجزاء الفلسفة: علميها وعمليها، وأفردوا لها فهرستاً وسمّوها رسائل إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء، وكتموا أسماءهم، وبثّوها في الورّاقين، ولقّنوها للنّاس، وادّعوا أنّهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عز وجلّ، وطلب رضوانه، ليخلّصوا النّاس من الآراء الفاسدة الّتي تضرّ النّفوس، والعقائد الخبيثة الّتي تضرّ أصحابها، والأفعال المذمومة التي يشقى بها أهلها؛ وحشوا هذه الرّسائل بالكلم الدّينية والأمثال الشّرعيّة والحروف المحتملة والطّرق الموهمة.» (الإمتاع والمؤانسة، ج2، ص.ص4-5.). يؤكّد هذا الشّاهد أنّ أسطورة المؤلّف الفرد، وخرافة العبقريّ الفذّ، والمفكّر المنعزل في برجه العاجيّ، إنّما هي أسطورة قد راجت مع الرّومنطيقيّين، ولا أساس لها في الواقع، ولا وجود لها في التّاريخ. فكلّ فكر، وإن كان ممثّله فردا من العظماء أو شخصا من العباقرة، إنّما هو نتاج فكر جماعيّ. وسواء أكان هذا الفكر الجماعيّ منظّما في شكل حلقة أدبيّة، أم جماعات علميّة، أم مجالس فلسفيّة، أم كان منتظما في مؤسّسات كبيوت الحكمة والمكتبات، أم متّخذا صورة «الجيل الثّقافيّ» فإنّ هذا الفكر، مهما يكن مجاله المعرفيّ أو العلميّ، مرتبط ارتباطا وثيقا بالجماعة الّتي تمارس ذلك النّشاط الفكريّ. غير أنّ مثال «إخوان الصّفاء» يكشف شيئا آخر. فحلقات الفلاسفة الّتي ظهرت في زمانهم، وسجّل التّوحيدي في كتابه «المقابسات» بعض أحداثها، تدلّ على أنّ الفلسفة منذ أن وجدت بصفتها جنسا أدبيّا، كان من بين مهامّها الكثيرة أن تحثّ عشّاق الحكمة على الكتابة عن المحبّة والصّداقة، وأن تعقد بواسطة النّصّ المكتوب صداقات تمتدّ عبر الأجيال بواسطة سلاسل طويلة من النّاقلين والرّواة والتّراجمة والنّسّاخ الورّاقين. رسائل الرومان ولعلّ الحلقة الأساسيّة في هذه السّلسلة هو استقبال الرّومانيّين للرّسائل الإغريقيّة. فلو لم يكونوا على استعداد لاستقبالها وتملّكها لما عرفت الإمبراطوريّة الرّومانيّة، والثّقافات الأوروبيّة فيما بعد، هذا النّصّ الإغريقيّ العظيم. ولمّا كان من قواعد ثقافة المكتوب صعوبة التّكهّن بهويّة الأصدقاء الّذين سيتلقّفون الرّسالة، بات من الطّبيعيّ أن لا يدور بخلد الإغريق أنّ نصّهم الفلسفيّ سيقع بأيدي محبّي الحكمة من ذوي اللّسان العربيّ لتعهّده بالشّرح، ونقله بالتّرجمة إلى لسانهم. ولولا نشاط هؤلاء الفلاسفة وجهودهم وعشقهم للحكمة لما بلغت رسالة الإغريق إلى العرب والمسلمين، كما أنّه لولا جهود القرّاء «الهلّينيّن» الّذين كانوا على ذمّة الرّومان وفي خدمتهم لحلّ شفرة الحرف الإغريقيّ، لما كان الرّومانيّون أنفسهم بقادرين على الارتباط بعقد الصّداقة مع مرسلي هذه النّصوص الأوائل. فالصّداقات البعيدة تحتاج إلى أمرين حتّى تنعقد، الرّسائل وحاملي الرّسائل. بل لولا تدخّل الرومان ورغبتهم في الارتباط بعهود الصّداقة مع رسائل الإغريق الآتية من بعيد لما أمكن لهذه الرّسائل ذاتها أن تبلغ الفضاء الأوروبيّ الغربيّ. فإن كنّا اليوم نطرح المسائل الإنسانيّة بشتّى اللّغات فإنّ الفضل يعود إلى جهود الرّومان الأولى في قراءتهم لنصوص المعلّمين الإغريق على أنّها رسائل إلى أصدقاء يعيشون بإيطاليا. والحقّ أنّ مرسل هذا النّوع من رسائل الصّداقة، إنّما يرسل نصوصا إلى العالم بأسره وهو يجهل تمام الجهل القرّاء الّذين سيستقبلونها على مرّ الزّمان. فالصّداقة المفترضة بين مؤلّفي الكتب ومستقبلي الرّسائل، إنّما تمثّل حالا من أحوال «محبّة البعيد»، تلك الحال الّتي كان يعرفها نيتشه حقّ المعرفة، وفضّلها على «محبّة القريب». فمن خصائص المكتوب أنّه يقلب «محبّة الأليف القريب» إلى «محبّة البعيد البعيد». فالنّصّ لا يبني جسورا بين الأصدقاء المتباعدين جغرافيا زمن إصدار الرّسالة، وإنّما ينجز عملا يتمثّل في الإغراء من بُعْدٍ، والفتنة أو التّأثير على نحو سحريّ من مسافات بعيدة، لكشف الصّديق المجهول وحمله على الالتحاق بدائرة الأصدقاء. ويمكن لكلّ قارئ قد استقبل مثل هذه الرّسائل، فأثارته قراءة مضامينها، أن يؤوّل الكتاب بوصفه بطاقة دعوة تحثّه على الانضمام إلى حلقة مستقبلي الرّسائل. فبانضمامه ذاك يؤكّد بلوغ الرّسالة ووصولها إليه. إذا فهمنا النّزعة الإنسيّة على منوال «حلقة أدبيّة»، فإنّنا نكتشف في قلب هذه النّزعة حلم جماعة متكافلة قد جرى اصطفاء أعضائها للقراءة. فالقدرة على القراءة تعني في ذلك الزّمان الانتماء إلى نخبة محفوفة بالأسرار. بل إنّ معرفة أسرار الكتابة كان يعتبر آنذاك جوهر المعارف الباطنيّة والسّرّيّة. فقد كان ذوو المروءة من أهل العلم والأدب والحكمة يعتبرون آنذاك مجرّد جماعات تحتكر علم الكتابة وأسرار الحرف. وقد ظلّ هذا الاعتقاد ساريا حتّى ظهور الدّولة الوطن في الأزمنة الحديثة. فالقدرة على القراءة كانت تعني الانتماء إلى النّخبة المحفوفة بالأسرار. وكانت المعارف النّحويّة تعتبر في مواطن كثيرة جوهر السّحر الخالص. ويبدو أنّ اللّفظ «glamour» [الآسر السّاحر] الرّائج في أنجليزيّة العصر الوسيط مشتقّ من لفظ «grammar». وكان يعني (أي «glamour») عصرئذ: «ذاك الّذي يعرف القراءة والكتابة». فممثّلو النّزعة الإنسيّة كانوا يكوّنون دائما فرقة تحذق الكتابة والقراءة، وتعرف فكّ طلاسم الحرف وكشف أسراره. غير أنّ هذا الانغلاق قد تغيّر جذريّا في المجتمعات البرجوازيّة في القرنين التّاسع عشر والعشرين لمّا اتّسعت هذه الحلقات ونحتت على منوال «اللّيسي» الكلاسيكي، وأصبح منوال «الحلقة الأدبيّة» معيار كلّ «حلقة سياسيّة» لا يتميّز المنتمون إليها إلاّ بتشبّثهم بأنموذج القراءة الّذي ظلّ إجباريّا في الفضاء الوطنيّ. فإلى جانب الكتّاب القدامى من جميع أنحاء أوروبا، أضيفت إليهم قائمة الكتّاب الكلاسيكيّين من كلّ بلد، وكتّاب الأزمنة الحديثة، وذلك بفضل رواج أسواق الكتاب، وانتشار المدارس الكبرى. وبذلك أصبحت الآداب عند عموم النّاس دوافع جديدة ساهمت في نشأة أنموذج «الدّولة - الوطن»، والهويّات الوطنيّة الحديثة. فهل كان بإمكان الدّول في الأزمنة الحديثة إن لم تكن جموعا هائلة من الرّأي العامّ القارئ، وقد أصبحت بواسطة قراءة النّصوص نفسها أحلافا من الأصدقاء قد تقاسموا الرّوح نفسها. فواجب الخدمة العسكريّة المفروض على الشّبّان وقراءة النّصوص الكلاسيكيّة الكونيّة الواجبة على الفتيان والفتيات هما ما كان يميّز العصر البورجوازيّ الكلاسيكيّ، أي ذاك العصر الموسوم بثقافة إنسيّة مسلّحة ومثقّفة. فالإنسيّة البرجوازيّة لم تكن سوى تلك السّلطة المطلقة الّتي فرضت على الشّبّان قراءة الكلاسيكيّين، وإثبات الشّرعيّة الكونيّة للقراءة الوطنيّة. فالمجتمعات البرجوازيّة هي في النّهاية نتاج أدبيّ تواصليّ من «صداقة البعيد»، وثمرة علاقات بين قرّاء لا شيء يجمع بينهم سوى إعجابهم المشترك بكتّاب تثير قراءة نصوصهم حماسة لا حدّ لها. بيد أنّ هذا الأنموذج من المجتمعات المحبّة للكتاب قد عفا عليه الزّمن وتجاوزته الأحداث لا بسبب انحطاط ثقافة الكتاب، وإنّما لأنّ عصر الإنسيّات الوطنيّة والبرجوازيّة قد بلغ منتهاه، لأنّ فنّ كتابة الرّسائل الّذي يطمح إلى بلوغ محبّة الأصدقاء لم يعد قادرا على إقامة جسور التّواصل بين سكّان المجتمعات الحديثة. فبانتشار ثقافة الجماهير في المجتمعات الصّناعيّة عبر الوسائط الجديدة كالرّاديو (1918) والتّلفزة بعد 1945، ثمّ انفجار الشّبكات الاجتماعيّة بفضل ثورة الميديا اليوم، تكوّنت أسس جديدة للتّواجد بين البشر في المجتمعات الرّاهنة. ويمكن أن نسمّي هذه المجتمعات دون عسر بأنّها مجتمعات «ما بعد الحلقات الأدبيّة»، و«ما بعد التّواصل بالرّسائل»، و«ما بعد إنسيّة». وهذه السّابقة «ما بعد» يمكن تعويضها بكلمة «هامشيّ». ذلك أنّ المجتمعات الحديثة الكبرى لم يعد بمقدورها أن تنتج أبنيتها السّياسيّة والثّقافيّة بواسطة قنواتها الأدبيّة وبثّ الرّسائل والنّزعات الإنسيّة إلاّ على نحو هامشيّ. أصدقاء المسافات البعيدة الصّداقة المفترضة بين مؤلّفي الكتب ومستقبلي الرّسائل، إنّما تمثّل حالاً من أحوال «محبّة البعيد»، تلك الحال الّتي كان يعرفها نيتشه حقّ المعرفة، وفضّلها على «محبّة القريب». فمن خصائص المكتوب أنّه يقلب «محبّة الأليف القريب» إلى «محبّة البعيد البعيد». فالنّصّ لا يبني جسوراً بين الأصدقاء المتباعدين جغرافياً زمن إصدار الرّسالة، وإنّما ينجز عملاً يتمثّل في الإغراء من بُعْدٍ، والفتنة أو التّأثير على نحو سحريّ من مسافات بعيدة، لكشف الصّديق المجهول وحمله على الالتحاق بدائرة الأصدقاء. ويمكن لكلّ قارئ قد استقبل مثل هذه الرّسائل، فأثارته قراءة مضامينها، أن يؤوّل الكتاب بوصفه بطاقة دعوة تحثّه على الانضمام إلى حلقة مستقبلي الرّسائل. فبانضمامه ذاك يؤكّد بلوغ الرّسالة ووصولها إليه. صراع إذا فحصنا الثّقافات المتحضّرة (كالإغريقيّة والرّومانيّة والعربيّة الإسلاميّة والأوروبيّة...) وتأمّلنا فيها من المنظور النّفسيّ السّياسيّ، أو «السّيكولوجيا السّياسيّة»، لا بدّ أن نلاحظ انجذاب الإنسان إلى قوى متعارضة، كالخير والشّرّ، والتّوحّش والتّحضّر، والمادّيّة والرّوحانيّة... وهي قُوى يُمكن اختزالها في قوّتين فقط، هما: القوّة المتشوّقة «الإيروسيّة»، والقوّة الغضبيّة «الثّيموسيّة»، ويتصادم فيهما منطقان: منطق (الإيروس) المهيمن القائم على التّملّك والإنتاج والمتعة بالأشياء، ومنطق (الثّيموس) الّذي ينهض على الاعتزاز والفخر والغضب والانتقام والحسد والغيرة وشوق الاعتراف. فلفظ «humanitas» بهذا الاعتبار يعني معركة مستمرّة لدى الكائن البشريّ الّذي لا يمكنه أن يبلغ منتهى الكمال إلاّ بذاك الصّراع القائم بين النّزعات المروِّضة الّتي من تقنياتها الكتاب، والنّزعات الحيوانيّة الّتي من أنشطتها القتال. الكتاب لم يكن محترماً حرق الكتب في الحضارات القديمة، أو الضّاربة في القدم، ليس بالأمر المستغرب، ولا بالعمل المستعظم، لأنّ القدامى لم يكونوا من معظّمي الكتاب ولا من مُقدّسيها، فقد كانوا يعتبرون الكلمة الحيّة زائلةً، والكلمة المكتوبة دائمة ميّتة. فالمعلّمون القدامى من قامة فيثاغوراس وسقراط أو بوذا وغيرهم قد كان تعليمهم شفويّا يعتمد العبارة الحيّة المجنّحة. ولم يكن ينظر، في الشّرق، إلى الكتاب على أنّه يحتوي حقائق الأشياء، وإنّما هو يعين على اكتشافها فحسب. فلم يكن القدامى، في الشّرق كما في الغرب، يحترمون الكتاب كما نحترمه اليوم. حلقات النخبة.. الحالمة إذا فهمنا النّزعة الإنسيّة على منوال «حلقة أدبيّة»، فإنّنا نكتشف في قلب هذه النّزعة حلم جماعة متكافلة قد جرى اصطفاء أعضائها للقراءة. فالقدرة على القراءة تعني في ذلك الزّمان الانتماء إلى نخبة محفوفة بالأسرار. بل إنّ معرفة أسرار الكتابة كانت تعتبر آنذاك جوهر المعارف الباطنيّة والسّرّيّة. فقد كان ذوو المروءة من أهل العلم والأدب والحكمة يعتبرون آنذاك مجرّد جماعات تحتكر علم الكتابة وأسرار الحرف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©