الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

حاميات الوجود والتاريخ

حاميات الوجود والتاريخ
13 ديسمبر 2018 03:10

محمد عبد السميع

حين يفتح «قصر الحصن» بأبوظبي أبوابه للزوار، فإنّ ثمّة رسائل حضاريّة تبعثها الإمارات لتؤكد أنّها ما فتئت تعتزّ بتراثها وماضيها العريق وتفتخر بكلّ ذلك الألق الذي تأسست منه فكرة التجمّع واستشراف القادم من الأيام والسنين، وأن ما وصلت إليه من رقيٍّ وتطوّر يعود إلى ذلك الحصن التليد وأمثاله من الحصون والقلاع التي تنتشر في أرجاء الدّولة؛ فهي حواريّة جميلة بين أجيال، تمثّلها هذه المرّة بناياتٌ حديثة وبناءٌ عتيق كان ضامناً لوجودها وأساساً لعمارتها التي لا تزال تدين بالفضل إلى ذلك البناء الأوّل الشّاهد على جذوة الحلم وهي تتقد وتتوهّج منذ ذلك التاريخ الذي انتبه إليه الحكماء من قادة الدولة مبكّراً، مدركين لضرورة الحصن، وسيلةً للدفاع، ووسيلةً للاجتماع، ووسيلة للإيقاع الجماليّ المتميّز بمعماره الذي ما انفكّ ينسجم في معالم الدولة ومساجدها وبيوتها التراثيّة اليوم.
والرسالة الثانية التي تحملها هذه الحصون والقلاع، التي يُحتفى بوجودها، كرسالة حضارية معاصرة، تكمن في ما تنطوي عليه من منعة وعزّةٍ وسؤدد، خصوصاً وأنّها كانت خطّ الدفاع الأوّل عن ذلك التجمّع الإماراتيّ الأصيل الذي تشكّل من هذا التحالف القبليّ الإنساني المشترك في ثقافته وعاداته وتقاليده وفهمه لمعنى التحالف والإجماع، هذا الإجماع الذي يتجلّى في أيّامنا هذه بقراءة معنى الحصن، من ناحية فلسفيّة ثقافيّة، وأنّه رباطٌ متين بين من يجدون فيه بيتاً آمناً وملاذاً دافئاً أمام صقيع الفرقة. كلّ هذه المعاني يجدها الزائر اليوم وهو يغمض عينيه على سنوات بعيدة كان الحصن فيها رمحاً واقفاً أمام كلّ تلك العواصف والأنواء، بل جبل تتكسّر عليه كلّ نوازع الإلغاء ومحو هذا العرق الأصيل الذي ظلّ حيّاً بفضل حصون الدولة وقلاعها المهيبة، فقصّة الحصن الأولى كانت وبحق فكرة عبقريّةً في التجمّع وحماية المكتسب وحفظ التاريخ وتأكيد معنى الوجود والمحافظة على تلك الألفة مع الرمال التي أينعت اليوم مساحاتٍ خضراء تتعانق مع شموخ هذه الحصون والقلاع.
عمائر دفاعيّة
تعتبر القلاع والحصون والأبراج عمائر دفاعيّة ومستحكمات عسكرية، لكل منها وظيفة دفاعيّة معيّنة أو وظيفة مدنيّة محدّدة، تحقّق الأمن والاستقرار والحماية. وتقع هذه العمائر الدفاعية إما خارج المدينة أو داخلها. والحصون أكبر المباني بروزاً في المدن السّاحليّة، وهي مقرّ الحكم، وسكن الحاكم وأهله، وهي رمز الوحدة والسلطة والأمن. وتنفرد القلاع بأشكالها الدفاعيّة المميّزة، وعادةً ما تركّز على جانبي الدفاع والحماية، وغالباً ما يقيم فيها الجنود.
وتتميّز هذه العمائر بصورة عامّة بعدد من الخصائص من أهمّها وجود فتحات الرّمي البارزة، وفتحات إطلاق النّار المخفيّة، وفتحات إطلاق النّار العموديّة، وفتحات إطلاق النّار الأفقيّة، ومنافذ للمدافع إضافة إلى وجود الشّرّافات في الأعلى، وكوّات الجدران، والدّرايش. وهذه التقسيمات المعمارية الدقيقة تدلل على ما تمتع به أبناء الإمارات من عبقرية وموهبة حربية لا تشمل الصفات الحربية فقط بل تشمل أيضاً التخطيط المتمثل في الإلمام بأشكال الأرض ومواقعها وصورها والإطلاع على ميدان المعركة والتفهم السريع لما يجري ومن ثم اتخاذ الوسائل والقرارات المناسبة لإحراز النصر على الأعداء. إنها عبقرية عسكرية مبدعة ومنفذة في نفس الوقت.
وقد استهوت فكرة الحصون والقلاع في دولة الإمارات الكثيرين، فاستلهموها في كتاباتهم ودرسوا مجال تطوّرها من فكرة للحماية وتأكيد معنى الوجود والقوّة والمنعة، إلى تقليدٍ عريق طرأت عليه جماليات معماريّة لم تلغ الروح المعماريّة الأصيلة، بل كان هذا التفنن في إضفاء صفاتٍ إضافيّة في البناء وأشكاله ناشئاً عن تعلّق المعماريّ الفنان بالحصن كفكرة ثابتة ويقينيّة، ظلّ يمنحها جماليات روحه ويزيد على ما هو موجود، ليكون هذا الحبّ مصدر ثراء ذوقي وهندسي معماري نراه اليوم في بعض المساجد والبيوت التراثيّة القديمة التي كانت شاهدةً أيضاً على فترات غنيّة من تاريخ الإمارات وقصورها الحصينة، في نوعيّة موادّها التي بنيت بها أو في أشكالها ولونها واستخداماتها وتوزيعاتها الذكيّة التي تُستذكر اليوم في زيارات منظّمة كجزءٍ من وفاء الإمارات لتاريخها العريق.

حصون الآمال والطموحات
تثير الصور القديمة لقصر الحصن ولغيره من الحصون والقلاع الإماراتيّة في النفس كثيراً من الشّجون والمقارنات التلقائيّة بين الأزمان، وهي مقارنة لها إطارها الوطنيّ والإنسانيّ، الذي يقدّم لنا قصة الظرف الزمني بصورته الحقيقيّة، لدرجة أنّ أعمالاً دراميّة وملاحم شعريّة أدبيّة يمكن أن تلتحم مع هذه الحصون العظيمة وتتأطّر بها، فكثيرٌ من الدّول والأمم والشعوب تروي قصص البدايات من خلال معالمها التراثيّة القديمة، ويبدو قصر الحصن أنموذجاً قويّاً لقصّة ذلك التجمّع القبلي في مناطق أبوظبي، في الظفرة وليوا والعين وجزيرة أبوظبي ذاتها، إذ يروي لنا المؤرخون بأنّ آل نهيان قادوا هذا التحالف، ابتداءً من الشيخ عيسى بن نهيان وابنه الشيخ ذياب بن عيسى، فالشيخ شخبوط بن ذياب، وهو من بنى قصر الحصن في أبوظبي، ليكون هذا الحصن من بعد حتى مئتي سنة مقراً رئيساً لحكام أبوظبي تدار به أمور الحكم وشؤونه الإداريّة والسياسيّة.
وتعتبر مدينة العين من أكثر مدن الإمارات حظاً في الحصون، وأكبر حصونها الجاهلي الذي بني عام 1898، إضافةً إلى الحصن المربع، والحصن الشرقي الذي بني عام 1910 وهو المكان الذي ولد فيه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، وحصن الرميلة، وحصن المويجعي، وحصن الهيلي، وكل منهما يقع وسط واحة نخيل خضراء، وحصن المقرب وحصن مزيد عند سطح جبل حفيت. هذه الحصون والقلاع كانت لها فوائد أو استخدامات متعددة ومتنوعة، فمنها ما تم استخدامه مركزاً للدفاع، فمقراً للحاكم، لتكون متحفاً فيما بعد.
إذن، القيمة الْمُتْحَفيّة كامنة في هذه القلاع والحصون، بفعل تطوّر الحياة، وهو ما يؤكّد طبيعة الحياة في أزمان قديمة، فضلاً عن عمارة مميزة لبعضها، مثل قلعة المريجب، وهي من أقدم حصون آل نهيان في مدينة العين، حيث العمارة الإسلاميّة المميزة، وبالصورة نفسها يمكن أن نقرأ حصن الشارقة الذي بُني عام 1820 في فترة حكم الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، وما تميّز به من أبراج تدلّ على قدمه، بل إنّ هناك منها ما يحمل فترة تاريخيّة سياسيّة، مثل قلعة الفلية التي بنيت في القرن الثامن عشر والتي شهدت توقيع حكام الإمارات عام 1820 على اتفاقيات السلام العام مع بريطانيا.
ولأهميّة هذه الحصون، وكونها مذكورةً في سير ذاتيّة كجزء من تاريخ العائلة الحاكمة، فإنّ حصن الشارقة كان محطّ استذكار صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الذي روى أنّ والده الشيخ محمد بن صقر القاسمي قد اعتاد أن يأخذه وأشقاءه لزيارة شقيقه الشيخ سلطان بن صقر القاسمي في الحصن.
وتحوي إمارة الشارقة الكثير من هذه الحصون والقلاع موزعة على جانبيها الغربي والشرقي بالإضافة إلى المنطقة الوسطى. فحصن الذيد واحد من المباني المهمة في الإمارة شُيّد في واحة الذيد الزراعية التي تبعد عن إمارة الشارقة 55 كم شرقاً، لحماية الواحة والفلج الذي كان الناس يتزودون بمائه ويسقون مزروعاتهم وحيواناتهم منه.

وشهدت قلعة الذيد التي شيدت عام 1750م الكثير من الأهمية السياسية، حيث عقدت بها اجتماعات سياسية بين شيوخ المنطقة وبين مندوبي الدول المجاورة، وشهدت الكثير أيضاً من المعارك الحربية.
أيضاً في كلباء قلعة الغيل والتي سميت بالغيل نسبة إلى الفلج الذي كان يوجد بجانب القلعة.
وتنتشر في إمارة الفجيرة العديد من القلاع والحصون والأبراج القديمة التي تشهد على صلابة الأهالي وشجاعتهم في صد هجمات الغزاة المعتدين، ومن أهمها قلعة الفجيرة ويعود تاريخها إلى أكثر من 300 عام، وقلعة البثنة ويعود تاريخها إلى أكثر من 250 سنة، وحصن البدية فوق قمة الجبل ويرجع تاريخه إلى أيام الدولة العثمانية، وقلعة الحيل، وقلعة ميدق، وقلعة أوحلة، وقلعة حجالة بالسيجي، وقلعة حبحب، وقلعة القرية، وقلعة وادي سهم. كما يوجد في بقية الإمارات الأخرى عدد من الحصون التي لعبت أدواراً تاريخيةً منها حصن رأس الخيمة الذي بني عام 1749م، وحصن عجمان، وحصن أم القيوين الذي يعود تاريخ بنائه إلى عام 1867م.

جماليات عميقة
إنّ هذه المنظومة المعمارية لم تقتصر على الجوانب المقرونة بالحماية والأمن فقط، بل هي نسيج عمراني تماهت جنباته وجدرانه مع الذوق الجمالي ومن ثم فهي انعكاس للفكر الحضاري الذي يحمل قيماً فنية عميقة تستوعب كل التصاميم الجمالية. هذه الحصون والقلاع اليوم هي أيقونات معماريّة، تعيدنا إلى طبيعة المنطقة ذات الأهميّة الاستراتيجيّة، ويدلّ على ذلك أنّ أغلب الإمارات أو جميعها شهدت بناءها وتتوافر عليها، كما يعزز ذلك ما تمتّعت به من قوّة في موادها التي بنيت بها، إضافةً إلى كونها بالفعل حصناً أو مقرّاً صعباً على الاختراق، ولو درسنا جغرافيّة هذه المنطقة وعلاقتها بالاستعمار والدول المحيطة لرأينا أنّ مجرّد التفكير ببناء الحصن أو القلعة هو أمر بلا شكّ مُلِحٌّ وضروري جداً لمجابهة الأخطار وحماية المنطقة مما يحيط بها من أطماع وأخطار.إنّ إيمان الإمارات بهذه الموروثات المعماريّة هو إيمانٌ بمدى موضوعيّة وجودها في فترة ماضية، ولأنّها بمنزلة كتاب يقرأ وشاهد حي على التاريخ الطازج بعمرانها الآسر وغُرفها وأبراجها وساحاتها وتصميمها الدقيق، لتقف اليوم شامخةً تماماً مثل شموخها بالأمس، تماماً كما تقف أيضاً مثل كتابٍ عتيق فيه من البهاء ورائحة ذلك الزمن ما يثير الشجون ويبعث على الافتخار، وهي جميعاً قد استُنسخت حصوناً في نفوس أبناء الإمارات الذين أخذوا عنها صلابتها في دفع العادي وقوّتها في ردّ الخطر، مثلما أخذوا عنها خاصيّة السموّ والرفعة والمجد وهي تمنحهم كلّ تاريخها الساطع المجيد اليوم وغداً وكلّ يوم.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©