الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محاولة للقبض على الأزمنة والأمكنة

محاولة للقبض على الأزمنة والأمكنة
24 نوفمبر 2010 19:42
لم تكن محاولات التدوير الشعري السابقة على القصائد المدورة للشاعر حسب الشيخ جعفر (العِمارة 1941 ـ ) تتوقف عند المبرر الفلسفي والفني والموضوعي للتدوير، بل تكتفي بالاهتمام بالشكل السطري، والإيقاع المتواصل في نظام التفعيلة، والمقطعية التي تسم الكتابة بالتدوير، لكن حسب ينطلق في كتابة القصائد المدورة من قناعة فكرية تتجسد فنيا وبتواتر واستمرار على الكتابة، بينما انسحبت المحاولات الأخرى وتوقف كتّابها عن تكرار الكتابة بها. ومن تلك المحاولات قصيدة خليل خوري “الشمس والنمل” (1955) وقصيدتا يوسف الخال “الحوار الأولي” و”الجذور” في زمن مقارب، وقد كانت قصيدة “قارة سابعة” في ديوان حسب “الطائر الخشبي” المكتوبة عام 1969 مدورة جزئيا، إذ تخللتها أبيات في أشطار منفصلة لا في سطور متصلة في عدة مقاطع، لكنه بعد عام سيكتب الرباعية الأولى والثانية بتدوير كامل على امتداد القصيدة كلها، مدشناً هذا الشكل الذي سرعان ما سينتشر ويحتذيه شعراء كثر، بل يغدو من علامات الحداثة الشعرية الوزنية أو ما عرف بالشعر الحر. ينتقل ليشيع في نوع أكثر حداثة هو قصيدة النثر المهيأة أكثر من سواها بسبب نثريتها لتقبّل التدوير، وبعد أن يكتب حسب الرباعية الثالثة عام 1971 يستمر في اعتماد هذه التقنية في ديوانه اللاحق “زيارة السيدة السومرية” التي حملت بعض قصائده صفة التدوير أيضا كالحانة الدائرية والدورة ثم يخف التدوير ويختلط بالشطر الشعري في ديوانه “عبر الحائط في المرآة”. لقد كان التدوير استمدادا من شعر البند الذي كتبه شعراء العصور المتأخرة كشكل وسيط بين الشعر والنثر، خاتمين فقراته المتصلة على السطر بأسجاع، كان تباعدها يضعف دوي القافية وموسيقاها الخارجية، ويمنحها وظيفة بصرية تتعين بالكتابة، ما جعل بعض العروضيين التقليديين يعدّونها نثرا فنيا. أزمنة وأمكنة بلا حدود يستوقفنا في اختيار حسب الشيخ جعفر للتدوير كما يتجلى في هذه الرباعية رؤيته للحضور الزماني والمكاني في النص دون حواجز أو فواصل؛ فالماضي والحاضر والمستقبل تتضام وتصطف مع بعضها، وكذلك الأمكنة الريفية والمدينية في العراق والغرب يضمها سياق واحد، ما يتيح للشخصيات أن تحضر متزامنة رغم تنافرها: بائعة في متجر ببغداد، وتاييس التي تأخذ وجهها عبر الزجاج، وامرأة القيصر التي يرد عنها المغول الذين لم تعش زمنهم، فيما يكون الراوي يوسفا معشوقا ومتشردا في البارات وابن فلاح تتشقق راحتاه بمناجل الفلاحة، اختلاط متعمد في احتدام التدوير واستمراريته التي توحي بالنزف الشعري الذي لا يتوقف، حتى أن نازك الملائكة ـ في سياق نقدها لتجربة التدوير بمنظور شفاهي لا كتابي ـ تعلن خشيتها على القراء من لهاثه، وانقطاع النفَس عند القراءة. لكن ذلك الاختلاط الزمني والمكاني هو التجسيد الفني لما يسميه حسب “القبض على الزمان والمكان الذي هو لعبة التدوير الشعري، القبض عليهما وتهشيمهما أو المزج بينهما” ليتحصل من ذلك المزج إمكان “أن تكون في الوقت نفسه وفي البؤرة الشعرية نفسها في العديد من الأزمنة والأمكنة المختلفة”. ويؤرخ حسب لعمله في التدوير بصدمة بصرية كانت بعباراته “النقطة المضيئة التي انطلق منها في تدوير القصيدة”، وهي رؤية (وجه فتاة عراقية عاملة في مخزن ربما كان اسمها وجمالها الغريبان يذكّران بالشعر والفن السومريين)، ولا ندري يقينا إن كانت تلك المشاهدة هي المنبه أو المؤثر الأول أم أنها تحوّل حاصل عن تراكم في وعي الشاعر بالتدوير، حيث يقول في الحوار ذاته: “الدافع الأول إلى التدوير كان عندي نثريا، وليس شعريا. إن ما دفع للتدوير هو ما كنت قرأت من أعمال بروست وسارتر وعدد آخر من الكتابات الروائية، ومسرحية “بعد السقوط” لآرثر ميلر.. ومن هنا كان التدوير هو الطريقة الفنية التي تمتزج بها الأزمنة والأمكنة.. أي أنني في القصيدة الواحدة كنت أنتقل بحريّة بين بغداد وسومر وموسكو والعمارة، بين الأزمنة الغابرة والوقت الراهن مرورا بالأزمنة العديدة الأخرى”. دوافع وراء التدوير تلك الدوافع بحسب التفوهات اللاحقة للتجربة كما يبسطها الشاعر تتلخص في: ـ المبرر الفلسفي المعضَّد بالخيال الشعري لاستحضار الأزمنة والأمكنة في لحظة الكتابة الشعرية وهو هاجس كوني يتجسد في ما يسميه حسب بمحاولة الإمساك بالجمال الأزلي، وهو أحد مشاغل الحداثة الشعرية في محورها الرؤيوي كما يتجلى لدى السياب في رمز إرم، والبياتي في عائشة، وأدونيس في مهيار، وعبدالصبور في شيوخ المتصوفة وغيرهم.. ـ وفي النثر كونه محفزا لخلق بؤرة حكي واسترسال سردي سينقل حسب إلى نظم الحكاية الخرافية في مرحلة لاحقة (في ديوانه “كران البور”)، والنثر هنا ليس ما يخالف الشعر أو يتقاطع مع مهمته الرؤيوية بل هو النثر الفلسفي المتجسد في البحث عن الزمن الضائع لدى مارسيل بروست وتذكّر حياة الفنان في شبابه، وفي مسرح ميلر، وتنظيرات سارتر الظاهراتية في الوجود والعدم، وهي كلها وسواها مشغلات لاختيار التدوير. ـ وفي الموسيقى الكلاسيكية التي اعتاد حسب كما يعلن في مذكراته أن يواظب على حضور حفلاتها خلال دراسته في موسكو، وأفاد من تكرار لوازمها وتقسيمها الهارموني وتوزيعها وبنائها النغمي في معمار قصيدته حتى قبل تجاربه التدويرية، فهناك العودة والتقاطع والمزج والتنوع والتصاعد الذروي في السمفونيات خاصة، والنهاية الساكنة بضربة قوية أو قَرار بالمصطلح الموسيقي. وهذا واضح في افتراض الصلة مثلا بين أجزاء الرباعيات الثلاثة داخليا وبين بعضها البعض خارجيا، فقد كتبها في أزمنة مختلفة لكنها تكمل بعضها وإذ يتم بناء الرباعية الأولى عبر أربعة مقاطع مدورة تفصل بينها لازمة قصيرة وتختم بلازمة الختام التي جاءت على بحر غير ما نظمت به الأجزاء الباقية. صدأ من أزمنة قديمة في الرباعية الثانية يقدم الاستهلال تعيينا لزمن قديم يكون فيه السارد فاعلا دلاليا يعود ليلم الغبار القديم عن الأشياء والصدأ عن تصاوير وجهه، ولعل الشاعر مضطر هنا لاستخدام مفردة الصدى بينما هو يستجيب شعوريا للصدأ الذي يعلو التصاوير توافقا مع الغبار القديم والفراغ الذي يحل بحضور الجواري/ النساء اللواتي سيعشقنه كيوسف ويغدرن به ثم يرفع عنهن مظالم التاريخ التي لم يشهدنها أحيانا (تاييس مثلا تعيش في أسر المغول زمنا خارج زمنها) وامرأة المخزن التي أسره وجهها المطل من وراء الزجاج تترمز في نسوة عديدات من أزمنة متباعدة وأمكنة مختلفة، توازي عودة السارد إلى طفولته وأمكنتها الأولى (الأب الفلاح تتشقق راحتاه بالمناجل). إيقاعيا تتوزع القصيدة على أربعة مقاطع غير مرقمة تتكفل القراءة باستكشافها بدليل نهايتها والنقطة التي تنتهي بها العبارة الأخيرة، وبالانتقال إلى تفعيلة بحر آخر والختام بنهاية أخرى. وهكذا تنتظم الرباعية بمقاطعها الأربعة كالآتي: ـ المقطعان الأول والثالث: فعولن فعولن، والنهاية: يطفو على وجهها.. اللهب الزحليّ، الذراعان ينفتحان إلى جانبيها. ـ المقطعان الثاني والرابع: فاعلاتن فاعلاتن، والنهاية: في البدء كان الذهب، الشمس حذاء العاهرة. لقد غدا جمال وجه الفتاة البائعة وهو وراء الزجاج جمالا تراجيديا كما يصفه حسب في الهوامش الملحقة بالديوان، وذلك يفتح النص على أبعاد أسطورية فيكون مبررا حضور تاييس محورة وامرأة قيصر متجبرة تشبه امرأة العزيز في قصة يوسف، ولكن ذلك كله في إطار هجائي لزمن يقيد الجمال ويطلق الشر في فضائه بديلا عنه. والشاعر يعيش أزمنة ملتبسة تذكر بسنوات ساكني الكهف فثمة ثلاثة قرون عاشها في حضرة تلك المرأة المتجبرة التي يرد عنها مغولا يجتاحون في زمن همجي كل شيء. إن الجمال الذي يشع من وجه فتاة المخزن كان كافيا ليولّد هذه الرباعية المدورة ويمنح الشاعر طاقة الخيال ليدور في أزمنة متعددة ويستذكر أمكنة لا ينتظمها منطق جغرافي على خرائط الواقع. من القصيدة ألمُّ الغبارَ القديمَ، ألمّ الصدى عن تصاوير وجهي، الليالي هوادجُ فارغةٌ والجواري لهنَّ الأراجيح والظل، ينظرن لي باشتهاء، ويغزلن وجهي خيوطا تبعثرها الريحُ، تلقي بها في مقاهي الدخان وحاناته، كلَّ فجر بعينيَّ هاتين أبصر وجهي قشورا وأوراقَ خسٍّ يلمّونها عن موائد بارٍ، ويلقي بها في البراميل وجهي، الجرائد تُكنس وجهي اصطفته المليكةُ، أجلسْتُها ذات قرن بحجري، وحدثتها عن أبي والشقوق التي خلَّفتها المناجلُ في راحتيهِ.. ومعشوقتي امرأةٌ في الثلاثين مرّت عليها القرون ولمّا تزل في الثلاثين، في النخل تغلي الظهيرة والرز يشهق نديان، جاءت تراودني، يا لَفخذين ممتلئين، افترشنا السنابل.. لي ليلة عشت فيها ثلاثين قرنا أردّ المغول عن امرأة القيصر، انشقت الأرض، ردّت إلي الكهوف أنين الوحوش التي انقرضت، دارت بنا السفن الكوكبية أفزعنا حين حطت تألق تاييس، صرنا تماثيلَ في الكوكب المعدنيِّ،.. الجواري لهنَّ الأراجيح والظل، الذراعان ينفتحان إلى جانبيها طويلا.. ذراعاكِ في الريح قشٌّ، وكوكبنا حفنة من غبارٍ، ألمُّ الصدى عن حوائطَ بابلَ ..، في أيّ آجرّةٍ وجهها؟ أيها الكاهن الحجريّ.. المغول انحسروا عن لحم تاييسَ، بكت ضاحكةً عبر الزجاج...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©