الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تعالٍ إلى حيث الضوء

تعالٍ إلى حيث الضوء
24 نوفمبر 2010 19:50
“أي شخص يملك في داخله المقدرة على الإبداع وإعادة الخلق. ولا وجود لفيلم إلا إذا شوهد؛ وإذا لم تكن هناك عينان قد نظرتا إلى الصور لا يمكن للصور أنْ تخرج. عندما أنتهي من فيلم، لا يعود لي، إنه ينتسب إلى الناس. لسْتُ أكثر من وسيط في هذه العملية.” فيكتور إيريك. طيلة مدة تزيد على الثلاثين سنة بقليل، أخرج السينمائي الإسباني فيكتور إيريك (1940) ثلاثة أفلام رئيسية واثنين قصيرين. غير أن الصلة الفنية والفكرية التي تربط بين الأعمال العظيمة هذه لا تنتهي عندها بل تجاوزتها. إيريك صانع الأفلام يستكشف محيطه من خلال شدة العناية بالتفاصيل والغنائية ومساقط الضوء والتأليف المصفّى. أيضا، يقدم شخصياته متلازمةً أو متورطةً في أزمنة وفضاءات ولحظات تاريخية استثنائية. يتميز الفيلمان الأولّان لإيريك بالقوة، “مثل مالك” و”درييَر”، بالبنية المتبلورة حيث هوية الشخصيات النسوية تقع في المركز داخل محيط ذكوري (لكن هذه الهوية يجري تقديمها وإبراز كفاحها نفسه كفعل كلام؛ كفعل وجود للصوت). وعلى الرغم من أن أفلامه قد ألّفها بدهاء، إلا أن إيريك أيضا يلتقط الصور بأسلوب يستجيب لإمكانات الصورة الصوتية ومصادفات تنشأ وحدها في مكان التصوير المُعَدّ، في حين أن بإمكان أي شخص أنْ يتخيّلها، أو حتى أنْ يستغرق في أحلام يقظة حولها. ذلك أنّ التساؤلات الفلسفية لشخصية “مالك” والتأملات الروحية لشخصية “درييَر” تشغلان اهتمام إيريك بين الفيلمين، على ما يبدو. إنه يبني صورتهما معا على نحو عجول. ورغم أنه، حقيقة قد اعتاش من كتابته النقد السينمائي والسيناريوهات والإخراج التلفزيوني (التي تضمنت عددا واسعا من الأفلام التجارية) فسوف يتخيل المرء يقينا، أو يدرك بسهولة على الأقل أنّ فيلميه هما نتاج لما يتسمّ بالعمق، ولعملية ممتدة من ردّ الفعل ثم استرخائه، مثلما أنهما نتاج لحصيلة من تنامي التفاصيل وبرهة من الزمن. ومن الملاحظات الدقيقة التي انتزعها خلال فترة الفترة المتبقية من الوقت المخصص للتصوير كما هي الحال عندما اقترح طريقة عملية بوعيه العميق الذي جعله يلحّ على تصوير فيلمه الثالث “شمس شجرة السفرجل” 1992 كل يوم طيلة شهرين، رممه بتقنية الفيديو عندما أصبح الفيلم في المتناول، وكانت ميزانيته قد نفَدَت على نحو متقطِّع. ولم يكن مفاجئا أن يذهب فيكتور إيريك باتجاه موضوع الرسم والرسام الذي جعل منه نتاجا صريحا لتأملاته انشغاله الكامل بالضوء؛ بل في الحقيقة، قد جعل منه ـ أي انشغاله بالضوء ـ موضوعا ظاهريا للفيلم كما جعل منه تفصيلات ملحوظة وتغيير في المواقع إنما بأسلوب رهيف واختلافات تمّت حياكتُها بحسب مرور الوقت. شكليا، ورغم أن الفيلم لا يخلو من بعض البطء، إلا أن “شمس شجرة السفرجل”، يقرِّب سينما فيكتور إيريك من سينما عبّاس كياروستامي، حيث يمزج بين البنية الروائية النوعية من ناحية وبين المادة التوثيقية للحياة اليومية وشخصيات الحياة الواقعية وظروفها من ناحية أخرى. في “شمس شجرة السفرجل” نحتاج إلى التأمل في العاطفي في مجرياته، لكن الفيلم، بحكم تكوينه، يبدد ذلك الربط ثم الانفصال بين الرسم والسينما إلى حدٍّ ما. فنشاهد الرسام (أنطوني لوبيث غارثيا نفسه، يرسم يوميا بعمق فيما يحاول القبض على لعبة الضوء وتبدّلها على أوراق وثمار شجرة السفرجل، هذه اللعبة التي تتطور تدريجيا وباستمرار، بينما يحاول المخرج (فيكتور إيريك) توثيق العمليات الديناميكية للإبداع والتخييل معا، وفي الوقت نفسه يعرض لنا، بعناية، الحيوية الصافية للوحة الساكنة. ربما، لم يقبض الفيلم بما فيه يكفي على التفاصيل ولم يستطع أن يبلور حيوية الرسام باختتام مناسب أو في صورة سينمائية لا لُبس فيها، في حين فقدت اللوحة ديناميكية الضوء (والحياة بالتالي) خلال عملية نقل الشجرة إلى السطح التصويري للوحة. ومع ذلك، فكل من اللوحة والسينما قد ذهبا نحو التقاط جوهر الموضوع. وهذا الشدّ بين متوسِّط الحركة (وبالتالي الزمن) والخلود أو البقاء (وبالتالي المفهوم المختلف للزمن) هو ـ أي الشدّ ما بين المفهومين ـ ما يشغل سينما فيكتور إيريك. من الممكن للزمن وتوثيقه أن يُدركا بوصفهما الفكرة المهيمنة في سينما فيكتور إيريك؛ ذلك ال”زمن” يراه إيريك مرَضا مزمنا للإبداع الفني نفسه: “زمن يحضر في أي خَلْق فني لأن الجنس البشري يبحث عن البقاء” بحسب قول فيكتور إيريك. لكن مثلما هو عمل الرسّام، فإن سينما إيريك أيضا، هي واحدة من عمليات التي تَلتَقِط نتائجها الغامضة الخاصة بها لحظة بلحظة وبأقصى ما يمكن منحه من الأهمية أثناء المتابعة. تُستحثُّ عمليتا الإبداع والتخييل لدى المُشاهد خلال عرض أفلامه. تتموضع هذه الفكرة في سينما إيريك خلف الأشكال الفنية للتعبير السينمائي، حتى في “شمس شجرة السفرجل” فإن العمل اليومي للرسام يبدو مقارنا بعمل مجموعة من البنّائين، فضلا عن النشاط الأوسع للعالم المباشر (الذي يجري توثيقه على نحو موسَّع من خلال تغيّرات وخفقات الضوء) والذي يحيط بالرسام وحديقته المُسوَّرة. وكما في “روح خلية النحل” 1973 و”الجنوب” 1983، يتتبع إيريك تلك الشخصيات التي خلقَتْ فهما خاصا بها للعالم من تلك المادة المجتزأة وغير المتماسكة الموروثة من “عالم” خبراتهم. يُستهلّ فيلم “روح خلية النحل”، الذي يدور في مكان ما على أرض كاستيلا المنبسطة قرابة العام 1940، بالآثار الكارثية للحرب الأهلية الإسبانية. لكنه أقلّ من أن يكون فيلما تاريخيا وواقعيا على نحو مُطلَق عن تلك الفترة وأحداثها (كان فيلما قد صُنِع في آخر الأمر، تحت حُكْم فرانكو غير الملزَم أبدا بقوانين أو تشريعات) وذلك بالمقارنة مع تجريبية هذا الفيلم ومع تأثير جوهره على أفراد معزولين ومجتمعات. إنّ شخصياته، التي نادرا ما تتحدث، انطوائية ومنعزلة وقد وجدت مشاغل خاصة بها بأشكال متنوعة في ما يمكن أن ندعوه التجريد المجازي ـ سواء الهاجس الميتافيزيقي للأب بالنحل، أوالرسائل غير المبررة من الأم إلى عاشق، ثم استيلاء الابنة الشابة على صورة المتوحش “فرانكشتاين” وحكايته كي تختبر معنى للهوية والاختلاف والموت الجماعي. هذا الاستبطان وألم تعبيراته وكذلك الأسرار التي لا يُباح بها أو يُكشف عن ما ينجم عنها من ارتدادات غامضة، من الممكن إدراكها جميعا بوصفها ميزة سياسية للفيلم. وعلى نحو شبيه، نرى في “الجنوب” مجموعة من الأفراد غير القادرين على التواصل ويحاولون التعامل مع إرث لماض ينحسر الآن؛ وتحديدا الحرب الأهلية والانقسامات التي جرى خلقها داخل العائلات وبين الأجيال بعد انتهاء تلك الحرب. وعلى الرغم من أن الفيلم قد جاء نسخة مبتورة عن نسخة إيريك الأصلية بعض الشيء ـ فلقد صاغ الجزء الأخير منها بحيث يتلاءم مع ال”جنوب” فيتم تصويره هناك، حقيقةً ـ إلا أنها، أي نسخة إيريك، هي رفض للانتقال خارج المجتمع المعزول للشمال، الذي تسكنه العائلة كمنفى من نوع ما، ثم تغادره كاشفة عن إمكانيات ذاتية في التخييل والإبداع تميِّز عمل إيريك وبالتالي شخصياته. كلا الفيلمين، “الجنوب” و”روح خلية النحل” يدوران حول الواقع التجريبي للشخصيات والمجتمعات وبالتالي للبلاد، إنما في عزلتها جميعا. إنها، في المقام الأول، تركز على مسعى الشخصيات النسوية إلى تزييف هوياتهن داخل بيئات متبلدة الذهن ورهيبة وخرساء. وتُعد أفلام إيريك استثنائية لجهة المساحة التي تمنحها هذه الأفلام للشخصيات، حتى تلك المرأة التي تُرى في “الجنوب” تعبّر عن نفسها من خلال رسالة طويلة إلى والد “استريللا”. وهذا الجدل الظاهري بين الشخصيات المميّزة والعالم الذي يحيط بها يبلغ مداه في تحقُّقِ فَهْم عام لما يربط الصورة بالصوت في سينما إيريك. إن أفلام إيريك، وعلى نحو غير معتاد، مشغولة بالموت. إنه الموت في “روح خلية النحل” و”الجنوب” كليهما مَنْ يمنح الشخصيات الأنثوية الرئيسية مغامرةً نهائيةً خارج العالم. والفيلم المميّز لإيريك حتى الآن، “شمس شجرة السفرجل” هو فيلم عن شخصية أكثر كونها من لطيفة وتشعر بالاسترخاء. إذ على الرغم من أن الرسام يواجه موتا ما كل يوم مع تقلّبات الفصول على شجرة السفرجل محاولا أن “يلتقط” الضوء، إلا أن الفيلم مشغول أكثر بكثير بالرياح الناعمة لتلك التقلّبات والعمليات المتعاقبة للتجدد والنمو (التي هي أيضا نوع من الموت).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©