الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بوح وتأملات وأسئلة بلا نهاية

بوح وتأملات وأسئلة بلا نهاية
24 نوفمبر 2010 19:53
منذ البداية، لن أشغل نفسي بمسألة التجنيس وتصنيف النص الذي بين يدي، فأظن أن هذا عمل ناقد يدرس النص وعناصره من هذا الجانب. وسأقول إنه نص مفتوح على التجنيس، يقدم الذات في مراحلها ومحطات حياتها، الطفولة والفتوة والشباب حتى الكهولة. مفتوح على الماضي الذي لا يمضي والحاضر المهجوس، على الحياة والموت، على المرغوب والممنوع، على الدين والقديسين وطقوس الطفولة والخوف والحب والأبوة والأمومة والبنوة، مفتوح للتأمل والسؤال، للحلم والواقع والأوهام، للتحولات الصغيرة والكبيرة التي تمر في حياة “بطل” النص، منذ طفولته المبكرة حتى زمن عملية “قلب مفتوح”. هي عملية تفتح الأبواب، في صورة أساسية، على سؤال الموت والغياب، لكن هذا السؤال يفتح على عوالم الحياة وتفاصيلها، وعلى الطفولة خصوصا، هذه الطفولة الثرية بالتناقضات والمشاعر التي يعانيها طفل لا يعرف صورة الأب ويفتقد صداقة الأم، طفل يكره “يُتْمَه” ومشاعر “الشفقة” من الناس تجاه هذا اليتم، ويستطيع عبده أن يدخل من هذا الباب إلى ذاك بسهولة وسلاسة، يدخل من وضعه في المستشفى إلى ذكرياته وطفولته بقدر من الحميمية، بقدر من التأملات المعمقة، بقدر من التساؤلات الطفولية التي يطرحها كهل يشعر أنه يقترب من الموت، لكنه يعود للحياة ليكتب، فيهتف في نهاية الكتاب “أكتب الآن، لقد عدت إلى الحياة حقا. ما أجملك أيتها الحياة عندما تشرقين من وراء سور الليل”. نص قاس وحميمي في آن، نص الطفل الصغير، الصبيّ اليتيم، المراهق الرومنطيقي، الشاب المقيم في البين بين من الالتزام السياسي والحزب، الكائن الديني، المنتمي واللامنتمي، الشكَّاك المؤمن الملحد الشغوف بالسؤال، ثم الرجل المطمئن إلى حيرته، حيرة الكاتب (الإنسان) وقلقه العاصفين، الكاتب الذي يكتب ليكتب، لا لشأن آخر “لا أكتب لأواجه ولا لأتحرّر. ولا لأنتفض، ولا لأهرب، ولا لأغيّر الحياة أو العالم (...) أكتبُ لأكون نفسي، لألقي الضوء على نفسي، نفسي التي يظلّ يكتنفها الظلام مهما ألقيت عليها من أضواء، نفسي المعتمة، نفسي التي هي الناحية الأخرى مني... أكتب لأرى نفسي وقد استحالت أسطراً من حبر، أسطراً تبرق مثل نجوم بلا ليل”. إنها كتابة تأتي من التذكر والتأمل والتساؤل، “أتذكّر الآن أتذكّر... كأنني أصبحتُ كائنا من ذكريات لا تاريخ لها”، لكنها ذكريات هي تاريخ خاص، وهي تأريخ للشخص والعائلة والبلاد، تاريخ الجراح والمعاناة والآلام، تاريخ الضعف والقوة البشريين، تاريخ الحب والكراهية، والفارق بين العطف أو الحنان وبين الشفقة، حب الحنان وكراهية الشفقة، تاريخ العلاقات على اختلاف صورها ومصائرها، خصوصا علاقة الذكر بالأنثى، منذ العلاقات الطفولية، الأنثى الأولى، حتى علاقة الابن الذَّكر بأمه المترمّلة. علاقات مع الأدب والفن، تبدأ من الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد بوصفهما نصوصا في اللغة والجمال، ثم القرآن ولغته الرفيعة “اللغة التي تحدث بها الله”، مرورا بالشعر والرواية والسينما، العربية والعالمية، التي ثقفت الفتى والشاب العاشق للفلسفة والفكر، والمتابع بهجس كبير لكل جديد، الأمر الذي نكتشفه لدى قراءة “قلب مفتوح”، بما فيه من تأملات مسنودة برؤى الفلاسفة والأدباء والفنانين عبر العالم. تأملات تطال جوانب الحياة والوجود وأسئلتها بعمق وتفصيل، وتغوص في الشؤون النفسية الدقيقة للإنسان، كما في شؤونه اليومية الحياتية الصغيرة. علامات كثيرة تستوقف قارئ هذا النص المتدفق والمتوالد، ما بين الحلم والتذكر تتوالد الحكايات وتنبثق من سؤال هو أساس الحيرة “أيكون الاقتراب من الموت والخروج منه هما اللذان يخلفان حال الحيرة هذه؟”، وسؤال آخر “أهي مواجهة الموت تكشف الوجه الآخر من الحياة، الوجه السري الراقد في أعماق النفس؟”، سؤال يضع النص في نقطة بين الوقائع والحلم “في الليل أحلم كما لو أنني أتذكر، وفي النهار أتذكر كما لو أنني أحلم، لم تبق من تخوم تفصل بين ما أتذكره وما أحلم به”. يسلم عبده وازن زمام تأملاته لفكرة تسلمه إلى سواها، أو يبدأ من حادثة بسيطة تقوده إلى صفحات من التفكير وتقليب الفكرة على وجوه غير مسبوقة، ويستشهد بهذا الشاعر مرة، وبذلك الفيلسوف أو النبي حتى مرة، بحيث يأخذ نفسه وقارئه في رحلة تطول أو تقصر، رحلة عذاباته وعذابات البشرية. رحلة القلق والاكتئاب، رحلة التأمل في الانتحار ومحاولة تفسيره، ورحلة مع الليل والعتمة مقابل الضوء. الانتحار ـ مثلا ـ يحتل في تفكير السارد حيزا مهما وبارزا، التأمل هنا يقوده إلى عوالم كتاب وفنانين وشخوص روايات، وأفكار فلاسفة شكلت قناعاته ورؤيته إلى الموضوع، كلمة الاكتئاب أو الانهيار العصبي أو “سويداء” المستعارة من شاعر “أزهار الشر”، تحضر أوفيليا ورومية وجولييت وهملت، “المحكمة” لكافكا، “الغريب” لكامو، وتحضر إيما بوفاري، هؤلاء وسواهم يكونون فهم الكاتب للانتحار. الكتابة والحلم ثنائي ينشغل الكاتب في تفكيك علاقتها، فعندما ينجو من فم الموت، فيرى أن “الكتابة” هي الوجه الآخر للحلم، يستعيدها “مستعيدا خيط الأحلام التي تحلق في سمائي مثل طيارات من ورق”، ورغم كل ما كتب فهو لا يدري ماذا يكتب أو سيكتب، فهو في حال حلم دائم، لكنه يعرف “أن القلم يوشح الورقة البيضاء بحبر أبيض مثل الورقة نفسها”. وفي مقابل هذا الثنائي، ثمة ثنائية الكتابة والموت والسباق بينهما، مع إيمان يقيني بأن “الكاتب لا يكتب إلا ما قدّر له أن يكتب”. أهي القدرية؟ قلب مفتوح إذن ليست عملية جراحية، إنه كاتب “يفتح قلبه” (كما نقول بالدارجة: افتح لي قلبك وفضفض)، يفتحه ليبوح بما يسميه حياته، لكنها أيضا حياتنا التي لم نكتبها نحن. ربما تختلف التفاصيل والمكونات، لكن الكثير من حيواتنا تتشابه في الجوهر والأساس، وتحديدا في العلاقة مع الحياة والموت، الحضور والغياب كما ظل يكرر محمود درويش في سنواته وكتاباته الأخيرة. هذا كله يقدمه عبده وازن في لغة رصينة ومرهفة وأنيقة، لغة يعرف كيف يصوغها بدقة لا تخطئ الهدف، مستخدما ثقافته وذائقته وتجربته في رسم المشهد بالتصوير والتذكر، بأساليب سرد تقترب من الشعر والتحليق بالمشهد، بقدر ما تحكي وتقارب لغة الواقع. لغة تراوح بين الوصف والتفكر، بين الرقة والقسوة على صعيد اختيار المفردة، كما على مستوى التجرؤ في وصف المشاعر والوقائع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©