الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

النقد.. غائب ومغيَّب ومغرَّب

النقد.. غائب ومغيَّب ومغرَّب
20 ديسمبر 2018 01:30

تحقيق: محمد عبد السميع

لماذا لا يواكب الإنتاج الأدبيّ الغزير في الإمارات؟
سيظل سؤال.. أين الناقد الأدبي، وأين دور النقد في مشهد إبداعي ما، يُثار بين فترة وأخرى. من المفترض أن الإبداع يسبق النقد، وأن النقد يأتي لاحقاً حينما يتعافى الإبداع ويُثبت جدارته ووجوده ويواكب ما يثار من قضايا إبداعية، ولأن الإبداع الأدبي، شعراً ونثراً في الإمارات حقق طفرة غير مسبوقة، وصار المبدع الإماراتي على خريطة الإبداع العربي، بفضل اهتمام المؤسسة الثقافية الرسمية بالإبداع والمبدعين، ورعاية حركة النشر وغيرها من الفعاليات الثقافية برز سؤال: أين الناقد الإماراتي من حركة الإبداع؟ لماذا لم تفرز هذه الحركة نقاداً ومفكرين بالتوازي مع الإبداع؟ وهل ثمة غياب حقيقي للناقد الإماراتي؟ وهل النقاد العرب الذين يعيشون في الإمارات منذ سنوات طويلة يمكن أن يحثوا على المشهد النقدي الإماراتي؟ كل هذه أسئلة طرحها «الاتحاد الثقافي» على مجموعة من النقاد والمبدعين الإماراتيين والعرب.
بسؤال الناقد يوسف حطّيني، أستاذ النقد والأدب بجامعة الإمارات، عن حال النقد في الإمارات يرى أنّ الأدب إنشاء، وكذلك النقد إنشاء عن إنشاء، ووظيفته تطوير هذا الأدب من خلال إضاءة ما هو إيجابي، والتنبيه على ما هو سلبي. وإذا كان بعض النقد لم يكن مخلصاً لهدفه النبيل، واكتفى بمجاملة الكاتب، موحياً له بإبداعه، وفرادة نصه الأدبي؛ فإنه سبب الضرر لمبدع كان من الممكن أن يطوّر نفسه نحو الأفضل، عندما أقنعه أنه الأفضل، متناسياً (أقصد الناقد لا المبدع) أنه لا شكل نهائياً للفن، وأن ثمة دائماً ما هو أفضل وأجمل.
ويؤكد حطيني على أنّ في نقد الأدب الإماراتي نقاداً يشار إليهم بالبنان، حاوروا النصوص بحيادية، وأشادوا بإيجابياتها ونبهوا على سلبياتها، وأدركوا دور النقاد في تطوير العمل الأدبي، ومنهم د. سمر روحي الفيصل، د. الرشيد بو شعير، د. صالح هويدي، د. رسول محمد رسول، ود. محمد ولد عبدي وآخرون.
ويضيف أن هؤلاء النقاد أدركوا أن النقد الذي يطوّر الأدب الإماراتي هو نقد يدرس النصوص المنفردة دراسات عمودية، (مع أهمية دراسات تاريخ الأدب والظواهر الأدبية)، لأنّ دراسة النصوص المنفردة تستخرج مكنوناتها، وربما تستخرج بعض سلبياتها التي تساعد المبدعين على تلافيها لاحقاً، ولعلّ من المفيد أن نشير إلى أنّ مثل هذه الدراسات النقدية ينبغي أن تتجنب المناهج المسبقة، وأن تؤمن أن النص هو مرجع ذاته ومفرز أدواته النقدية، وأنّ من واجب الناقد استخراج الأبرز في النص الإبداعي، وتركيز الضوء عليه، بما يخدم النقد والإبداع في آنٍ معاً.

التوازن الغائب
في حين أن د. سمر روحي الفيصل يرى أن سّؤال: أين النّاقد الأدبيّ؟ يوحي بأمرين؛ أمر حاجة السّاحة الأدبيّة إلى النّقد الأدبيّ، وأمر التّنبيه على غياب النّاقد الذي يروز النّصوص، ويُحدِّد مكانتها بين مثيلاتها. والأمران معاً يدلان على أنّ المتلقّين العرب، في هذه الأيّام، بدؤوا يشعرون بعدم التّوازن بين الإنتاج الأدبيّ الغزير، والنّقد الذي يواكبه ويرود آفاقه.
ويرجع روحي الفيصل قضيّة غياب النّاقد الأدبيّ إلى وجود مخاوف تعصف بالمؤسّسة الأدبيّة العربيّة، وأوّل تجلّيات هذه المخاوف انتقال بعض الأدب والنّقد إلى السّاحة الرّقميّة. وثانيها عودة الرّقابة الصّارمة إلى المطبوعات الورقيّة، وتراجع حرّيّة التّعبير في العقد الأخير. وثالثها ضَعْف اللّغة العربيّة في النّصوص الأدبيّة الجديدة، وسكوت النّقّاد عن ظاهرة التّردّي اللّغويّ. صحيح أنّ النّاقد قد يتمكّن من التّحايل على الرّقابة، وقد يتمكّن من التّنبيه على الأخطاء في المفردات والتّراكيب والأساليب، لكنّ الصّحيح أيضاً أنّه لا يستطيع التّصريح بغياب حرّيّة التّعبير، شأنه في ذلك شأن الأديب.
لذلك يرى الفيصل أن النّقّاد يميلون إلى الدّراسات الأدبيّة بدلاً من الدّراسات النّقديّة، وإلى الدّراسات الشّكليّة البعيدة عن أحكام القيمة.
ويرى الفيصل أن النّاقد ليس عدوّاً للأديب، إنّما هو قارئ مختلف عن الأديب. ذلك أنّ القَصْد الذي يرغب الأديب في تقديمه للمتلقّي قد يختلف عن قَصْد النّصّ، وعن القصد الذي تُقدّمه قراءة النّاقد للنّصّ نفسه. ومن المفيد أن يؤمن الأديب بأنّ نصّه لم يبق مِلْكه بعد طباعته، وأنّ النّاقد لا يُقدّم قراءة نهائيّة للنّصّ؛ لأنّ القراءات تتعدَّد بتعدُّد النّقّاد والقرّاء، فضلاً عن أنّ القراءة مرتبطة باهتمامات النّاقد وثقافته وتجربته القرائيّة.
ويعتقد الفيصل أن الخطوة الثّانية في عرقلة الانحدار هي إيمان الأديب بأنّ النّاقد ليس «موظّفاً» عنده، وليس تابعاً لأعماله الأدبيّة، إنّما هو عامل على تنمية التّذوُّق الجماليّ للنّصوص الأدبيّة. ومن غير المفيد أن يعتقد الأديب أنّ جودة المضمون تصنع الجمال وحدها، أو تستطيع، وحدها أيضاً، الارتقاء به عند المتلقّي.

المبدع الغائب
الكاتب عبد الفتاح صبري يرى أنه من آن لآخر يثار موضوع النقد في الإمارات واللافت أنها تثار منذ عقود، ويتساءل: لماذا لا يثار موضوع الإبداع، ومن المعلوم أن الإبداع يسبق الفعل والأداء، وبديهي أن يسبق الكم دون النظر إلى «الجوهر والماهية» الفنية.
وأضاف صبري أن الناقد الأكاديمي أساساً يغيب عن ساحة الأداء لأسبابه، والناقد الذي يتفاعل يغيب عن منصة النشر سواء كانت مكتوبة أو مسموعة، أي غياب الصحيفة، كما أن منصات المؤسسات التي تقيم أمسيات حية أصبحت متحولة لتوجيهات ونتاجات وأشكال أخرى غير النقد، أو القراءة المتعمقة لخلق حراك نقدي يساهم في إثراء الساحة وردم الفجوة بين النقد والنص.
وأشار صبري إلى أن الشارقة لديها ملتقى الشارقة للسرد الذي أصبح على سبيل المثال من أهم الملتقيات والمختبرات العربية، وتقوم فيه نخبة من نقاد الوطن والوطن العربي بفحص ودراسة فنيات الرواية والقصة.
واختتم صبري الحديث عن أزمة النقد بقوله إنه لا بد من البداية الحديث عن المبدع الغائب، وعن الكتاب الذي لا يصل إلى فاحصه، أيضاً الناقد الذي لا يواكب التطور.

المكان الغائب
ترى الناقدة والشاعرة الإماراتية د. أمينة ذيبان أن النقد متراجع، إماراتياً، وأن نسبة هذا التراجع تعود إلى علاقة اللغة الأصيلة مقابل اللغات المسيطرة مثل اللغة الهندية والأوردو والإنجليزية، فمخيلة الناقد مفقودة بسبب العبث بالمعنى، فاللغة معين وهي لغة الداخل ولغة الخارج ولغة كل شيء، والنص في نهايته ما هو إلا فكرة تبقى مرتبطة بمعنى لغوي إنساني متطور أو منحى إنساني فكري، فالقراءة النصية تعني سباحة وسط الفكرة وليست هي الفكرة.
وأكدت ذيبان أن ثقافة المكان غائبة عن الكاتب، مثل تضاريس دول الخليج وتاريخه وحتى بعض الحوادث، مثل: حوادث الغرق في الخليج، والهجرات، وغيرها، فشفافية المكان تكاد تكون مفقودة، حيث إن الكاتب لدينا يغيب عنه المكان الحقيقي.
وقالت إن النقد الخليجي عموماً تحول إلى حالة من الاسترخاء تبعاً لطبيعة الحياة ذاتها، مؤكدة أن النقد الأصيل في النهاية بحاجة إلى الكاتب الأصيل لكي يتمكن من ممارسة النقد تبعاً لأصالة النص.
وتطرقت ذيبان إلى مشكلة النقد المحلي المخترق بمفاهيم غربية نابعة من الخارج، وذلك بسبب اعتماد النقاد العرب عموماً على المنهج الغربي في النقد، موضحة أن الرواية المحلية يقرأها ناقد متمكن في النقد، لكنه مع ذلك مغرق في الغربة عن الأصول المحلية، فالدراسة النقدية للأدب العربي دراسة انفصام وانفصال وليست دراسة اتصال، ومما لا شك فيه أن انطلاق الناقد من مرجعية أجنبية يسبب شرخاً بين النص والنقد.

احتفاء نقدي
يرى الأكاديمي جمال مقابلة، أستاذ النقد والأدب في جامعة الإمارات، أن النقد الأدبي في الإمارات يعيش حالة من الانتعاش والتفاعل والازدهار غير مسبوقة هذه الأيام لأسباب؛ منها: الدعم الحكومي والأهلي المنقطع النظير للثقافة والفكر والأدب بفنونه الشعريّة والنثريّة من خلال المؤسّسات الجادة في الإمارات السبع، ولكن تمتاز مؤسّسات أبوظبي والشارقة ودبي بصورة خاصّة بدعمها للجوائز الأدبية والنشر والترجمة والملتقيات الخاصة بالسرد والشعر، وما يكتنف ذلك ويرافقه من نشر للأعمال الأدبية ونقدها الذي يتفاعل مع تلك الأعمال تحكيماً ودراسة وتطويراً وتحليلاً يجعلها في متناول القرّاء، في المهرجانات وفِي معرضي الكتاب في الشارقة وأبوظبي، اللذين يشتملان أيضاً على ندوات نقدية تعرض لأدب الإمارات وللأدب العربي والعالمي على السواء، بأقلام نقاد إماراتيين أو عرب أو عالميين.
ويؤكد مقابلة أننا إذا ذهبنا إلى مكتبات الجامعات، أو إلى منشورات النقد والأدب في دور النشر الإماراتية والعربية، فإنّنا سنجد احتفاء نقدياً أكاديمياً كبيراً بالحركة الأدبية في الإمارات والخليج؛ لأنّها تأتي تلبية للخطط الدراسية التي تولي اهتماماً خاصّاً بتدريس أدب الإمارات والخليج، فتجد الدراسات النقدية الجادة للشعر والقصة القصيرة وللرواية وللشعر النبطي والفولكلور الإماراتي.
ويضيف مقابلة أن النقد المجامل قد يؤدي إلى تسرّع في النشر لدى جيل الشباب من المبدعين الواعدين فلا يقدمون أعمالاً ترقى إلى مستوى من النشر مقبول، وتأتي بعض النشرات المتسرعة غير المدققة وقد شابتها الكثير من الأخطاء التي كان بالإمكان تلافيها بالتريث والإنضاج على مهل.

الموضوعية الغائبة
كذلك توجهنا بذات السؤال إلى الأكاديمي مصطفى عطية جمعة الذي رأى أن هناك أسماء عديدة ظهرت في سماء النقد الأدبي في الإمارات، مع النقاد العرب المقيمين داخل الإمارات، أو الذين كتبوا عن الإبداع الإماراتي من المراكز الثقافية والعواصم العربية المختلفة، والصورة في مجملها إيجابية، فهناك مبدعون وحركة نشر مواكبة، وعملية نقدية تتابع وترصد وتكتب، ومؤسسات ثقافية رسمية وأهلية راعية وداعمة.
ولعل الملاحظة الأساسية في الممارسة النقدية هي ميل كثير من النقاد إلى الاحتفاء والإشادة بالنصوص الإبداعية، وغياب النقد الموضوعي، فكثير مما يكتب ويقال من قبل النقاد يركز على ما هو إيجابي في نظرهم، ولا يتوقف كثيراً عند الإضافة الإبداعية، وجوهرها، والمثالب التي يقع فيها المبدعون، وهذا على مستوى المبدعين الكبار الذين باتوا أقرب إلى مراكز القوى، لا يمكن توجيه نقد مباشر إليهم، فلديهم من الصلات والعلاقات والنفوذ في الحياة الثقافية ما يجعل الناقد المحايد يتخلى عن حياده، ولا يجد مناصاً إلا المديح والإطراء. أما فئة الشباب المبدع، فهؤلاء تكاثروا في السنوات الأخيرة، وصارت هناك دور نشر عديدة، تنشر لهم، ولكن كتاباتهم ضعيفة، وليس بها رؤية فنية أو فكرية.
ومع غياب النقد الموضوعي، فإن هؤلاء المبدعين تتابع إصداراتهم، وتتضخم ذواتهم، ويرون أنفسهم في مرحلةٍ ما فوق النقد، وإذا حدث أن تعرض أحد النقاد أو القراء لما يقدمون بمقولات صريحة، فإنهم يشعلون الدنيا عليهم، من خلال أصدقائهم وقرائهم المفترضين، على مواقع التواصل الاجتماعي، مما يشكل إرهاباً فكرياً، يجعل الناقد وغيره يحجم تماماً، إيثاراً للسلامة.
ويضيف عطية أن السؤال الأهم هو: ماذا عن المستقبل؟ والإجابة تتولد من رحم المشكلة المعيشة، وتبدأ بالمبدعين أنفسهم، الذين يجب أن يمتلكوا الوعي بأهمية النقد ودوره في تطوير إبداعاتهم، وعليهم أن يتحلوا برحابة الصدر، بما يجعلهم متقبلين لأي نقد مهما اشتد عليهم، خاصة المبدعين الشباب، الذين في طور التكوين.
وعلى الجانب الآخر، لا بد من عملية فرز للخطاب النقدي المقدم ذاته، فلا يعقل أن كل من هب ودب يتصدر المنصات، ويدبج المقالات، ويعرّف نفسه دوماً بأنه الكاتب الناقد.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©