الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السودان وتركة «نيوبولد»

10 فبراير 2010 21:11
كان سير "نيوبولد" الإداري البريطاني من أكثر الإداريين البريطانيين معرفة بالسودان في مرحلة ما قبل الاستقلال... لقد كان على دراية بأهله وجغرافيته وقبائله، إلى جانب ذلك الإداري الشاب الذي جاء إلى السودان مباشرة بعد تخرجه من جامعة أكسفورد في وظيفته في الدرجات السفلى من السلم الوظيفي. لقد كان رجلاً مثقفاً بحق وعالماً ومحباً للعلم الذي أوصله -ذلك الحب وتلك الثقافة- إلى كرسي الأستاذية بعد تقاعده من خدمة الإدارة البريطانية في السودان. بصرف النظر عن "النوايا والأجندة الاستعمارية الخفية" كما نقول عادة، فقد كان سير "نيوبولد" يعتقد أن عليه "رسالة" يجب أن تقدم بإخلاص إلى السودان، وتتمثل في تمدين أهله وتدريب أبنائه على أساليب الإدارة العصرية، ووضع الأساس المتين لخدمة مدنية سودانية متميزة تؤهل السودانيين كي يحلوا محل موظفي الخدمة البريطانيين. وفي هذا المنحى يعود إليه الفضل في تأسيس وبناء جهاز الخدمة المدنية في السودان التي عرفت فيما قبل الاستقلال والسنوات القليلة التي تلت الاستقلال (عام 1956) بالسمعة الحسنة والإدارة الجيدة. وإلى سير "نيوبولد" أيضاً، يعود الفضل في معرفة السودانيين لأول مرة بالانتخابات النيابية، فهو صاحب مشروع التدرج بالسودانيين نحو الحكم الذاتي، الذي قاتل من أجله -وهو صاحب ثاني منصب إداري بعد الحاكم الثاني- زملاءه البريطانيين الأعضاء في مجلس الحاكم العام للسودان، الذين كانوا يرون أن الوقت لم يحن بعد لتسليم إدارة البلد لأهله، ومن مشروعه انبثق نظام الحكومات المحلية (البلديات)، وجرت أول انتخابات لمجلس بلدي في الخرطوم، وفاز الشاب المحامي وأحد مؤسسي حزب الأشقاء الداعي للوحدة مع مصر، المرحوم مبارك زروق برئاسة مجلس بلدي العاصمة الوطنية (أم درمان)، والذي أصبح فيما بعد أول وزير للخارجية في السودان المستقل، ونائباً أول للزعيم اسماعيل الأزهري. وقد جرت تلك الانتخابات الديمقراطية تحت إشراف الإدارة البريطانية، وفاز فيها حزب الأشقاء المعادي للاستعمار البريطاني، ولم تزور الإدارة الانتخابات لمصلحة الحزب الموالي -آنذاك- لها. ومن مشروع سير "نيوبولد" انبثق المجلس الاستشاري لشمال السودان -الذي قاطعه الاتحاديون- وأرغم زعماء الجنوب الوحدويون الإدارة على قيام الجمعية التشريعية (الأولى) لكل السودان، وقد كانت خاتمة مشروع التدرج بالسودانيين للحكم الذاتي ما اقترحه -وقبل به على مضض بعض الإداريين البريطانيين- أن يكون عام 1958 هو الموعد المحدد لاستلام السودانيين إدارة شؤون بلدهم. جالت هذه الخاطرة في ذهني، والسودان مقبل هذه الأيام على أول انتخابات ديمقراطية مفترض أن تكون "حرة ونزيهة وشفافة" لانتخاب رئيس الجمهورية بعد عقود من الحكم الشمولي وحكم الحزب الواحد، والحلقة الصغيرة في داخل الحزب الواحد (حزب المؤتمر الوطني)، وهي انتخابات ستذكر في التاريخ أنها تجري في أخطر مرحلة تاريخية في عمر السودان الحديث. فانتخابات الرئاسة القادمة وغيرها من انتخابات قومية أو على مستوى الولايات ستحدد مصير السودان الذي كان موحداً (رغم السلبيات والمظالم...إلخ) يوم سطا عسكر حزب "الجبهة القومية الإسلامية" على الحكم في ليلة حالكة الظلام. وهذه -الانتخابات- ستثبت بالنجاح أو الفشل إذا كان السودانيون الذين عرفوا الانتخابات الديمقراطية النيابية قبل أكثر من ستين عاماً لم تجر في أي منها الدماء، ولم يجرؤ أحد على تزوير إرادة الناخبين الديمقراطية... وهي ستطمئن أو تحبط أجيالاً جديدة من السودانيين الذين يتطلعون للتغير الديمقراطي السلمي، الذي سيعود بالبلاد إلى مناخ العدل والسلام و التسامح وكل الفضائل التي تميز بها سودان ما قبل "الإنقاذ". لذلك فعندما يدعو العقلاء من الناس سلطة "الإنقاذ"، إلى العودة إلى حكمة وحكم العقل والمثل العليا، وأن يلتزموا بما يقضي به الدستور والقانون والعرف، وأن يساعدوا بلدهم وأهله لاستعادة حياتهم الطبيعية وحقوقهم المهدرة وأن يقدموا مصالح البلد وشعبه على مصالح حزبهم وذواتهم الفانية، فليس هذا رجاء أو منة يطلبونها منهم، وإنما هو حق طبيعي للشعب السوداني، ولو استجابوا له ربما غفر لهم السودانيون، وهم دائماً يفعلون ذلك رغم كل ما صنعوه فيهم وفي بلدهم ولوجدوا مكانهم الحقيقي كحزب في الساحة السياسية السودانية التي تسع الجميع
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©