الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العزلة أم الكراهية؟

العزلة أم الكراهية؟
24 نوفمبر 2010 19:49
يقول الدكتور نادر كاظم في كتابه الجديد “كراهيات منفلتة/ قراءة في مصير الكراهيات العريقة”: “إن انتعاش الكراهيات بين البشر إنما كان يستمد قوته من العزلة الجغرافية ومن التقوقع والانكفاء القديمين بين الجماعات. وقد تمكنت الجماعات في ظل هذه العزلة، من إنتاج كراهياتها وتداولها دون تكاليف باهظة. والسبب في ذلك أن العزلة كانت تؤمن الأجواء المناسبة لانتعاش الكراهيات داخل كل جماعة. وبناء على هذا، يمكن أن يستنتج أحدنا بأن زوال العزلة سيكون نتيجة طبيعية لانفتاح حدود الجماعات بفضل التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات والاتصالات. وبهذا النوع من التواصل المكثّف ستزول العزلة، وتختفي على إثر ذلك، الكراهيات العريقة. لكن الذي حصل لم يكن كذلك. فالتواصل المكثّف أصبح حقيقة بفضل التقدم المذهل في وسائل المواصلات والاتصالات والإعلام. إلا أن العزلة ما زالت قائمة، والكراهيات العريقة مازالت منتعشة”. إنتاج العزلة يعرض المؤلف في كتابه كيف تضعنا هذه المفارقة أمام حقيقة مهمة، وهي أن وسائل المواصلات والاتصالات وسائل مرنة ويمكن استخدامها في خدمة الأغراض المختلفة. بمعنى أن الجماعات تستطيع أن تعيد إنتاج عزلتها وكراهياتها بالاستعانة بهذه الوسائل. وإذا كان من شبه المستحيل تأمين العزلة المكانية القديمة في عالم جرى عولمته، وأصبح بمثابة قرية كونية، ومشبوكاً من أقصاه إلى أقصاه بشبكات اتصال معقدة ومتكاثرة، فإنه من غير المستحيل، في المقابل، أن تقوم الجماعات بإعادة إنتاج عزلتها الافتراضية والمتخيلة والتواصلية، وهي تفعل ذلك اليوم، وبالتوسّل بشبكات الاتصالات المعقدة والمتكاثرة. لا يمكن إنكار الدور الذي لعبه ذلك التسهيل اللامتناهي للمواصلات والاتصالات في تقريب البشر، وتقليص المسافات، وتجاوز الحدود الجغرافية التي كانت تفصل بينهم، إلا أن هذا لا يعني، بالضرورة، زوال عزلة الجماعات؛ لأن الجماعات قد تتساكن وتتجاور في المكان، إلا أن هذا لا يعني، بالضرورة، أنها تتعايش وتتواصل فيما بينها، وبدل العزلة المكانية سنكون أمام عزلة تواصلية. ويمكن لهذه العزلة التواصلية أن تعيد إنتاج نفسها بالتوسل بتكنولوجيا الاتصال والإعلام، وذلك حين لا يجد أبناء الجماعات حاجة ملحة إلى التواصل إلا من نظرائهم من أبناء جماعتهم، وحين يتوسّل هؤلاء بأحدث تقنيات الاتصال لا لشيء سوى خدمة التواصل الخصوصي المغلق فيما بينهم وتعزيز الروابط بين أبناء جماعتهم فقط. وعلى الشاكلة ذاتها، فإن المجال العام الذي يتحدث عنه الكاتب في هذا الكتاب قد يصبح عديم الأهمية حين يكون مجزأ بحيث يكون لكل جماعة فضاءاتها وفضائياتها وإذاعاتها وصحفها ومواقعها ومنتدياتها الإلكترونية الخاصة بها. وفي مثل هذه الظروف يمكن لذلك التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات والاتصالات، ولذلك المجال العام المجزأ أن يؤديا وظيفتهما بطريقة عكسية، فبدل أن يعززان التواصل والانفتاح والعيش المشترك، ويهددان بزوال الفواصل وكبت الكراهية، إذا بهما يعمّقان عزلة الجماعات الافتراضية والمتخيلة، ويعيدان إنتاج الفواصل والتنافر والكراهيات والحساسيات المتبادلة. الواقعي والمتخيّل وفي رأي المؤلف إن التأمل في هذه النتائج العكسية مهم جداً؛ لأنه يفرض علينا أن نعيد النقاش مجدداً في علاقة العزلة بالكراهيات، وفي دور تكنولوجيا الاتصال والمواصلات في وضع حد لهذه العزلة ولكراهياتها العريقة. وسوف يبادر إلى القول بأن الاتصال المكثّف لا يهدد العزلة لكونه يسهّل حركة البشر التواصلية، وحين يضع الآخر أمام الذات على نحو واقعي ومتخيّل، وحين يحمل الجماعات على الالتفاف إلى آخرها ومراعاتهم، وأخذهم بعين الاعتبار من أجل التعامل معهم باحترام يليق بهم، الأمر الذي يحفظ للناس كرامتهم الإنسانية ويؤمن لهم العيش المشترك. والثابت أن البشر لا يتورّعون عن التعبير عن كراهياتهم بفظاظة جارحة في ظل غياب الآخرين المستهدفين بالكراهية، إلا أنهم يحسبون ألف حساب حين يقف هؤلاء المكرهون أمامهم وجهاً لوجه على نحو واقعي أو متخيّل. قد يسمّي هذا النوع من أخلاقيات مراعاة الآخرين والالتفاف إليهم باهتمام مجاملة أو حتى نقية أو نفاقاً، لكنه ليس، بالضرورة ذلك، كما يقول. لأن النقية والنفاق تصرفان أنانيان ويتأسسان، بالدرجة الأولى، على الاهتمام بالذات ومراعاة الذات وحمايتها من الأذى، كما أن الالتفاف إلى الآخرين، في النقية والنفاق، لا يكون إلا بدافع الخوف والخشية من قوة هؤلاء الآخرين، في حين أن أخلاقيات المراعاة تنطوي على ضرب من الاهتمام بالآخرين بالدرجة الأولى، إلا أنه اهتمام من نوع مختلف؛ لأنه لم يكن، كما في النقية والنفاق، بدافع الخوف من قوة الآخرين، بل بدافع الاحترام، احترام الجانب الإنساني فينا وفيهم. وهذا الاحترام هو الذي يدفعنا إلى مراعاة الآخرين والحرص على تجنّب جرحهم والإساءة إليهم عمداً. ويبدو أن هذا النوع من مراعاة الآخرين، لا تكنولوجيا الاتصال ولا غيرها، هو الذي يمكن أن يهدد العزلة، وهو الذي يمكن أن يؤمن التعايش والتواصل البناء والإيجابي بين البشر، الأمر الذي يمكن أن يضع مصير الكراهيات العريقة أمام مرحلة حرجة. ويبيّن المؤلف أن هذا النوع من مراعاة الآخرين لا ينطوي على الاحترام الذي يليق بكل البشر والذي ينبغي أن يكون نابعاً من إحساسنا الداخلي بقيمة كل إنسان وبجدارته بالاحترام. وقد يكون هذا النوع من احترام الآخرين مطلباً ثميناً، والطريق إليه طويلاً لكونه يتطلب تهذيباً أخلاقياً داخلياً بحيث نكون نحن أولاً أناساً محترمين، من ثم، على قناعة تامة بأن الآخرين، تماماً كمثلنا، أناس جديرون بالاحترام، وأنهم يستحقون هذا الاحترام، ويستحقونه لا بتفضّل منا. كل هذا قد يكون صحيحاً إلا أنه يتصور أن بإمكان هذا النوع من مراعاة الآخرين أن تكون البداية على هذا الطريق الطويل باتجاه الاحترام المتبادل بين البشر أفراداً وجماعات. نزوع غريزي وإذا كان صحيحاً أن الكراهية، كما يقول فرويد وأنشتاين، نزوع غريزيّ عند البشر، وإذا كان صحيحاً أن البشر عاجزون عن اقتلاع جذور هذه الكراهية من نفوسهم بصورة كلية، فإن الصحيح، كذلك، أن هذا العجز ليس مبرراً لا للإنسياق وراء متطلبات هذه النوازع، ولا للتسليم لها وعدم مقاومتها. فقد نكون عاجزين عن اقتلاع هذه النوازع من جذورها، لكننا لسنا عاجزين عن مقاومتها وتحدّيها. وقد حاول البشر، طوال تاريخهم، تحدي هذا النوع من المشاعر بالقوة المكشوفة أولاً، ثم بقوة القانون لاحقاً. واقترح آخرون مقاومتها عبر إثارة المشاعر المضادة مثل الحب والشفقة. إلا أن علينا أن نذكر، هنا، بنوع عتيق من مقاومة هذه النوازع العنيدة، وذلك بالتوسّل بقوة داخلية وهي قوة الأخلاق وتهذيب النفوس وتأديبها على أخلاق المراعاة واحترام الآخرين والاعتراف بكرامتهم والحرص على تجنّب جرح مشاعرهم وإيقاع الأذى المعنوي بهم. ويمكن لهذا النوع من أخلاق المراعاة والاحترام الذي هو بمثابة صداقة بلا حميمية كما يفهم من أخلاقيات أرسطو، أن يقاوم هذه الكراهية ويقهرها، وذلك عبر تكريس النظر إلى الكراهية بوصفها عملاً لا أخلاقياً ودنيئاً ومعيباً ولا يرتكبه إلا الحقيرون والوقحون وصغار النفوس من البشر. ويتوقف المؤلف عند ما يسميه استعمالات الذاكرة، وكيف يتم يتعامل مع حالات التذكر الجماعي لا الفردي، وفي معظم هذه الحالات فإن الناس لا يتذكرون لأنهم، هكذا، مجبرون على التذكر، بل لأن هناك ما يذكّرهم ومن يذكّرهم. ومع هذا فلا يمكن إنكار أن ثمة حالات من التذكر اللاإرادي، وهو تذكّر لا يحتاج إلى مذكّرين لينبعث من مرقده. وهو، في الغالب ، تذكّر يرتبط بذكريات مؤلمة تنحفر عميقاً في ذاكرة أصحابها. ثمة علاقة دعم وتحفيز متبادل بين الألم والذاكرة، حيث يضطلع الألم بتخليد الذاكرة فيما تضطلع الذاكرة بتخليد الألم والإبقاء على ذكراه طريّة متجددة. والكراهية واحدة من مسببات هذا الألم، ولهذا فإن الألم الذي ينتاب البشر بسبب كراهية حقودة تستهدفهم أو تحقير بغيض يكون من نصيبهم وحدهم، هذا النوع من الألم مرشّح بقوة لأن يبقي في الذاكرة ويستعصي على النسيان، فهو أشبه بجرح لا يلتئم أبداً، وإن التأم فإن أثره باق لا محالة. هكذا يبدو ألم الكراهية والتحقير والإهانة وكأنه يخلد وجوده في الذاكرة، ويخلّد معه هذه الذاكرة، ذاكرة الكراهية. يذكر المؤلف يأهمية وجوهر فكرة الديمقراطية، وهو جوهر أخلاقي بالدرجة الأولى، ويتمثل في ما يسميه يورغن هابرماس بأخلاقيات المناقشة والمجادلة التي ينبغي أن تؤطر الفعل التواصلي، ويتمثّل، كذلك، في ما يسميه تشارلز تايلور بسياسات الاعتراف بالآخر وبكرامته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©