الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تصريحات كاميرون... صدام مع دولة القانون

27 أغسطس 2011 04:39
"يسعى كاميرون إلى إخلاء المشاغبين وعائلاتهم من السكن الحكومي"، هذا هو العنوان الذي تصدر صحيفة "نيويورك تايمز" في عددها ليوم 12 أغسطس الجاري بعد أحداث الشغب والفوضى التي اجتاحت شوارع لندن قبل أسبوعين، ملخصاً ردة فعل رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، إزاء حالة الاضطراب الخطيرة التي اكتسحت بريطانيا ودفعت البرلمان البريطاني لقطع إجازته على وجه السرعة والعودة لعقد جلسة طارئة. والحقيقة أن تصريحات رئيس الوزراء البريطاني أمام مجلس "العموم"، وعلى شاشات التلفزيون تشي باستعداد خطير لانتهاك أبسط مبادئ القانون وأكثرها رسوخاً في أذهان الناس: وهي أن الذنب فردي لا ينسحب على الجماعة، وبالتالي لا يطال العقاب سوى الشخص مقترف الجرم ولا يتعداه إلى عائلته وأقاربه. وأضاف كاميرون أن "هناك حاجة الآن لنشر المزيد من رجال الشرطة في شوارع المدن البريطانية لردع الجريمة واتخاذ إجراءات صارمة وفورية عند ظهور أول بادرة لأعمال الشغب". ويشار إلى أن "كاميرون" تعهد بُعيد أحداث الشغب بـ "مواجهة مثيريها أمنياً واجتماعياً، وشنّ حرب على كل الجبهات ضد العصابات وثقافة العصابات"، التي وصفها بأنها "مرض جنائي إجرامي لوّث الشوارع والمناطق في أنحاء بريطانيا كافة". ولأننا نعيش في ديمقراطية عريقة داخل المملكة المتحدة، فإنه من غير الممكن تلفظ السياسيين بتصريحات تنفي هذا الحق القانوني، لكن مع ذلك أصر رئيس الوزراء البريطاني على موقفه، معتبراً انتقاد البعض لتصريحاته المثيرة مجرد "انشغالات زائفة بحقوق الإنسان". واللافت في تصريحات "كاميرون" التي دعا فيها إلى إخلاء عائلات المشاركين في أعمال الشغب بشوارع لندن من السكن الحكومي الذي توفره الدولة للمحتاجين لا تأتي بجديد من حيث خرقها لمبادئ بديهية في القانون وحقوق الإنسان، بل ترجع بنا القهقرى إلى عهود غابرة حتى قبل العهد القديم الذي كان أول من حصر العقاب في الشخص المعني عندما قال: "العين بالعين والسن بالسن"، وقطع مع ممارسات سابقة من العقاب الجماعي. كما أن القاعدة التي تنص على الذنب فردي، أصبحت راسخة في أذهان الناس وعقولهم إلى درجة أنها تحولت إلى بديهة لا تحتاج إلى تذكير. لذا لم يأتِ لها ذكر مثلاً في الدستور الأميركي ولا في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان، أو الميثاق الدولي لنفس الحقوق. ولم تشر إليه أيضاً وثائق المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان لأن الجميع يتعامل مع قاعدة أن "الذنب فردي" كمسلمة قانونية لا داعي لتكرارها في مواثيق حقوق الإنسان العلمية مهما تعددت. هذه القاعدة الراسخة هي ما يدفعنا أيضاً إلى التعبير عن اشمئزازنا وإدانتنا الشديدة عندما تعمد المافيا على قتل أسرة بأكملها بما فيها من نساء وأطفال فقط لأن أحد رجالها أوشى بفرد من أفرادها. وإذا كانت أبداننا تقشعر من عمل مشين مثل هذا، فلأن العقاب طال الأبرياء وتمدد ليشمل الجماعة بدل الاقتصار على الفرد. وفي الفترة السوفييتية ساد العقاب الجماعي بحيث انتشرت الفكرة التي تقول إنه يفضل محاكمة المئات من الأبرياء بدل السماح لمذنب واحد بالإفلات من العقاب، وهي القاعدة التي انتهكت أبسط حقوق الإنسان وأهم قاعدة من قواعد دولة المؤسسات المتمثلة في سيادة القانون. وقد رأينا الأمر نفسه في ألمانيا النازية من خلال قانون الجنايات في ثلاثينيات القرن الماضي، الذي أعطى للقاضي صلاحية إنزال العقاب على أفعال لا يجرمها القانون. وما كان على القاضي سوى التقدير بأن عملاً ما يضر المجتمع حتى دون نص قانوني صريح ليزج بالشخص في السجن. وعندما نتحدث اليوم عن سيادة القانون يضع الفقيه القانوني "لون فولر" ثمانية قواعد تحدد لنا معناه الحقيقي، فأولاً يجب النص صراحة على جود القاعدة القانونية حتى تأخذ فاعليتها. وثانياً أن تنشر القواعد ليعرفها الجميع. وثالثاً أن تشير إلى المستقبل ولا تطبق بأثر رجعي. ورابعاً أن تكون مفهومة. وخامساً أن تخلو من التناقض. وسادساً أن تكون القاعدة القانونية قابلة للالتزام بها. وسابعاً ألا تكون عرضة للتغيير الدائم. وثامناً أن تتطابق القاعدة مع العقاب. ولو قارنا تهديدات كاميرون بإخلاء الناس من منازلهم بمفهوم سيادة القانون لتبين أنها تنتهكه على أكثر من صعيد. وبدلا من التزام بالتأكيد على احترام القانون وإجبار الآخرين على احترامه والتقيد بقواعده تقوم الحكومة البريطانية من خلال رد فعلها المتسرع على الأحداث الأخيرة بانتهاك أبسط حقوق الإنسان عندما ترجع إلى ممارسات العقاب الجماعي. والمشكلة في الحالة البريطانية أن مثل هذه الدعوات لم تأت من سياسيين على الهامش، أو مجموعات متطرفة، بل صدرت عن رئيس الوزراء نفسه، ما يحتم وقفة مع النفس ومراجعة ما قيل، ذلك أنه بالنسبة للمراقبين الذين ينظرون إلى بريطانيا كنموذج لحقوق الإنسان وكمثال يستلهمون منه قوانينهم تبقى تصريحات كاميرون مخيبة للآمال. رونالد سوكول عضو هيئة المحامين بفرنسا والولايات المتحدة، وباحث في الشؤون القانونية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كرستيان ساينس مونيتور"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©