الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فاتح الأندلس الأكاديمي..

فاتح الأندلس الأكاديمي..
28 أغسطس 2013 20:08
في العام الجامعي (98/ 99)، وكنت طالباً بالفرقة الثانية بكلية الآداب جامعة القاهرة، دخل إلى قاعة المحاضرات الأستاذ الذي سيحاضرنا في مادة (الأدب الأندلسي)، وكنا ندرسه للمرة الأولى.. أكثرنا لم يكن يعرفه ولم يسمع به ولم يره قط وربما كان اسمه لم يثبت بعد في ذاكرات الطلاب والطالبات. تحدث الرجل بصوت مميز عميق متغلبا بصعوبة على الضوضاء الصادرة عن شوشرات الطلاب المعتادة.. فوجئت رغم سنه الكبيرة بذاكرته الحادة (أجمع كثيرون من أصدقائه وتلاميذه أنها فوق المستوى الطبيعي بمراحل)، وحضوره العلمي الطاغي وقدرة هائلة على التدفق والحديث الشائق المترابط المتسلسل بلا انقطاع طوال ساعتين دون أن يغلط في معلومة أو ينسى تاريخاً أو بيت شعر أو اسم علم.. لم يكن هذا الأستاذ سوى الدكتور محمود علي مكي، شيخ شيوخ الدراسات الأندلسية في مصر والعالم العربي والجامعات العالمية، الذي رحل عن عالمنا في هدوء وصمت ودون صخب، كما عاش طيلة حياته المديدة يوم الخميس الثامن من أغسطس 2013م. وإذا كانت كلمة “عَالمِ” قد وصلت إلى درجة من الابتذال والاعتيادية لكثرة ما أطلقت على من لا صلة لهم بالعلم من قريب أو بعيد، وفقدت معناها في كثير من الدوائر التي تتصل ـ افتراضا ـ بالعلم ومناهجه وحقوله المعرفية، فإنها تنطبق حرفيا، مبنى ومعنى، على الراحل الكبير محمود علي مكي، الذي كان “عالماً جليلًا” بكل ما تعنيه الكلمة وتحمله حروفها. ففضلاً عن تخصصه الدقيق (ابتعث إلى إسبانيا في العام وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه من هناك) في الأدب والتاريخ الأندلسيين واطلاعه الواسع على الثقافة الإسبانية المعاصرة وأدب أميركا اللاتينية بشكل عام.. كان مكي أحد العلماء القلائل المتمكنين والراسخين في الدراسات الإسلامية وعلوم القرآن والحديث والفكر الإسلامي، إضافة إلى مساهماته الأصيلة والجادة في الأدب المقارن والنقد الأدبي وتاريخ الأدب وعلوم اللغة والنحو والبلاغة. وكان الدكتور مكي من الجيل الذي تشرب أسس وأبجديات المنهج التاريخي في الدرس الأدبي والمقارن على يد طه حسين، وطبقه في كثير من دراساته وأبحاثه على الأدب الأندلسي وغيره من حقول الدراسة الأدبية والتاريخية. الموسوعية والتخصص باختصار كان محمود علي مكي أحد الموسوعيين الكبار (بدءا من جيل الرواد طه حسين والعقاد وهيكل مرورا بالرعيل الأول الذي تتلمذ على طه حسين في الجامعة وتخرج على يديه واتسم فكره وإنتاجه بالموسوعية ذاتها والغزارة في الإنتاج مثل شوقي ضيف وعبد الرحمن بدوي وحسين مؤنس ومحمد عبد الهادي أبو ريدة وآخرين) الذين تستدعيهم الذاكرة في تاريخنا الثقافي والأكاديمي الذين استطاعوا بدأب مدهش أن يصلوا بين مجالات وتخصصات علمية ومعرفية شتى، في إطار مبدأ لم يفارق الإيمان بوحدة المعرفة ووحدة التراث الإنساني والتنوع الثقافي في إطار الوحدة الإنسانية الشاملة، بدءا من دائرة التراث الإنساني الأشمل، ثم التراث العربي والإسلامي، ثم الدوائر الأضيق من الكيانات الإقليمية المستقلة والخصوصيات الثقافية للأمم والدول في العصور الحديثة. وانطلاقاً من هذا المفهوم الرحب المنفتح على الدراسة والبحث كان المرحوم مكي ينفر بشدة مما سماه “بدعة التخصص الدقيق”، ولم يكن مستغربا أن نجد اسم الدكتور مكي ـ عليه رحمة الله ـ موزعا بين مواد الدراسة الأدبية واللغوية المختلفة ضمن مقررات وبرامج الدراسة في الفرق الأربع، فنراه يلقي المحاضرات في معظم مواد قسم اللغة العربية: مناهج البحث الأدبي، مدخل إلى الدراسة الأدبية، الأدب الأندلسي وتاريخه، الأدب المقارن، النحو والصرف، البلاغة، الدراسات الإسلامية إلخ.. وعن هذه البدعة “بدعة التخصص الدقيق” يقول مكي: “إن هذه البدعة التي ابتليت بها الدراسة الجامعية في السنوات الأخيرة، هي أن يعكف الطالب الحديث التخرج في دراساته العليا على فرع من فروع الدراسة لكي “يعمق” بحثه فيه، و”يتخصص” فيه بزعمه، بغير أن يستكمل تكوينه العام فإذا به إذا اتجه إلى الأدب الحديث لا يكاد يعرف شيئا عن التراث الأدبي القديم، وإذا عمل في ميدان الأدب الجاهلي أو الإسلامي لا يخطر بباله أن يتعرف الفنون الأدبية الحديثة من رواية وقصة ومسرح”. وربما يفسر كلام مكي السابق، تعدد إسهاماته ونشاطاته العلمية في مجالات مختلفة ومتباينة، درساً وتدريساً وترجمة وتأليفاً وتحقيقاً، وربما احتاج كل إسهام أصيل من إسهامات المرحوم محمود علي مكي إلى ما يفيض عن حجم مقال في أي مطبوعة كانت، لكن هذا لن يمنع من الإشارة إلى أبرزها، تأليفا وتحقيقا وترجمة، هذا عدا عشرات البحوث والمقالات والدراسات التي نشرها في مختلف الصحف والمجلات والدوريات العلمية في مصر والعالم العربي وأسبانيا وأمريكا اللاتينية، باللغتين العربية والإسبانية، (ربما تصل إلى مئات في ظل عدم وجود حصر دقيق ولا ببليوغرافيا كاملة يمكن الرجوع إليها). بكلمات أخرى، كان مشروع الرجل قائمة طويلة ممتدة من الإسهامات العلمية العميقة في الأدب الأندلسي وتاريخه والأدب العربي بصفة عامة والأدب المقارن والدراسات الإسلامية وتحقيق التراث، عدا دوره البارز في الترجمة عن الإسبانية ودراساته الرصينة عن الأدبين الإسباني والبرتغالي والتعريف بآداب الدول الناطقة بالإسبانية. السفر إلى إسبانيا في العام 1950، قرر الدكتور طه حسين إنشاء معهد مصري للدراسات الإسلامية بمدريد، لخدمة الدارسين والمبتعثين إلى إسبانيا لدراسة الأدب الأندلسي والأدب الإسباني، وكانت علاقة صداقة قوية قد توطدت بين الدكتور طه حسين والمستشرق الإسباني الكبير جرثيه غوميس، وأثمرت هذه العلاقة فيما بعد، الشروع في إنشاء (المعهد المصري للدراسات الإسلامية) بمدريد، وتكوين جيل من المتخصصين في الدراسات الأندلسية، وكان طه حسين قد افتتح هذا المعهد بنفسه، حيث تم تكريمه في إسبانيا تكريماً حافلا، واختار سبعة من أنبغ خريجي الجامعات المصرية لكي يستكملوا دراساتهم العليا فيه، كان من بينهم الدكتور محمود علي مكي.. وعن هذه الفترة التي قضاها الدكتور محمود علي مكي في إسبانيا، وهي الفترة من 1954 إلى 1964، يقول في إحدى حواراته القديمة “إن وجودنا على أرض الأندلس هو الذي سمح لنا باكتشاف تراثها اكتشافاً حقيقياً، وقد بدأنا منذ سنتنا الأولى هناك بإعداد برنامج طويل الأمد لزيارة كل مكان في الأندلس، بما في ذلك البلاد الشمالية التي وجدت فيها ممالك وإمارات كانت تناهض الأندلس الإسلامية، وقد ساعدنا ذلك على تكوين صورة مختلفة تماماً عما نقرأه، بالإضافة إلى هذا بدأنا باعتماد المصادر المكتوبة باللغة الإسبانية والتي تتضمن معلومات جديدة ومهمة لا يغني عنها ما نقرأه في المصادر العربية. لقد كانت تجربة على درجة كبيرة من الأهمية، وذخيرة نفعتنا بعد ذلك في كل ما أنجزناه، وهو قليل من كثير مما يجب أن يبذل في سبيل التعريف بالحضارة الإسلامية في الأندلس”. منجز حافل ترك الدكتور محمود علي مكي تراثا حافلا من الكتب المؤلفة والمترجمة، عدا العشرات من البحوث والمقالات والدراسات المبثوثة في بطون الدوريات والمجلات العلمية المحكمة، لو جمعت وحدها لشكلت عدة مجلدات قيمة، إضافة إلى جهده البارز في إخراج وتحقيق بعض من عيون التراث الأندلسي القديم. في مجال التأليف، ترك الدكتور مكي قرابة الكتب العشرة، مطبوعة والمعروف تواريخ نشرها وصدور طبعتها الأولى، عدا ضعفَ هذا العدد ربما، لم يطبع ولم يخرج للنور في انتظار من يهتم بإخراجها. من هذه الكتب “مدريد العربية”، الصادر طبعته الأولى عن دار الكاتب العربي للطبع والنشر، و”المدائح النبوية”، الصادر في سلسلة (أدبيات)، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، مكتبة لبنان، وكتاب “التشيع في الأندلس ـ منذ الفتح حتى نهاية الدولة الأموية”، مكتبة الثقافة الدينية، 2004م، وهو في الأصل مأخوذ عن بحث نشره في مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، وكتاب “وثائق تاريخية جديدة عن عصر المرابطين”، الصادر عن مكتبة الثقافة الدينية، 1998م. أما في مجال التحقيق، فترك لنا مكي كنزين ثمينين من تراث الأندلس العظيم، أولهما تحقيقه لـ”ديوان ابن دراج القسطلي”، الصادر عن المكتب الإسلامي بدمشق وبيروت، (1961م/ 1381ه)، وهو نموذج فذ لتحقيق الدواوين الشعرية القديمة، بذل فيه جهدا شهد به وله أعلام فن التحقيق في العالم العربي، وصدّره بدراسة وافية عن الشاعر وعصره وقيمته الفنية. أما الثاني فهو تحقيقه لقطعة مفقودة من كتاب “المقتبس في ذكر ولاة وأنباء أهل الأندلس” لابن حيان الأندلسي، أحد مصادر التاريخ الأندلسي الرئيسة، قام الدكتور مكي بتحقيقه وإخراجه، وكتب مقدمة بالغة الأهمية تقع في ما يزيد على 150 صفحة، تمثل كتابا مستقلا، ضمنها دراسة دقيقة وغير مسبوقة عن ابن حيان القرطبي وحياته وآثار ودراسة لكتابه. وفي الترجمة، كان مكي أحد أعلام الترجمة عن الإسبانية، وأساتذتها الكبار، ولا يوجد قسم أو مركز علمي متصل باللغة الإسبانية لم يكن مكي من أساتذته الكبار وأعلامه البارزين، ومعروف أن الدكتور مكي هو الذي أسس قسم اللغة الإسبانية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة، وترأسه منذ عام 1984م، وكان هو واضع برامج الدراسة ومقرراتها بفرقها الأربع. أما أبرز ترجماته عن الإسبانية فيأتي على رأسها ترجمته للأعمال الشعرية الكاملة للوركا، الصادر عن المشروع القومي للترجمة، بالاشتراك مع آخرين، وترجمته لكتاب “ثلاث دراسات عن الشعر الأندلسي”، للمستشرق الإسباني الشهير إميليو غرسيه جوميث، الصادر عن المركز القومي للترجمة، وترجمته لرواية “السيدة بارابارا”، لرومولو جاييجوس, ترجمة الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة في 2001م، هذا عدا مراجعته لعشرات الترجمات عن الإسبانية، ضمن المشروع القومي للترجمة، وراجع أيضا الترجمة الإسبانية لمعاني القرآن الكريم.. دراسة الأدب كان المرحوم مكي من أنصار دراسة الأدب العربي في إطار وحدته وكليته وشموليته دون إغفال التنوع والتعدد في إطار هذه الوحدة، فلم يكن ممن يرى انفصال الآداب الإقليمية والقومية المكتوبة آدابها بالعربية، عن إطار وحدة الأدب العربي في مجمله، صحيح أن مكي لم ينكر “أن هناك أقطارًا عربية كان لها سمات فيها بعض الخصوصية”، ولكنه يضع هذه الخصوصية في إطارها العربي الشامل وما تجلى في هذا الإطار من وحدة ثقافية ميزت الحضارة العربية. ومع أن مكي كان يرى أن لمصر حدودًا واضحة تسمح بالحديث عن كيان خاص لها، فإنه يربط بين هذا الكيان الخاص لمصر وبين امتداده، في معظم العصور التاريخية بالشام والسودان والمغرب الكبير، وكان يرى، أيضًا، أنه مع الاعتراف “بمدى تأثير العوامل الإقليمية والبيئيـة في الأدب العربي، فإننا لا نستطيع أن نقبل دراسته على أساس ذلك المفهوم الضيق المفتعل الذي يعمد إلى تجزئته وفقًا للسياسات التي فرضها الاستعمار الغربي، أو للمصالح المكتسبة المترتبة على تلك السياسات”، كما أوضح الدكتور عوض الغباري في كتابه القيم “دراسات في أدب مصر الإسلامية”. ويرى مكي، كذلك، أن القومية العربية هي قومية لغوية في المقام الأول، ويرى، كذلك، أن تقسيم كتاب الثعالبي “يتيمة الدهر” على أساس المكان هو تقسيم لتيسير تبويب وتصنيف هذا الكتاب الذي ضم عددًا كبيرًا من الأدباء في سائر الأمصار الإسلامية، وليس في هذا التقسيم دلالة “على وعي بأن هناك آدابـًا إقليمية متميزة”. ويخلص محمود مكي إلى نتيجة تتفق مع نتيجتنا حول دراسة الأدب الإقليمي بقوله “وإذا كان من الطبيعي أن يعبر كل قطر عربي في ميادين الأدب المختلفة تعبيرًا عن أوضاعه الخاصة فإن ذلك ظل دائمًا في إطار لغة مشتركة.. فقد حمل كل أدب من هذه الآداب الإقليمية سماته المحلية المميزة، ولكن بغير أن يعني ذلك تحولاً إلى آداب إقليمية منفصلة”. وبهذه النتيجة يُعِّبر الأدب الإقليمي عن التنوع في داخل الوحدة وكأنه تنويع مُولَّد من لحن موسيقي واحد، على حد تعبير مكي. كان المرحوم محمود علي مكي رجلا فاضلا شهد كل من عرفه وتتلمذ عليه وقابله بأنه دمث الخلق كريم السجايا، وعلى المستوى العلمي كان باحثا فريدا ومؤرخا للأدب ودراسا له من الوزن الثقيل، وكان قادرا على تقديم اجتهادات ذات تأصيل وعمق في المعالجة والمقاربة المنهجية، كما كان مدافعا عقلانيا ورصينا عن سماحة الإسلام وتقديم وجهه الحضاري من واقع دراسته للوجود الإسلامي في الأندلس، وهو ما سجله في محاضرته القيمة “التسامح في الإسلام: الأندلس نموذجا”، حيث كشف عن الإسلام الحقيقي بوجهه الفكري المتسامح، وكان مكي محاورا بارعا ومدافعا عتيدا عن القيم والعقائد الإسلامية في مواجهة بعض الدوائر التي تتربص بالديانة والثقافة الإسلاميتين بالخارج.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©