الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أمّة على المواقع.. لا وجود لها في الواقع!

7 فبراير 2017 22:38
أضاع العرب زمناً طويلاً في صراعات كلامية، وفي البكاء على الأطلال، وفي صراعات طائفية أيضاً، مثل الصراع مع ما كان يسمى في زمن أبي عثمان بن بحر الجاحظ الشعوبية. والشعوبية كانت جماعة من العجم أو من هؤلاء المسلمين الذين ينتمون إلى أصول غير عربية. وكانت الشعوبية تقول إن العرب قوم كلام وليسوا قوم فعل - أو هم قوم قول لا قوم عمل - وأن العلم كله قام به أو تكفل به المسلمون الذين ليسوا من عرق عربي - حتى قيل إن أعظم علماء اللغة العربية كانوا مسلمين أجانب أمثال «سيبويه» و«أبي الأسود الدؤلي و«الفتح بن جني» - بل إن أشعر الشعراء ليسوا عرباً خلصاً، وكذلك الأدباء أمثال الحسن بن هانئ «أبي نواس» وابن المقفع، وكذلك العلماء أمثال أبي بكر الرازي، وابن سينا، والبيروني، والحسن بن الهيثم - وقد كان أبو نواس مثلاً من غلاة الشعوبية وله بيت شهير في هجاء العرب أو الشعراء العرب يقول: قُلْ لمنْ يبْكي على رَسْم درس واقفاً - ما ضَرّ لو كان جلسْ وهذا البيت يسخر من ظاهرة البكاء على إطلال بيوت الأحبة والوقوف عندها طويلاً فيقول أبو نواس: بدلاً من التعب والإرهاق والبكاء واقفين. لماذا لا يبكي هؤلاء على الأطلال وهم جالسون؟ والحق أن هذه الأقوال الشعوبية كلها فيها كثير من الصواب - لأن العرب استغرقتهم العصبية وسيطرت عليهم القبلية والانفعال - وما سماه القرآن الكريم «حمية الجاهلية».. فكانوا قوم طعان ولعان ولم يكونوا قوم روية وكياسة وفطنة - ومعجزة الإسلام الأكبر أو الكبرى هي ظهور النبي صلى الله عليه وسلم في هذه البيئة الجافة والانفعالية والمندفعة، ولو أنه صلى الله عليه وسلم ظهر في بيئة رغدة وناعمة ما كان في الأمر معجزة - وفي هذه البيئة بناسها وتضاريسها، حيث التجهم والعبوس والحروب والاقتتال يظهر نبي الرحمة، ويقول له ربه «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك» - فهو صلى الله عليه وسلم، لين برحمة الله وليس نتاج بيئة رحيمة هادئة وادعة.. حتى تأليف قلوب الأوس والخزرج في المدينة والقبائل المتصارعة من حولها كان معجزة ربانية بحتة (... لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَ?كِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ...)، «سورة الأنفال: الآية 63». وما أشبه الليلة بالبارحة، وذلك هو الأمر المؤلم - توقف النمو الفكري لهذه الأمة من أقصاها إلى أقصاها، بينما ينمو العرب انفعالياً وغلواً وصراعاً - تتعدد أسبابه والنتيجة واحدة. صراع طائفي، وصراع مذهبي، وصراع ديني، وصراع سياسي، وصراع على السلطة، وفتن يسمونها ثورات - وصراع التهميش والإقصاء، وتقسيم الإسلام إلى ألف إسلام - كل حزب بما لديه فرحون. وليس في الإسلام جماعات ولا تنظيمات ولا أحزاب. والإسلام لا يوصف، فلا يقال إسلاٌم سنيٌ أو إسلام شيعي أو إسلام «داعشي» أو إسلام «إخواني».. فالإسلام واحد لا يتعدد ولا يقبل القسمة. وكل الذين فرقوا دينهم وصاروا شيعاً فرقاً هالكة. والناجون هم المسلمون وكفى - الناجون هم اللا منتمون دينياً إلى فصيل، أو جماعة، أو مذهب، أو فرقة - والمجاهدون حقاً هم الذين يجاهدون هذه الفرق أو الجماعات، وليسوا الذين يجاهدون فيها أو بالانتماء إلى إحداها. الإسلام تم حبسه في برامج أو دراما أو أفلام أو فرق أو جماعات أو مناسبات.. بينما الإسلام هو الحياة كلها.. هو حتى برنامج عن عالم الحيوان أو عالم النباتات أو الظواهر الفلكية بلا حكايات ولا اتصالات من جانب النساء أو بكاء على الأطلال واجترار أقاويل مكررة ومملة ومعروفة على طريقة الشعراء، وهو ما يستحق سخرية أبي نواس من الباكين على الأطلال، المولولين على الماضي. تخلف العرب فكرياً بسبب العناد والمكابرة ونظرية المؤامرة - كل العالم يتآمر علينا ونحن مستهدفون وترامب يكره المسلمين وأعداء العرب والمسلمين - ويذكرني هذا بالمثل «العامي» المصري الذي معناه أن فلاناً يشم الروائح الكريهة في كل من حوله ولا يريد أن يشم نفسه أو يعرف أنه مصدر الرائحة الكريهة. فنحن نتآمر على أنفسنا ونقتل أنفسنا وقتلانا بأيدينا أكثر ألف مرة من قتلانا بأيدي من نسميهم أعدائنا. وأهلكنا أنفسنا بالبحث عن عيوب الآخر ونقائصه - كما أهلكنا أنفسنا بالنفاق - ننال من هؤلاء الذين نسميهم أعداءنا ونكيل لهم السباب نهاراً ونحتضنهم ليلاً - حتى قال بعض ساسة العرب ما قاله حكماء العرب في الماضي: العرب لا خوف منهم ولا أمان لهم - لا خوف من عداوتنا ولا أمان لصداقتنا. وقالوا أيضاً إن العرب أمة افتراضية - أو هي أمة على المواقع لا وجود لها في الواقع. وصراعنا معاً لا يكاد يختفي في أي مجال. وفي لقاءات العرب الكروية أسمع دائماً ما يضحكني وأرى ما يبكيني - إذ يقال قبل أي مباراة إنها مباراة بين شقيقين - والفائز فيها عربي ويمثل العرب - لكن الواقع يختلف عن كلام الفضاء والمواقع. وهناك حساسيات شديدة في المباريات العربية العربية - وفرحة الفائز أضعاف فوزه على منتخب البرازيل - وحزن الخاسر أضعاف حزنه للهزيمة من منتخب الفئران. لا بد أن نعترف بأن هناك حساسيات عربية عربية تبلغ حد الكراهية - ولا بد أن نعترف بأننا أعداء أنفسنا وأعداء بعضنا - وأن إنكار المشاعر السلبية لا ينفي وجودها - وأن حكاية الشعبوية اختراع عربي أو هي مشجب عربي لتعليق خطايانا عليه - من منا لا يكره الإرهاب الـ «داعشي» و«الإخواني» و«الحوثي» و«القاعدي» وإرهاب كل الجماعات المسماة إسلامية؟ كل دولة من حقها أن تتخذ كل ما تراه مناسباً لتدرأ عن نفسها الإرهاب والإجرام، بل إن الدول العربية نفسها تمنع كثيراً من العرب وتحظر عليهم دخولها لأنهم إرهابيون أو هم حتى مشاريع مجرمين - فلماذا ننكر على ترامب أو غيره ما نفعله نحن؟ لا بد أن نعترف بأن الإرهاب ليس إسلامياً، ولكن بالتأكيد عربي. وأن تسعة وتسعين في المئة من الإرهابيين عرب أو من أصول عربية أو أجانب تتلمذوا على أيدي العرب. لا بد أن نعترف بأن التطرف عربي والتنطع عربي والعناد عربي والمكابرة عربية وتزكية النفس على الله عربية. ولا بد أن نعترف بأن ترامب يرد إلى العرب بضاعتهم. وكل دولة تود الحفاظ على أمنها من الطبيعي أن تبالغ في إجراءاتها وأن تتجاوز أحياناً، ولكن المشكلة الأساسية أن الإرهابيين العرب ظلموا المعتدلين والمتسامحين وهم الذين جلبوا هذا الهم كله. لا بد أن نعترف بأن هناك أمة على المواقع لا وجود لها في الواقع! *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©