الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ريجيس دوبريه: التحديث تراجع والعولمة بَلْقَنة

ريجيس دوبريه: التحديث تراجع والعولمة بَلْقَنة
20 ديسمبر 2018 01:30

حوار: عمر مرزوق *
ترجمة انطوان جوكي

مقارنة بمعظم فلاسفة ومفكّري عصرنا، يتميّز الفرنسي ريجيس دوبريه بمسيرة تخرج عن المألوف، بهاجس اللغة والأسلوب، وبنزاهة فكرية تعزّز ميلاً إلى العراك والمجادلة، لكن دائماً بسلاح الفكر وأدواته. ويمكننا متابعة تعداد مميزاته، لكننا سننسى حتماً بعضها نظراً إلى غزارتها. وإن نجحنا في ذلك، لن نتمكّن بواسطتها من فهم سرّ جاذبية شخصيته ومحاصرة كافة إسهاماته الفكرية. جاذبية وإسهامات تفسّر، في حال أضفنا عليهما جرأته الكبيرة على مواجهة نفسه والآخرين وقضايا عصره، ذلك الموقع الفريد الذي يحتله في المشهد الفكري الراهن.
مَن لا يعرف دوبريه جيداً يختزله بنضاله في كوبا وبوليفيا في الستينيات، إلى جانب تشي غيفارا، وبنشاطه الدبلوماسي في كنف فرنسوا ميتران في الثمانينيات، علماً أن أهميته تكمن قبل أي شيء في مؤلفاته التي وضعها في ميادين الفكر والفلسفة والسياسة والسيرة الذاتية والأدب، وتجاوز عددها السبعين. وإذ لا مجال هنا للخوض في قيمتها ومضمونها، نشير إلى أنها تعكس موهبة كتابية قلّ نظيرها وبصيرةً نادرة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بتشخيص أمراض عالمنا اليوم، غرباً وشرقاً.
بصيرة تتجلى في الحوار الذي أجراه معه هذا العام الكاتب والصحافي الجزائري عمر مرزوق لمجلة «دفاتر الإسلام» الفرنسية، في 18 أيار الماضي، وتناولا فيه مواضيع راهنة مهمة، كـ «حوار الحضارات»، «صدام الحضارات»، ماهيّة الغرب وأسباب انحداره، إشكالية التحديث والعولمة، وظاهرة التطرّف الديني. في ما يلي ترجمة عربية لنص الحوار:

* في أحد كتبك، تعتبر أن «حوار الحضارات» ميثة، صيغة وَرِعة، «العقيدة الأخيرة في عالم بلا عقيدة». لماذا تقول كل ذلك؟ وإن كان ما تقوله مبنياً، ما فائدة هذه العبارة؟ ومَن تفيد؟ وما هي وظيفتها؟
** أقل ما يمكن أن أقوله هو أنني فوجئت برؤية ظهور اختصاصيين في الحوار يلتقون في العالم أجمع، كل ثلاثة أشهر تقريباً، دائماً الوجوه نفسها. وبدا لي أنهم يضطلعون بوظيفة إلهاء طقوسية لم تكن تمنع العنف إطلاقاً من النمو ولا كانت تقود إلى التعمّق في أي إرث ثقافي. وهو ما جعلني أقدّر إذاً أن في ذلك النشاط نيّة حميدة بالمعنى الأخلاقي والسياسي للكلمة، لكنه مرتبط بمسألة إرضاء الغرب ضميره، ويشكّل بالتالي توقاً سطحياً إلى التقارُب لا يسمح بمواجهة الخصوصيات الجماعية الحقيقية.

صدام الحضارات
* حول «صدام الحضارات» المفترض، تقول إنه «جيوسياسة عسيرة الهضم». هل من حقيقة في هذا «الصدام»، أم أن الأمر مجرّد ثرثرة؟
** هنالك أولاً حسّ التسويق والشعار الأميركي، فكلمة «صدام» سهلٌ بيعها أو تسويقها، لكن لا يمكننا إنكار أن الحضارات تولد وتتعاقب بتمايزها الواحدة عن الأخرى من خلال مواجهات تاريخية. من البديهي أن المسيحية تطوّرت كمقابل لليهودية، والإسلام تطوّر كمقابل لليهودية والمسيحية، والبوذية كمقابل للهندوسية. طبعاً، أنا أنطلق هنا من مبدأ أن كل حضارة تقوم على تقليد ديني. صحيح أن ثمة تهجينات، اشتقاقات أو استعارة خطوط عريضة أو صيَغ، لكنها تتعلّق بتعاون نِزاعيّ وليس بصدامٍ فجّ. ومع ذلك، الهوية صراعٌ، والصراع يفترض عدواً. ومن هذا المنطلق، لا يوجد «لقاء» لا يتّكئ على «تضارب». وبالنتيجة، الصورة البيانية «هم/‏‏ نحن» تبدو لي صورة طبيعية لتطوّر الحضارات.

* هل أن «اللقاء» يساهم في تشييد «التضارُب»؟
** نعم مثلما أن المراهق يشيّد نفسه ضد والديه، على الثقافة التي تريد أن تثبت نفسها وتصبح حضارة أن تفعل ذلك ضمن مقابلة مع الثقافة السابقة لها. هذا ما يبيّنه على أي حال التطوّر التاريخي. ولذلك، ثمة دائماً ولادة مؤلمة في مبدأ كل حضارة.

انحدار الغرب
* تناولتَ في الصحافة الفرنسية موضوع «انحدار الغرب»، هل أن الأمر مشكلة حقيقية؟ هل ثمة ما يبرر في الغرب الانشغال بهذه المسألة، كما هو حاصل؟
** مفهوم الـ «غرب» إشكالي بذاته. إنه مفهوم مفخَّخ، وفي النهاية عدائي. في نظري، إنه ما تبقّى من الاستعمار. يجب أولاً تعريف هذه الكلمة. أولئك الذين يستخدمونها يتحفّظون عن تعريف مكوّناتها، حدودها وطبيعتها. كلمة «غرب» اليوم هي ما يمنح مشروعية لحقيقة أن أميركا ألحقت أوروبا بها. الغربيون (ونقصد المتحمّسون لفكرة الغرب) هم أطلسيون (نسبةً إلى الحلف الأطلسي)، لكن بما أنهم لا يتجرّأون على قول هذه الحقيقة، بدلاً من الإقرار بالهيمنة الأميركية، يفضّلون تغليف ذلك بعبارة «غرب» المقوِّمة من دون أن يعمدوا إلى تحديدها.

* لقد صرّحتَ يوماً بأن «التحديث تراجُع والعولمة بلقنة». ماذا تقصد بذلك؟
** ما أقصده هو أن التحديث التقني ـ الاقتصادي هو بلقنة سياسية ـ ثقافية. لماذا؟ لأن التحديث الجاري هو مرادف للتنميط وتوحيد الأدوات، وبالنتيجة مرادف لتوحيد الحياة الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي لا يمكن إلا أن يؤدّي إلى فقدان في الانتماء وإلى تسوية تتعرّض للخصوصيات القومية أو الثقافية. ويولّد هذا الفراغ في الانتماء حاجة إلى التنفّس وبالتالي عودة إلى هويات مبنية على عناصر ضاربة في القِدَم (archaisms) ومؤسِّسة. بعبارة أخرى، «القرية الشاملة» ليست شاملة إلا في أجهزتها وأدواتها، لكنها أكثر فأكثر مصدَّعة ومشظّاة في مُعيشها الثقافي. وهذا ما يقودني إلى القول إن ما بعد الحداثة سيعود بنا أكثر فأكثر إلى القديم (archaic) بسبب نزعة اللاتمييز (أو التنميط) المهدِّدة التي تستدعي تلقائياً تلك الإحياءات اللغوية والدينية كمقابِلٍ مشروع لها.

* وفي هذا السياق، هل أن اليسار تحديداً أخذ مسألة الدين على محمل الجدّ؟
** لا. التقدمية خلال القرن التاسع عشر، التي بقيت في هذه النقطة وفيّة لعصر «الأنوار»، طرحت كمسلَّمة انخساف الاعتقاد الديني أمام العقل وامّحاء الماضي على يد الحاضر الذي سيُنتج مستقبلاً نقياً من أي تنبُّه أو استحضار لما هو سابق. لكننا نستنتج العكس، فالملاحَظ أن ما هو أكثر قُدُماً هو القادر أكثر على المقاومة وأن الأحدث (زمنياً) هو الذي يتفتّت بسرعة في حالات الأزمة المعمَّمة. وهذا ما نستنتجه أيضاً في علم النفس المرضي حيث غالباً ما يفقد المريض ذاكرة ما فعله أمس، لكنه يستعيد ذاكرة ما كان يفعله قبل خمسين عاماً. ما اكتشفناه في العمق هو أن ما هو ضارِب في القِدَم (archaic) ليس ما هو بالٍ، بل ما يتحكّم بنا. Archê باللغة الإغريقية تعني الأصل والمهيمِن في الوقت نفسه. ما يصعب كثيراً على الإنسان اليساري اليوم هو التفكير بطريقة عمودية وليس أفقية، أي التوقف عن الاعتقاد بتطوّرٍ خطوطي يلغي ما هو خلفه بمقدار تقدّمه، لأنه يمكن ما هو خلفنا أن يكون أمامنا. هذه الحقيقة ستُجبِر اليساريين على أخذ الديني محمل الجدّ، وعلى محاولة فهم ما يفعله هنا، وسبب حضوره، وبالتالي على دراسته لا احتقاره.

التطرف
* ما كان ردّ فعلك على الاعتداءات التي شهدتها باريس عام 2015؟ هل فاجأتك؟
** فلنقل إنها دليل على وَهْنِ المرحلة السياسية من التحرّر، ومن دون شك، على هزيمة الأيديولوجيات التقدّمية، التطوّرية، الصناعية، وإذاً على فشل الاستقلالات واستنفاد الميثات التقدّمية في الغرب الذي خلق فراغاً روحياً كبيراً أدّى إلى انبعاث ميثات ظننا أنها توارت، بدءاً بميثة الفردوس.

* ما جوابك على اللذين اعتبروا مرتكبي هذه الاعتداءات «فاشيين» والخطاب الديني مجرّد تستُّر أو تنكُّر، كالفيلسوف ألان باديو؟
** لا شك في أننا أمام حركات رجعية في العمق. لكن من المغامرة أن ننعتها بـ «الفاشية». الفاشية وثنية، الفاشية دولانية (من دولة). أما هذه الحركات فتبدو لي أخطر من الفاشية.

* لكن الفاشية ألحقت الكثير من الضرر...
** الفاشية كانت ديانة علمانية (secular) دامت فترة تاريخية قصيرة جداً واستندت كلياً على تفوقّها العسكري، لكنها لم تكن مترسّخة بعمق في العقليات، بخلاف الحركات المذكورة التي تشكّل موجة محرِّكة لعناصر ضاربة في القِدَم، وتملك جذوراً أعمق بكثير...

* عميقة إلى حد عدم إلقاء الحرم عليها من قبل المؤسسات الإسلامية الكبرى.
** فلنقل إن على الإسلام أن يقوم بالعمل الذي قامت به المسيحية لدى بروز الحركات الإصلاحية داخلها أولاً، ثم لدى مواجهتها الحداثة. لعل الإسلام عرف مرحلة النهضة قبل مرحلة القرون الوسطى، بعكس ما حصل هنا، في أوروبا. بعيداً عن إرادة إضفاء صبغة مثالية على قرون الإسلام الأولى، كان هنالك تراكم علمي، نقدي وجمالي هائل جمده في لحظة معيّنة تشريع الفقهاء.

* مرتكبو اعتداءات 2015 هم شبّان وُلدوا ودرسوا في فرنسا، ولم تُنقَل إليهم المعارف الإسلامية التقليدية. شبّان منقطعون إذاً عن الثقافة الإسلامية ولا يتقنون حتى اللغة العربية، ومع ذلك، هم الذين أغرتهم عقيدة الحركات الأصولية القاتلة. أما من مفارقة هنا؟

** فشلت الجمهورية الفرنسية في دمج هؤلاء الشبّان في سرديةٍ كبرى قادرة على إغراء الخيال وحشد الأجساد. أنتج سقوط المقدَّس العلماني عودة إلى المقدَّس الديني الذي يوفّر هوية بأقل تكلفة، إن جاز هذا التعبير. نحن في أوروبا عرفنا هذا النوع من الظلاميين في القرن السادس عشر، مع الحروب الدينية، وقد ارتبط ذلك بتشكُّل المدن الكبرى وجهدِ محو الأمّية الأول الذي سمح لأولئك الذين كانوا يعيشون في القرن المذكور، وجزئياً في القرن اللاحق، بإجراء اتصال مباشر بالنصوص المقدَّسة من دون العبور بالوساطات التفسيرية. من هنا كان انبثاق كل أنواع البِدَع التي كان لكلّ منها قراءة تأويلية خاصة للنصوص المقدَّسة، الأمر الذي خلق سديماً هائلاً في الغرب المسيحي. اليوم، نشاهد الجهد الثاني لمحو الأمية، على مستوى جماهيري، في البلدان التي تسمّى بالعالم الثالث؛ جهدٌ يقفز فوق الوساطات الأكاديمية وحتى الدينية ضمن فوضى تأويلية نابذة للمركز وتتعذّر السيطرة عليها. ويرتبط ذلك أيضاً بتشكُّل مدنٍ كبرى والاقتلاع من موطن الولادة، كما يرتبط بذلك النوع من العزلة والإهمال اللذين تتخبّط فيهما الطبقات الكادحة وقليلة التعليم. إنها إذاً سيرورة معقّدة تلك التي تخلّف هذه الراديكالية المختصرة.

* في نظرك إذاً، إن العالم المسلم يعيش اليوم ما عاشته أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر...
** هكذا أراه. وفقاً لنظرية الوساطات التقنية والمؤسساتية للثقافة التي وضعتُها (médiologie)، لقد خرج سكّان العالم المسلم من دائرة الكتابة الخطّية، وباتوا يقتاتون من الصِيَغ الجاهزة سلفاً والصور والشعارات التي تصلهم عن طريق التقنيات الرقمية. وهذا أحد الأدلّة على أن التقدّم التقني يمكن أن يخلّف تراجعاً ثقافياً.
* عمر مرزوق: صحافي جزائري يكتب بانتظام في جريدة «وهران» الفرانكفونية. من أعماله، أطروحة دكتوراه في تاريخ الفلسفة حول أرسطو وابن رشد، وكتاب بعنوان «هل من فلسفة إسلامية؟».

سيرة مقتضبة
ريجيس دوبريه، من مواليد 1940، التحق بالمناضل الشهير تشي غيفارا في كوبا عام 1965 وناضل إلى جانبه، قبل أن تعتقله السلطات البوليفية عام 1967 ويواجه حكماً بالإعدام، إثر محاكمته، ما لبث أن خُفِّف إلى السجن مدة ثلاثين عاماً بفضل الحملة الدولية التي قادها جان بول سارتر للإفراج عنه. وبعد أربع سنوات في الزنزانة، أخلي سبيله إثر تغيُّر النظام في بوليفيا. في الثمانينيات، أدّى دور المستشار لفرنسوا ميتران الذي كلّفه بمهمات دبلوماسية مختلفة، ثم غادر هذا المعترك ورصد وقته للبحث والكتابة فوضع عام 1993 أطروحة دكتوراه بعنوان، «حياة وموت الصورة تاريخ النظرة في الغرب»، وعام 1996، نظرية «الوساطات التقنية والمؤسساتية للثقافة» (La médiologie) التي تشكّل خير ركيزة لدراسة التفاعلات بين التقنيات والثقافة، وبالتالي سُبُل نقل المعنى داخل الفضاء والزمن. من أبرز مؤلفاته: «ثورة داخل الثورة؟» (1967)، «نقد العقل السياسي» (1981)، «مديح المُثُل الضائعة» (1992)، «النار المقدّسة: وظيفة الديني» (2003)، «الفحش الديمقراطي» (2007)، «أسطورة معاصرة: حوار الحضارات» (2007)، «ماذا تبقّى من الغرب؟» (2014)، من دون أن ننسى «إلى صديق إسرائيلي» (2010) الذي انقضّ فيه على طبيعة دولة إسرائيل وسياساتها، وفضح عملية تقديس محرقة اليهود التي تعمي الغرب إلى حدّ تجعله لا يرى الطبيعة الاستعمارية لهذه الدولة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©