الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفن ينزل من عليائه

الفن ينزل من عليائه
10 فبراير 2010 19:26
تنبع أهمية كتاب “موسوعة فن التصميم.. الفلسفة والنظرية والتطبيق” للباحث والفنان التشكيلي العراقي الدكتور اياد حسين عبد الله، وهو الكتاب الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع الفنون، من كونه يقدم رؤية منهجية لفن التصميم لا تتسلح بالمعرفة النظرية المحيطة بالأرضية الفلسفية والعلمية التي تصوغ ملامح هذا الفن فقط، بل من كون مؤلفه يمتلك أيضاً ناصية خبرة عملية طويلة وممارسة ميدانية في مجالات التصميم المختلفة. ولعل واحدة من أبرز ميزات الكتاب تلك المتمثلة في كونه يطرح أسئلة جوهرية عن نظرتنا المثالية تجاه الفن التي لا ترى فيه سوى سبيلاً للمتعة الفكرية والروحية، بل تنجز مناقشة عميقة تكشف عن إمكانية تواصل الإنسان مع كل مستجدات العصر، ليس على أساس الرؤية والتذوق ونمو الخطاب الجمالي، وانما بحثاً عن الأدوات العصرية التي تجعل من الجمال والعلم والفكر وآخر التقنيات وسائل لنقل الإنسان إلى حال أفضل بفعل كل مكتشافاته الجديدة. فضلاً عن أن مثل هذه المناقشة فيما يتعلق بنمو الخطاب الجمالي الحديث تفيد في إخراج قيم الجمال المكتنزة بين جدران المتاحف الى رحاب الحياة الواسعة للإنسان، وفي كل ما يستخدمه في الحياة اليومية من مسكن وإداة وأجهزة ووسائل، من دون أن يعني ذلك البحث عن لغة جديدة للشكل بما يتناسب مع الذائقة البصرية العصرية، وإنما بالبحث عن الشكل الجمالي الذي يؤدي افضل وظيفة. وبعبارة أخرى، نحن أمام بحث يؤسس لتطبيقات الجمال على الأرض بعد أن غادر الفن حلة القداسة ونزل من عليائه ليؤثر في كل شيء. فكر وجمال وفائدة ما سبق لا يعني بالطبع التنازل عن الجمال في الفن، لا المؤلف دعا إلى ذلك ولا نتائج البحث، بل المقصود هو تحقيق تلك المعادلة الصعبة المتمثلة في الجمع بين الفكر والجمال والفائدة. فالفن كان عبر التاريخ يرتبط بنسق قيمي مثالي كثيراً ما أنكر أبعاده الوظيفية لصالح فكرة الجمال وسحره. بل ولطالما اختلف الفلاسفة حول مفهوم الجميل والجليل وغض أكثرهم البصر عن الوظيفة النفعية التي يؤديها الفن في الحياة اليومية مفضلين التعاطي مع الجمال بمفهومه المثالي، وهناك من عاب على الفن أن يكون وظيفياً ورأى في ذلك انتقاصاً منه.. لكن طبيعة العلاقة التي تربط الإنسان مع الأشياء المحيطة به كانت دائماً علاقة وظيفية ونفعية وتداولية واستخدامية يجري إنتاجها تحت عنوان الجمال. وربما لم يكن يخطر في بال الذين نظروا الى الجمال على هذا النحو أن الجمال سيدخل في حوار مع انساق أخرى تبدو بعيدة عنه مثل العلم والصناعة والإنتاج ورأس المال، لأنهم اعتقدوا أنه بذلك يفقد تلك الشفافية المقدسة الحالمة التي تصر على البقاء في المثال والنموذج. بيد أن التقدم العلمي والصناعي سمح بإنتاج شكل جديد لهذه العلاقة نلمس آثاره في نواحي حياتنا المختلفة، وأبرز مثال على ذلك هو فن التصميم الذي ساهم في إشاعة الجمال وتعميمه في صور شتى، نجدها في كل مكان حولنا. يقول المؤلف: “كنتيجة لحوار التصميم مع تلك المعارف تكونت منطلقات فكرية ومعايير نظرية جديدة، تمكن الإنسان من خلالها من الحصول على وفرة هائلة من العملية الإنتاجية على مستوى الصناعة والجمال، أي أن الوفرة حلت محل الندرة وبما جعل الجمال والوظيفة مشاعة بين بني البشر وبطريقة غير مسبوقة، فكان أن تخلى الفن عن تلك الهالة المقدسة التي عاشها لعصور، وأصبح يؤدي وظيفة أخرى فضلا عن وظيفته. وأصبح الجمال والفن يعيشان التحولات والمتغيرات المستمرة التي تمارسها العملية الإنتاجية والتي ترتبط بالاقتصاد والجدوى ورأس المال. كما أن الحاجة كانت تدعو إلى انحلال الثنائيات التقليدية بين الشعبي والنخبوي والذات والموضوع، وتأكيد المقياس الإنساني نظريا وعمليا على مستوى العديد من مظاهر التصميم ومنتجاته. ولم يعد التصميم كفن يعني تلك المهارات الحرفية والإبداعية (رغم أهميتها القصوى) كترجمة لتحويل الأفكار النظرية إلى وقائع تدخل في صميم التجربة الإنسانية”. ويدرس الباحث الظاهرة الفنية المتمثلة بفن التصميم،في محاولة لبناء وصياغة نظرية تعكس تلك التبادلية المعقدة بين التصميم والمجتمع وحاجاته من جهة وبين التكنولوجيا ومعطياتها المتقدمة من جهة أخرى، وفي مقاربة جمالية تحررنا، حسب قوله، من عنف المفهومات الكلية (منطق الشبيه – الحداثي، مقابل منطق المختلف - ما بعد الحداثي)، يرسم الملامح الأساسية لفلسفة التصميم، ويستشرف المرتكزات الفلسفية التي يمكن أن تؤسس لفن التصميم وفق المناهج الفكرية الحديثة (البراجماتية، المنهج المثالي، المنهج العلمي المنطقي، والمنهج الطبيعي، فضلا عن المناهج النقدية الحديثة (البنيوية والسيميائية والاتصال والجشتالت والحداثة وما بعدها) والتي تم اعتمادها لأجل الكشف عن حركة الافتراض في فن التصميم بحثاً عن ملامحه. الفن.. والحسابات المالية يعرف المشتغلون بتاريخ الفن أن الثورة الصناعية أرست أولى خطوات دخول الجمال والفن إلى العملية الصناعية وترتب على ذلك أن أصبح الفن يخضع لدراسات تقنية ومالية وإدارية وأساليب في الإنتاج ودراسات في التكاليف والمواصفات واحتمالات في الربح و الخسارة وحسابات الجدوى ... الخ. وقد أدرك المؤلف أهمية مثل هذه المعطيات وهو يصوغ نظريته فحرص على الكشف عن المراحل التي تمر بها العملية التصميمية منذ بزوغ الفكرة وولادتها وحتى تحققها وتلقيها من قبل الآخرين. والكشف عن التحولات التي شهدها فن التصميم وانتقاله إلى مساحة جديدة تغير فيها المنطق وطريقة التفكير على مستوى الإنجاز والتحقيق، وذلك عندما أعادت ثورة المعلومات ترتيب فكرة التصميم وفق أولويات جديدة تضع في اعتبارها الوقت والكلفة والجهد والإبداع، ما أدى إلى التحول من نمط التفكير التناظري إلى نمط التفكير الرقمي، والذي بدوره هيأ للمصمم أدوات ووسائل جديدة لا تعينه على تحقيق أفكاره بتقنيات جديدة وإنما تجعله يفكر بطريقة مغايرة يصبح فيها للوقت والجهد والإبداع معان مغايرة . ولاشك إن كل هذه المعطيات الكبيرة والمتحولة قد مهدت إلى استشراف نظرية الجمال في التصميم بطريقة بنائية – تركيبية على أساس من تلك التحولات التي غيرت من مفهوم الفن والجمال ووظيفتهما الحالية، وكان على رأس ذلك تغيير الحاجات الإنسانية وتعددها بين حاجات نفعية وجمالية ورمزية أعادت طبيعة التوازن والعلاقة بين الجمال المادي والجمال المعنوي من خلال التفاعل الجدلي بين متطلبات خصائص المادة والحاجة التي تفرضها المقومات الجديدة. وقد تمخضت هذه النظرية عن قيم جديدة لمعنى الجمال في التصميم ووظيفته
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©