الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كلام في كلام

كلام في كلام
12 سبتمبر 2014 20:45
لا يكف الناس عن الكلام عن رضاهم بالرزق، وأن رزقك سوف يصل لك بلا زيادة ولا نقصان، ولا تأجيل ولا تعجيل، مهما فعلت. هذا شيء جميل كما ترى ويدل على صفاء النفوس، وإعجابي بهذه الخصلة الحميدة شديد، وأتمنى لو امتلكتها. إن المرء يتعلم من الناس الطيبين في مجتمعنا بلا توقف. كانت هذه الخواطر في ذهني، عندما جلست أمام الحلاق المسن في صالونه الصغير. في كل مكان لافتات تقول: «اجر يا ابن آدم جري الوحوش. . غير رزقك لم تحوش». و»لا شفاعة في الموت ولا حيلة في الرزق». و»لو كان الرزق يأتي بمقدرة. . ما استخلص العصفور شيئاً من النسر» . . الخ. . يا سلام!. . كمية رضا وقناعة لا يمكن أن تجدها في أي بلد آخر، دعك من وجه الحلاق الطيب الضحوك. نظرت إلى الانعكاس في المرآة الذي يظهر الجانب الآخر من الشارع، فرأيت رجلين يعلقان لافتة على متجر صغير له نافذة زجاجية عملاقة. الكلام بالمقلوب طبعًا يصعب أن أقرأه إلا (هقالح نولاص). . قلت له: ـ»هل هذا مطعم؟ يبدو مغريًا بالتجربة» هرع للباب وألقى نظرة، ثم رأيته يخنفر بقوة وعنف. ولاشعوريًا أمسك بموسى الحلاقة واندفع نحو مطعم (هقالح صولات) هذا وهو يزمجر. استدرت والمنشفة على صدري لأرى ما هنالك فرأيت اللافتة مقروءة بوضوح (صالون حلاقة). . هذا مطعم اسمه صالون حلاقة إذن . . ثم فطنت إلى أنني أحمق. . هذا صالون حلاقة فعلاً. كان الحلاق المسن يتشاجر ويهدد ويرغي ويزبد ويصرخ ويسب ويلعن ويبصق. . ألم تجد مكانًا لتفتتح صالون حلاقة سوى أمام الصالون الذي أملكه؟ أيها اللص. . أيها الضبع الذي يقتات بالفضلات. . ثم جاء صاحب الصالون الجديد ودارت مشاجرة عنيفة. . وسمعت الحلاق المسن يهدد بأن يستأجر من يحرقون الصالون الجديد، والآخر يصرخ: «ليتك تفعل هذا لأقطع حلقومك!». هؤلاء قوم طيبون يؤمنون بالرزق فعلاً. أنا منبهر للغاية. . غادرت الصالون أخيرًا ومشيت في أحد الميادين الكبرى، فلاحقني فتى يريد أن يبيع لي بعض المناديل الورقية، وقبل أن أمد يدي لجيبي ظهر فتى آخر من مكان ما ودفع الأول في صدره، وصاح: ـ»هذه المكالمة لي أنا!. . . آلو !» وتبادل الاثنان السباب، ثم تحول السباب إلى لكز ثم صار اللكز لكمات، لأن كلاً منهما يزعم أن هذه منطقته، وقد بادرت بالفرار بينما هما مشغولان يقتتلان. قد سال الدم من أنفيهما فلا أعتقد أنني رأيت ضبعين يمزقان بعضهما بهذه الشراسة. قناعة مذهلة فعلاً. وقفت أشير لسيارة أجرة. هنا انقضت علي سيارتان أوشكتا على التصادم. . وفتح لي قائد السيارة الأولى الباب فوثبت للداخل بجواره. قال لي وهو يندفع بسرعة البرق: ـ»الوغد الآخر يريد أن يسرق الزبائن!. . إنه لا يؤمن بأنه لا حيلة في الرزق. . مهما جريت فلن تنال سوى رزقك!». قلت له بصوت خافت: إن نفس الكلام ينطبق عليه، فنظر لي بعينين حمراوين كالدم وصاح: ـ»يا أستاذ أنا في الرزق ما أعرفش أبويا!» بدت لي جملة غريبة جدًا توحي بالزهد للوهلة الأولى. بعد هذا قال مثلاً جميلاً لم أنسه بعد هذه الأعوام: ـ»آل يا واخد قوتي. يا ناوي على موتي!». تقول قوانين مورفي إنه لو تواجد محام واحد في البلدة فهو لا يكاد يعمل، بينما لو تواجد محاميان فإنهما يغرقان في العمل. هذه حقيقة، لكنها لا تنطبق على ما يبدو إلا على المحاماة. في الواقع يؤمن معظم الناس أن كمية الرزق محدودة جدًا، وأنه لو قسمت الرزق على ثلاثة لكان نصيب الفرد أقل مما لو قسمته على اثنين. لكنهم يمارسون حالة من الزهد الزائف الذي يتحطم لدى أول صدام حقيقي مع الواقع. وهذا نموذج آخر لمقولات نرددها يوميًا بلساننا فقط. . لا يكفون عن الكلام عن الرزق، بينما هم يؤمنون أنه يا واخد قوتي يا ناوي على موتي. يتكلمون عن جري الوحوش وهم مستعدون لحرق أي محل يمارس نفس النشاط في البلدة. سوف أغضب جدًا لو جاءت الجريدة بكاتب ساخر آخر معي . والأسوأ لو جاءوا به غيري، لكني سأردد كالآخرين أن هذا رزقي !. الكلام سهل جدًا والأفعال عسيرة جدًا بلا شك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©