الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن همزات الوصل والقطع

عن همزات الوصل والقطع
31 أغسطس 2011 21:34
صدر للباحث محمد آيت حمو كتاب تحت عنوان “أفق الحوار في الفكر العربي المعاصر”، يتناول فيه جملة من القضايا في الفكر العربي المعاصر، وفي مقدمتها الحوار والتسامح والإختلاف والعقلانية والإجتهاد... باعتبار أن قضية الحوار هي قضية القضايا فيه. فالحوار هو مربط الفرس في هذا الكتاب ويشكل لب هذا العمل ولبابه. والحوار هو المهماز الدافع للحضارة العربية الإسلامية أيام العز والصولة، وهو الوسيلة المثلى القادرة اليوم على تحقيق المجتمع المفتوح واستعادة الوجه المشرق للحضارة العربية الإسلامية، وإنزالها المنزلة اللائقة بها بين الأمم. الانفتاح والتقوقع يقول المؤلف: آن الأوان لنعدل عقارب ساعتنا على الحوار الذي هو ميزة العصر، بدل الانعزال والتقوقع وإغلاق النوافذ ميزة عصور التخلف والانحطاط. لقد كانت المسألة الدينية في أوروبا لها بوادر وأصول تمتد الى القرن السادس عشر، فإن تاريخ انطلاقها وظهورها في العالم العربي هو نهاية القرن التاسع عشر الذي هو قرن السلفيين بامتياز. وقد شكّلت المسألة الدينية الهاجس الذي أقض مضجع بعض المرتبطين بالواقع العربي وليس كلهم، وتباين التطرق الى هذه المسألة بتباين التخصصات. وقد آثر المؤلف تناول هذه المسألة منذ بدايتها الأولى في الفكر العربي المعاصر مع محمد عبده وفرح أنطون. وقد قسّم الباحث كتابه الى قسمين: قسم يحمل عنوان “الإسلام والتحديات المعاصرة”، والذي حاول فيه فصل المقال فيما بين الحركات الإسلامية المعاصرة المتشددة والفكر السلفي النهضوي العقلاني المتسامح في عصر النهضة من الاتصال من جهة أولى، وفصل المقال فيما بين الفكر السلفي النهضوي العقلاني المتسامح في عصر النهضة والعلمانية من الاتصال من جهة ثانية. وهكذا حاول المؤلف تفسير نشأة الحركات الإسلامية المتشددة المعاصرة، والقيام بإبراز المواقف الفلسفية العقلانية المتسامحة لدى الأفغاني ومحمد عبده، وتفسير التأخر التاريخي بشكل موضوعي بعيداً عن نظرية المؤامرة وخطاب الضحية دون إغفال الدعوة الى فتح باب الحوار والاجتهاد وإحياء الفكر المقاصدي للتحرر والانعتاق. فالحركات الإسلامية المتشددة تمثل همزة وصل مع الخط الحنبلي وهمزة قطع مع مفكري عصر النهضة السلفيين. وقد احتل الإمام محمد عبده حيزاً كبيراً ومكانة وازنة في الفصل الأول كما وصف، وهو حيز مبرر ومشروع بالنظر الى افتقادهم للبدر الظلماء، وحاجتهم الى التجديد والتنوير والإصلاح الفكري والديني وإنتاج الرجال العظام وجرأة الإمام محمد عبده في اقتحام مشكلات العصر وأسئلة الحاضر والمستقبل. يقول المؤلف: إن الإصلاح الديني لن يتحقق من دون أرضية كلامية حتى ولو قرأنا كل فلسفات الدنيا. وهم يدينون للإمام محمد عبده بدين لا يرد في عودة الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وغيرها من العلوم التي دافع عنها في مؤلفاته عموماً، ومن خلال مناظرته مع فرح أنطون خصوصاً، والتي تمثل الخطوة الأولى في مسيرة عودة ابن رشد الى حظيرة الفكر العربي المعاصر. فقد عبر الإمام عن حب افلاطوني للفلسفة رغم عدم استقامة اجتهادات الفلاسفة المسلمين في مبحث الإلهيات الذي أطلقوا فيه العنان للعقل يصول ويجول، عوض أن يحددوا الحدود له كما فعل ابن خلدون في الحضارة العربية الإسلامية، وكذلك في الحضارة الغربية. البلسم الشافي أما القسم الثاني فقد حمل عنوان “فضيلة الحوار بدل رذيلة الإقصاء”. وفيه استقر النظر على أن الحوار هو البلسم الشافي لجروح التأخر والتطرف والتعصب بكل أطيافه، والخروج من عنق زجاجة التخلف والصراع بين الاتجاهات المختلفة داخل أسرتهم النووية من جهة، وداخل أسرتهم الممتدة التي يشاركهم فيها الآخر المخالف والمغاير لهم من جهة أخرى. فالحوار هو الغائب الأكبر بين المفكرين العرب المشتغلين بالفلسفة، خاصة المغاربة منهم! وهو المنقذ الأمثل من التشدد الديني والتطرف العلماني، في عصر نهاية الأيديولوجيات التبشيرية العلمانية ونهاية اليقينيات la fin des certitudes حسب عنوان كتاب العالم الإبستيمولوجي البلجيكي الحائز على جائزة نوبل إيليا بريغوجين، وإنتهاء الحكايات الكبرى Grand narratives التي لم تف بوعودها الطوباوية، إن شاؤوا استخدام أحد المصطلحات التي اخترعها الفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوطار في كتابه عن “ما بعد الحداثة”... فالحوار هو فيصل التفرقة والتقدم، وهو وسيلة للتعاون والتآزر، مما يجعل من الضروري والحاجي كما يقول علماء الأصول أن يتعاون الجميع على الأمور التي يتفقون حولها، ويعذر بعضهم بعضاً فيما يختلفون حوله حتى يتأنى لهم المشاركة في صنع التاريخ والتخاطب بلغة الاختلاف عوض لغة الغير بالمعنى الكلامي لهذه الكلمة؟ وإذا كان القانون السوسيولوجي يعلم أن الصراعات الخارجية تخمد الصراعات الداخلية، فلماذا لا يصح هذا القانون على الأطراف المختلفة في العالم العربي الإسلامي ليكونوا يداً واحدة وجبهة متراصة ضد الخصم المشترك الأكبر والأخطر حتى لا يتوسد مخدة اختلافاتهم، ويجلس متفرجاً عليهم. يعرض المؤلف حمو في الخاتمة كيف أن الحوار هو العملة الصعبة في الفكر العربي المعاصر، وأعز ما يطلب في الوعاء الزمني الذي يعيشوا فيه، أما الاجتهاد طبقاً لمقتضيات العصر. كما يعرض حمو كيف أن الإسلام قادر على توليد إجابات على الأسئلة التي يطرحها الواقع الجديد على المسلمين الذين ينبغي على خاصتهم أن يتعاملوا معها بعقل أوسع، وصدر أرحب وجرأة كافية عوض الفرار عنها، أو مواجهتها في أحسن الأحوال بصمت القبور إن لم نقل بإشهار سلاح الكسالى الذي هو سلاح التبديع والتكفير الذي هو سلاح العصور الوسطى المرفوض في عصر الحداثة وما بعدها! إشكالية العلمانية أما العلمانية فهي قضية ما زالت ملتبسة في العالم العربي الإسلامي، لا يقتصر رفضها على السلفيين فحسب الذين لن يتفقوا مع العلمانيين أبدا في القول بالدولة المدنية بدلًا من الدولة الدينية، بل هي مرفوضة حتى من طرف كبار المشتغلين بالفلسفة الذين أنتجوا مشاريع فلسفية كبرى في العالم العربي كمحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وطه عبد الرحمان، وأبو يعرب المرزوقي، وغيرهم من القمم الفلسفية الأخرى بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معهم. فالأفكار العلمانية قليلة القبول في العالم الإسلامي، وهذا ما يجعل أغلب التيارات العلمانية تتبرأ من المواجهة مع السلفيين، وغالبا ما تتخلص وتتنكر لأقوالها في المحيط الإسلامي الذي يبدو أنه مازال لا يؤمن بفك الإرتباط بين الدين والدولة، كما فعل تمثيلا لا حصراً خالد محمد خالد، وإسماعيل مظهر، وزكي نجيب محمود، وعميد الأدب العربي الذي محو سيئات في الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر بمؤلفات كتبها في أواخر حياته. وإذا كان بعض المفكرين الغربيين اليوم ينادون بالعلمانية المنفتحة على كل أبعاد الإنسان أو ما يسمى بالعلمنة المنفتحة أو الإيجابية، فإن الإسلام لا توجد فيه سلطة الرؤساء الكنسيين. ولذلك يجب تحقيق إسلام عقلاني معتدل ومتسامح يرفع لواء الحوار، ليس فيه موطئ قدم لـ النوابت بالمعنى الذي يعطيه الفارابي، أي لا مكان فيه من جهة أولى، للعلمانية المتطرفة التي تتطاول وتتجرأ على الدين وتغفل بعدا من أهم أبعاد الإنسان الذي لا يحيا بالخبز وحده، ولا مكان فيه من جهة ثانية للتبديع والتكفير والإرهاب والتطرف والتعصب الديني الذي يصدق على أصحابه قول الشاعر العراقي معروف الرصافي: إذا سلكت الى الإصلاح مسلكه فأنت في رأيهم بالكفر متهم ويمكن القول بأن توسيع مساحة العقل داخل الشريعة، شرط لا مناص منه لتحقيق الوجود الضروري. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا إذا تسلحوا بروح القول العادل. أي إلا إذا حدثت تنازلات من هذا الطرف وذاك من أجل تعزيز الفضائل ونشر الصنائع، قوام العقل العملي. أي قوام المدينة أو المجتمع المدني. يشير المؤلف ايضاً إلى أنه بدون الحوار وفتح باب الإجتهاد، وتجاوز داء الكسل والتبديع والتكفير، وتفعيل الفكر المقاصدي، لن يتأتى لهم التحول من كتلة سلبية الى كتلة إيجابية، وتجاوز سوسيولوجيا الثبات والجمود نحو سوسيولوجيا التغير والتقدم، وهو أمر لا مفر منه، حتى لا يظلوا كالمغشي عليه الذي يتوهم ان الإغماء يخلصه من خطر الوحش المحيط به. فلا خيار من التوجه الى المستقبل، لأن الكتابة، كما قال نزار قباني، عمل انقلابي، ومداد الكاتب، كما قال شكسبير، مثل دم الشهداء مقدس، وبالتالي فلا بد للكتابة أن تضع نصب عينيها التغيير نحو الأفضل والأحسن والأنبل والأمثل. فالإنسان يخلق أفعاله، فهو إذن يصنع تاريخه. ومن هنا فلا بد أن يشرع، بالحوار والعقلانية والإجتهاد، في تحريك الرياح التي تدفع أشرعة سفنهم أكثر فأكثر الى الأمام. وهذا ما لا نزاع فيه عند المستنيرين الذين يبصرون المصلحة والمستقبل البعيد. ومنكر ذلك مكابر وللحق مدابر! فلا بد من الحرص على تحقيق المقاصد، والنظر بنظارات مصلحة الأمة ومقاصد الشريعة والإنصات الى روح العصر لتحقيق الرقي الحقيقي حتى لا يبقوا في أجواء الخضوع لأحكام العجز والضرورة كما يقول الفقهاء، وحتى يتسنى لهم تحقيق الوجود الأشرف وليس الوجود الضروري فقط ما دام أن التخلف ليس من اللواحق الذاتية التي لا مناص منها للمسلمين، بل من اللواحق العرضية، أي من الآفات التي يمكن تلافيها. فالإنحطاط ظاهرة طارئة على المسلمين، ولا تتعلق بجوهر الدين الإسلامي الذي لا مناص من تخصيبه بالكوني والعالمي ومكتسبات العصر، وجعله يتوافق مع مثل الديمقراطية وقيم الحرية والعدل والمساواة والحريات العامة، والعدالة الإجتماعية وحقوق الإنسان كما قال المؤلف وكرر القول للمرة الآلف في ثنايا هذا العمل. وكما قال الشاعر الألماني غوته: “من كان عليه أن يرفع حملا ثقيلاً، فإنه ينبغي عليه أن يعرف مركز الثقل”، ومركز الثقل في الفكر العربي المعاصر هو الحوار... النقطة الأرخميدية الصلبة لكل من يشرئب بأعناقه الى المستقبل. نعود ونقول أن على الإنسان أن يؤسس لثقافة ترى أن الآخر هو جزء من وجوده وأن الالتقاء به والحوار معه هو الأصل في هذه الحياة. ويجب على المواطن المثقف والواعي لدوره أن يكون صادقاً مع نفسه، حاملا عدداً من القيم الأساسية، مستعداً للتضحية. ويستوجب عليه أن يحمل هموم مجتمعه، ويلتزم بضميره وبالتحديات التي تواجهه، لأنه هو ذلك الإنسان الذي يعي ذاته وذات مجتمعه، من خلال الصلة به وما ورثه من القضايا الفكرية والسياسية والحضارية والإنسانية. ويتجلّى ابداع الكاتب حمو، في لغة خاصة به، عرّف من خلالها بثقافة الحوار، ولقد قطع شوطاً بعيداً في تأليفه هذا الكتاب فكنا في حاجة وحاجة قراء العربية الى هذا العرض من الكلام في كتابه القيّم أفق الحوار في الفكر العربي المعاصر... الكتاب: أفق الحوار في الفكر العربي المعاصر المؤلف: محمد آيت حمو الناشر: دار الإختلاف
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©