الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الوجوه والمدن والطفولة الهاربة

الوجوه والمدن والطفولة الهاربة
24 نوفمبر 2010 19:55
تبلغ التجربة التشكيلية لمحمد الجالوس اليوم ثلاثين عاماً من عمر الفن، فقد انطلق الفنان بهذه التجربة في مطلع الثمانينيات، وعبر بها محطات ومراحل عدة، بدءاً من انطلاقته في مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين في عمان، وانتقل بها إلى مراحل من التجريب ربما كان من أبرزها تلك التجربة التي عاشها في الولايات المتحدة التي شكلت نقلة على صعيد المغامرة وتصعيد التجريب، وصولا إلى ما وصل إليه اليوم من رغبة في ترسيخ التجريد عبر تجارب لونية يقوم بالتجريب فيها. التجربة بدأت بواقعية مشهدية حاول الفنان من خلالها تصوير بيئة المخيم وأحوال اللاجين، فصور عبر ألوانه الصاخبة هموم هؤلاء البشر في صور تقترب كثيراً من الفوتوجراف، لكنها ليست خالية بالمشاعر والانفعالات، بل إن صرخة الألوان كانت تعبيراً عن إحساس الفنان بما يجري من حاوله، وقدرة الفنان آنذاك بالتقاط هذه المناخات والتعبير عنها بصدق وعفوية. وشيئاً بعد شيء أخذ الفنان ينوع في موضوعاته وأساليب عمله، لكن دون أن يفقد شكلا من أشكال الحضور للمرحلة الأولى وهمومها وموضوعاته، حتى في أكثر أعماله تجريدية. وليس المخيم وحده هو ما يجذب عيني الجالوس ورؤيته واهتمامه، بل المكان والطبيعة والمرأة، التي يشعر معها بطفولة هاربة فيستحضرها في الكثير من أعماله بصور عدة، ويجد فيها بديلًا عن واقع لا يريد أن يغرق فيه, وهو كما أعرفه كثيراً ما يجد نفسه هائماً في الطبيعة يستلهم روحها وعناصرها في صور متعددة، واقعية وتعبيرية وتجريدية، ولكن في كل الحالات على نحو شاعري شفيف وعميق. هذا إلى عناصر أخرى تنطوي عليها تجربة الجالوس، مثل تجربة الوجوه والبورتريهات التي اشتغل خلالها على الوجه بأسلوب تعبيري متميزاً، ومن خلال تجربة لونية ذات دلالات ومعان يلعب إيقاع اللون والتكوينات فيها دوراً كبيراً. هذه التجربة التي تتطلب دراسة معمقة صدرت مؤخراً في كتاب بعنوان “محمد الجالوس: ثلاثون عاماً في الرسم” ضم كافة المراحل الفنية التي مر بها الفنان منذ عام 1980 وحتى الآن، وهو كتاب مجلد من القطع الكبير كتب له دراسة نقدية وتقديم، الشاعر والناقد العراقي المقيم في السويد فاروق يوسف، وشارك في الكتابة عن هذه التجربة عدد من الفنانين والنقاد. وقد أقام الفنان حفلًا لتوقيع كتابه ضمن معرض يقدم فيه مجموعة جديدة من الأعمال الفنية أنجزها ما بين عامي 2008 و 2010 وهي تأتي في سياق البحث الفني في الوجوه والخامات. حول المعرض والكتاب يقول الناقد فاروق يوسف في مقدمة الكتاب: تجربة هذا الرسام هي مجموعة خبراته التقنية والفكرية المتراكمة، وهي خبرات مستلهمة من سعي شخصي، كان يهدف بالدرجة الأساس الى تجريد الرسم من طابعه العمومي. فالجالوس ورسومه في مكان فيما الرسم في الأردن في مكان آخر. لا يشبه أحداً من الرسامين ولا يشبهه أحد منهم. حكايته مع الرسم هي ذاتها حكايته مع ذاته المتمردة والذاهبة الى تشظيها بين خيارات متعددة. لم يتخذ من الرسم وسيلة للوصف أو الشرح أو المباهاة، كان لديه دائما ما يقوله مختلفاً، لكن بطريقة حساسة لا تستثني الجمال من توق التحرر من أيقونيته. وكما يبدو لي فإن الرسام لم يسع الى ترويض انفعاله المتحرر من كل شرط بقدر ما سعى إلى تحويل ذلك الانفعال إلى سلوك يومي مباشر. أسلوب عيش داخل الرسم حول الرسام الى ذلك الاستثناء الذي صاره، نزعته الجمالية المتشددة جعلته لا ينصت إلا إلى الأصوات التي تشكل جزءاً من إيقاع لا يزال غامضاً، ولم يتخذ بعد هيئته التي تمكن البصر من الإمساك به. الوفاء لتلك النزعة تجسد في امتزاج يد الرسام بمادته. حيث كان الرسم يصدر عن فعل الرسم لذاته. جماليات تنعم بحيويتها التي هي الملهمة في الوقت عينه. لقد ارتبط الأسلوب الشخصي (وهو تعبير مجازي ليس إلا) لدى الجلوس بمستوى تحرره من ذاته الاجتماعية والثقافية وامتزاجه بما يتطلبه فعل الرسم من تخل عن العالم الخارجي. يدخل الرسام الى اللوحة البيضاء ليقيم هناك. ينغمس في اضطراب الأصباغ لينسى ما يمكن أن تتركه تلك الأصباغ من إيحاءات رمزية. أعتقد أن النسيان ضرورة للرسم. سوف نعود حفاة إلى الماضي. عراة مثلما كنا فيه تماماً. يزيح الجالوس عن سطح لوحته كل اوهام الماضي. يعيد ذلك السطح إلى الحاضر. في الخمسين من عمره (ولد عام 1960) لا يزال يشعر أن في إمكانه أن يتماهى مع ذلك الطفل الذي يتسلقه. طفل المخيم الذي لا يود سوى أن يرى ما الذي يقع خلف السياج. يمكنني أن أقف بإجلال أمام تلك اللحظة. نتسلق معاً سلماً طويلًا لنرى العالم. يجد الجالوس أن رسومه تعينه على إحباط كل محاولة لإيقاف الزمن. يتبع أثر عصا الأعمى وهي تطرق أرضا لم تتعرف إليها قدماه من قبل. عبارة (ارسم لتر) ليست سوى نصيحة مغرضة. لكنها في حالة الجالوس تكاد تكون واقعاً. هذا الرسام لا يرسم ما يراه. وفيما يتعلق بوجوه الفنان يشارك الناقد والفنان طلال معلا بمداخلة فيرى أن لكل وجه من هذه الوجوه مأزقه ومحنته، أحلامه ورؤاه وشروطه وأسراره، وإذا كانت هذه الوجوه بتعددها تحمل مسارات وعي المبدع من جهة، فإنها بلا شك تحمل وعي الرائي والناقد والمحاور، لمعاني الدهشة المتولدة من كون هذه الوجوه، بوابات تنقلنا إلى مجالات أبعد مما نتوقعه، أو نحاول الوصول إليه، عبر ديمومة العلاقة بين الميلاد والفناء، البذرة المدفونة والثمرة التي تمنح الحياة. على أن محمد الجالوس وبهذا المعرض وضمن هذه الفترة الزمنية التي قاربت على الثلاثين عاماً في الرسم، يقدم أعمالا” تأتي في سياق بحثه الطويل والقديم في الخامات ومعاجين الورق والمواد المختلفة، وهو الفنان المجرب الذي رسم الأعمال الواقعية وأعمال الرسم المائي التي أنجزها، بين خمس سنوات واخرى، تلك التي حققت حضوراً ونجاحاً كبيرين، خصوصاً في تناوله للمدن الأردنية والفلسطينية ذات البعد التراثي والمعماري المميز من مدينة الفحيص ثم السلط إلى القدس ونابلس في العام 2008. وقد جاء في دراسة بقلم الناقد والفنان محمد أبو زريق أن جرأة الجالوس في تلك المعالجات التي كسا بها وجوهه وأجساده، في محاولة منه لإبعادنا عن التعاطف الساذج معها، وبدلا من ذلك، فقد أقحمنا في النظر إليها ككائنات تعيش غربتها وعزلتها، وتزيل بعضا من أقنعتنا التي ألفناها أو نفرنا منها في سرنا، وأكثر من ذلك أوصلنا إلى احترام أسرارها ومحاورتها، إنها كائنات حقيقية تعيش بيننا، ولكننا لم نكن نراها، بل وتشاركنا خياراتنا رغماً عنا، وهي بالتالي دعوة للرؤية والرؤى. الجالوس ظل يجرب من دافع الشك الديكارتي الذي ينفي الوثوقية والسكون ويسعى للحركة والبحث عن الجديد بل إن ارتجال الأساليب والانقلاب عليها قد قاد الجالوس إلى التفرد، لتعزف الوجوه مرارة تحققها، وتنحت صمتها على أبصارنا، باعتبارها حقائق لحظية نعايشها في كل موقع، ومصائر شكل مجموعتها الإيقاعي، رمزاً لسرد تصوغه اللوحة بطاقة الحياة... إنها المشاعر المكثفة القادرة على بث البصيرة وعدالة التجدد، وكما تحتل الحياة مساحة اللوحة، فإن وجهاً آخر يبرز مشيراً إلى الموت، بمحمولاته الرمزية وشيماته العاطفية، بحيث تمتزج الرؤية المركزة لوجوه الجالوس بمختلف عناصر بنائها وتكويناتها، القماش واللون والمعاجين والمساحيق والمعادن المسحوقة، وكل ما يمكن البصر من تجاوز الملامس وسطح العمل الفني، للوصول إلى انبعاث متجدد تظهر فيه الرؤية من قوة الفناء، لتبدأ الانطلاق من وجوم العيون إلى خصب الاستمرار). لقد ظل الجالوس طوال تجربة تمتد لأكثر من ثلاثين عاماً مسكوناً بالتجديد والبحث وقد صرح بهذه الخصيصة عندما قال: رغم قناعتي بأن الفن المعاصر لم يبقِ للفنان إلا مساحة ضيقة للاختراع والتفرد، إذ ليس هناك من جديد أمام الفنان المعاصر غير روحِهِ التي يثبُ بها ومخزونِه البصري، وخامةٍ ربما يستعيرها من بقايا الطبيعة يحمل بها مقترحه التشكيلي إلى عين المشاهد. الجالوس فنان تحكمه نزعة التجريب، ولا يرتكن إلى منجز تشكيلي محدد وموصوف، لذلك فهو دائم البحث عن أساليب وتقنيات وخامات، كما أنه دائم البحث عن الجديد، وليس لديه من ثوابت أو مقدسات في العمل الفني، ولكنه مخلص لفنه ولذاته، وهذا أعطاه حرية الاصطفاف مع ذاته وفنه، دونما استجداء لحالة فنية مسبقة، ودونما ارتهان إلى قيم ذات ابعاد محددة ومفروضة من خارج العمل الفني. الفنان محمد الجالوس مواليد عام 1960 درس الفن في معهد الفنون الجميلة بعمان بين عامي 1979-1981 وحصل على بكالوريوس في إدارة الأعمال من الجامعة الأردنية إلى جانب ترأسه لرابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين بين عامي 2003-2004 وعضويته في أكثر من لجنة تحكيم فنية داخل وخارج الأردن وعضويته الدائمة في اللجنة العليا الدولية لمهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية في تونس وإنجازه للعديد من الجداريات الفينة في الأردن والخارج. أقام الفنان أكثر من ثلاثين معرض شخصياً وعرضت أعماله في أكثر من عاصمة ومدينة داخل الأردن وخارجها وفي أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب مشاركته النشطة والواسعة في المعارض الدولية ورشات العمل في مختلف دول العالم، إلى فوزه في العام 2002 بالجائزة الأولى في بينالي طهران الثاني للفن في العالم الإسلامي، وهي المسابقة التي اعتبرت بداية مهمة لفوز الأعمال الفنية العربية في بيناليات ذات سمعة عالمية ومنافسة قوية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©