الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المقابلة

المقابلة
31 أغسطس 2011 21:44
سالم نجيم محمد البادي صرخت من أعماق جرحي: لن أضع رقبتي تحت هذه المقصلة مرة أخرى. أطلقت جناحي للريح والشمس والسحب والمطر. أروم حرية، أنهكني التعب وأنا أسير نحوها ودونها أحلامي كاذبة، الدرب طويل والليل حالك السواد، كاد زادي أن ينفد والمقصلة تتدلى أمام ناظري. جلس القوم لمقابلتي لوظيفة جديدة أقتل بها الروتين وجمود يحاصرني، أطوي صفحة أعوام حبلى بالقيود والندم والخوف وأشياء أخرى. خطواتي ثقيلة وقدماي ترفضان حملي، أثقال فوق أثقال، همي تضاعف هذه الأيام. قال الرجل الأنيق الجالس فوق كرسي راحته: لديك مقابلة غداً. قل إنها المقصلة، لم يأت بعد الأوان لتسليم رقبتي للمقصلة البغيضة. سار فكري بعيداً عبر سهول وأودية وجبال عشقتها حد التوحد والذوبان. كن صديقاً للطبيعة يقولون. ومشيت أكتب شعراً في حبيبتي وناقتي، وسيفي في غمده منذ أمد بعيد، فقدت عصاي وكنت أهش بها على نفسي. يا أملي وحلمي ومشاعري وعواطفي الجياشة المتدفقة. عقلي طاحونة هواء خاطبته بشفقة: توقف قليلاً أرحني لحظة بالله عليك. وقلت لصاحبي عن أمر المقصلة قال: أنت رجل مجنون، متى تركن الى السكينة، أنت النزق والطيش والتهور الخارج عن المألوف والساعي على حتفك. المقصلة تناسب من كان مثلك. ستعود اليّ بذلة وانكسار غداً بعد إحكام المقصلة وتركها تدور بك مثل الرحى وأنت بين قطبيها حبة قمح، عصفور بلّه المطر، أسير من أسرى الحروب العبثية التي تخوض غمارها من غير هدف أو قضية، مسكين مسكين أنت أيها المهرول عبثاً، تهرول عبثاً، تهرول عبثاً، ولا يردعك شيء عن الهرولة. حان موعد المقصلة وجاء غداً. دخلت أتلفت حولي أتفحص الأشياء بعمق، ألقي النكات، شرعت في مداعبة الحاضرين خارج المكان، أسرق لحظات الوقت المتبقي، أكتب رسائلي الى أحبائي في كل مكان، عندي الآن مقابلة، أدعو لصاحبكم بالتثبيت فإنه الآن يُسأل. ذهلت، جلست في كرسي غير وثير. نظرت شذراً الى الرجال الجالسين على المائدة المستديرة بينهم امرأة. أين رأيتها؟ بسرعة تذكرت في مصر! امرأة فائقة الجمال، سيدة يكسوها الوقار والسمت والهيبة والبهاء وابتسامة مشرقة خيل إليّ أنها أضاءت جنبات الغرفة، وتعطر الجو بنسمات هبت عليّ في قرية نائية في صعيد مصر، وأنا أدرس أدب توفيق الحكيم وأزور المكان الذي جرت فيه أحداث إحدى رواياته. تسألني وتسألني، وأصمت، يصيبني الخرس في حضرة السيدة الجليلة. لمحت رجلاً يجلس عن يميني تصورته مومياء لا أدري لماذا. لم أتعرف عليه لأني جعلته خلف ظهري، سألني سؤالاً بدا لي ساذجاً وباهتاً، شعرت بالإهانة، غير أني قلت في نفسي إنه مومياء. أعلى قليلاً يجلس رجل في منتصف العمر عرفته. هذا تمثال بوذا! الذي رأيته في هضبة التبت ذات صيف ماطر، يحجون إليه مشياً على الأقدام وبعضهم حبوا وقد تقرحت أقدامهم وركبهم. وأنا تصدع فؤادي. يسألني عن الضغوط... عندي ضغوط كثيرة فوق احتمالي. في الدروب والشوارع وليلي ونهاري. كيف تتغلب عليها؟ قل أنت يا تمثال بوذا. قل لي. فأنا رجل بدوي مسلم جاء من الجزيرة العربية، لم يألف غير بعيره وشاته، ونقاء عقيدته وفطرته الموحد لله للخالق المعبود لا إله غيره جل وعلا. صمت الرجل التمثال ثم قال: مجنون. قال ما دخل بوذا الذي نحن بصدده. وأمامي يقعد رجل لا بد أن أمنحه دوراً في هذه التراجيديا. نعم إنه الراهب، نسيت أين رأيته يوزع صكوك الغفران في ريف روما أو إسبانيا أو أثينا والمؤمنون يعترفون أمامه. مثلت أن الدور تكورت أمامه انحنيت بخضوع بين يديه. كنت عالماً، جاهلاً، حكيماً، درويشاً، صعلوكاً، منافقاً، تقياً، ورعاً، كذباً، متجملاً، ممثلاً، بارعاً، خانعاً، ذليلاً، قوياً، ضعيفاً، ومدعياً لمجلس ليس لي. لا يهم أريد صك الغفران وكفى. سألني لو أن قوما حدث بينهم خلاف وطلب منك أن تصلح بينهم من تميل. أيها الراهب لست مخولاً للحكم، ابحث عن آخر، أرغب في التصالح مع ذاتي دعك من الآخرين. ثارت أوجاعي وسقمي وعللي وآهاتي وعبراتي وأحزاني. حانت مني التفاتة خاطفة نحو المومياء، رأيت شيئاً غريباً في عينيه فسره صديقي العارف ببواطن الأمور. قال: ذلك غيرة وحسرة وحقد على المرأة والراهب لأنه أحق بالريادة والقيادة كما يزعم. انتظرت أياماً رافقني خلالها الراهب والمومياء والمرأة في يقظتي وخيالي ومنامي وفنجان قهوتي وقدح الشاي وقارورة الماء وصحن الطعام. يبتسمون ويختفون. جاءتني رسالة: لم يحالفك الحظ في المقابلة. لم يرض عنك فريق المقابلة. قال صديقي هازئاً: أنت تهرول عبثاً. ألم أقل لك؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©