الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سحر البرجوازية أم السخرية منها؟

سحر البرجوازية أم السخرية منها؟
16 أغسطس 2012
رغم أنها ليست سينما تجارية تربح الملايين بمفهوم السينما الهولودية، إلا أنها نجحت في أن تكون في الصدارة وأن تلفت انتباه العالم والنقاد، وأن تنجح في جذب الجمهور من خلال أهم مهرجاناتها على صعيد الفن السابع أي (مهرجان كان السينمائي)، وذلك بتأثير من روحها الإنسانية وما تتمتع به هذه الروح من رومانسية وجمال وشمولية في التعبير والتناول والصقل، والتي باتت تشكل تيارا يبحث في الإبداع وقضايا الإنسان المعاصر... نتحدث، هنا، عن السينما الفرنسية التي استطاعت أن تتجاوز مفهوم الإنتاج التجاري الذي روجت له أفلام العنف والرعب والخيال العلمي وصولا الى أفلام التجسيد (الأبعاد الثلاث) ، الى مفهوم سينما الإنسان، وهو في الواقع مفهوم طليعي يركز في (الذاكرة) التي تتسع لأكثر من كادر وصورة.. سينما ما زالت تتألق وتلقى الحفاوة في كافة المحافل الدولية ليس لأنها قادمة من بلد الحرية والنور، بل لأنها أفلام إنسانية خالصة، لا تقوم على اقتباس وسرقة أفكار الآخرين كما يحدث في العديد من بلدان العالم. من الأفلام الفرنسية المثيرة للانتباه، فيلم ذي طابع سوريالي يحتوي أيضا على جدلية تنبه الى خطورة الحياة في ظل عصر العولمة التي ما زالت تجرر ذيولها نحو إيقاع رخيص يضرب على أوتار الطبقية. والفيلم بعنوان “سحر البرجوازية الخفي” للمخرج الإسباني الأصل لويس بونويل الحائز أيضا على الجنسية المكسيكية. ولعله أحد أهم أفلامه على مستوى المضمون والصياغة والفكر واللغة السينمائية العصرية وحسن استخدام فن الاسقاط والإيهام، حتى لتكاد بعد نهاية هذا الفيلم يتملكك شعور بأن كل ما شاهدته من أحداث ما هو الا مجرد شطحة خيال من أي شخصية من شخصياته. قصة بسيطة أهمية فيلم “سحر البرجوازية الخفي” (إنتاج عام 1972) تكمن في بساطة موضوعه (سيناريو الكاتب الكبير جان كلود كاربيه عن قصة الروائي بيير لوبيز)، الذي يقوم على “دعوة عشاء” في مطعم، لكنها في واقع الأمر ليست مجرد دعوة لتناول الطعام كما يتخيلها البعض، فهي تتطور ما بين الواقع والخيال لتصل الى حوادث غير متوقعة، بل ومفاجئة للمتفرج على طريقة المخرج بونويل السوريالية، وهي طريقة ما يشفع لها حقيقة هو أصالة فنّها وتعبيرها، ومدى التصاقها بما هو إنساني وعميق ومدهش وهي أيضا طريقة الطرح واللغة والتناول والتعبير السينمائي المتمرد على الواقعية في السينما المعاصرة، باتجاه تحطيم الأسلوب السردي، بحيث تصبح رواية قصّة ما نوعا من الإرهاق والإزعاج للمشاهد. وقد ظهرت في فترة الستينيات أفلام مهمة ومختلفة من هذا النوع المحبب الى مخرج سحر البرجوازية مثل: “برسونا” للمخرج السويدي العملاق أنجمار بيرغمان، و”تيوريما” للمخرج الإيطالي بازوليني (1922 ـ 1975)، كذلك فيلم “الأقزام ابتدأوا صغارا” للمخرج هيرتزوغ، بالطبع الى جانب الفيلم الذي نحن بصدده والذي يحمل في ثناياه جانبا من التصور الفرنسي للعالم، بل يحمل أكثر من ذلك من حيث بصمته المهمة في مجال التعامل مع مفهوم السرد السينمائي في صورة فنية متعددة الأبعاد والجماليات والصقل، مما دفع بالعديد من مخرجي السينما الأوروبية وبخاصة في حقل الأفلام القصيرة، إلى السير على منواله. في فيلم “سحر البرجوازية الخفي” ثمة ظاهرة فنية جديدة ذات صلة بمستويات السرد التي نلاحظ منها بوضوح تام أربعة مستويات، ويختص المستوى الأول بمناقشة الواقع، ومثل أي رواية يبدأ الفيلم بسرد حكاية مجموعة من الناس البرجوازيين الذين يتوجهون بكل ما لديهم من مظاهر وأفكار وقيم خاصة لحضور دعوة طعام، وهذا المستوى كما يبدو لنا من السّطح حدث عادي، لكنه ومن خلال مخرج الفيلم يصبح حالة يكرّسها واقع هذه الطبقة المعزولة عن قضايا الناس وهمومهم، ومن ثم يتطور هذا الواقع بكل مظاهره وسخافته صوب مستوى ثان أكثر أهمية وعمقا، يوفّر للحالة السينمائية المزيد من عنصري الترقب والتشويق اللازمين لبناء الموضوع. أما المستوى الثاني من الفيلم فيتجسد في عنصر (الحلم)، حيث يكتشف المشاهد أنّ ما مرّ قبل لحظات في المستوى السردي الأول من أحدث ما هو إلا حلم. إنّ الحدود بين هذا الحلم والواقع في المستوى الأول تصبح غائمة وغير واضحة ضمن شكل سينمائي خلاّب يمزج الحالات والمواقف والمظاهر في إطار مونتاجي حسّاس ومرهف الى الحد الذي لا يجعلك تنفصل عن الحالة الأصلية ولو لمجرد لحظات، كما نرى في العديد من الأفلام التي تعتمد بعضا من الفواصل السينمائية لتحديد المشاهد والكوادر وفقا للغة سينمائية أقرب الى مفهوم البناء الكلاسيكي للقطات. وربما ينفرد المخرج بونويل عن غيره في طريقة التعبير والفصل بين الحالات السينمائية، فلم يمكن عنده تمييز بدايات الحلم إلا بالإدراك الحسّي للمشاهد الذي قد يراوده شكّ ما، فهل يسري هذا الإدراك الحسي على الفيلم كله؟ إذ من الممكن قراءة الفيلم كلّه وحتى ما قبل نهايته، باعتباره حلم إحدى شخصيات الفيلم الرئيسية، وهي الشخصية التي يؤديها الممثل فرناندو راي الذي يلعب دور السّفير. في حين نجد أن المستوى السردي الثالث في الفيلم يتحدد في سيادة مفهوم “السرد المتداخل” للأحداث، ففي الفيلم تروى ثلاث قصص على لسان رجال هامشيين، وهم من صنع كاتب السيناريو، بل هم في المحصلة العامة من صنع الخيال، كما أيضا الحلم والواقع، وهما أكثر أجزاء الفيلم تشويقا وجذبا للمدرك البصري لدى المتفرج. أما المستوى السردي الرابع، فهو مشاهد متكررة، نرى فيها المدعوين يسيرون في طريق ريفي طويل محفوف بالمناظر والأشجار والأشياء، وهذا المستوى في تقديري يبقى جزءا مهما في هذا العمل الذي لا يهدر ثانية واحدة في التعبير والتشكيل وإبراز عمق ودواخل الشخصيات ومدى ارتباطها بالتفاصيل الاجتماعية للطبقة الارستقراطية. لكن من المهم الإشارة هنا الى ان هذا المستوى لا صلة له بالحلم أو السرد القصصي، ويبدو وكأن هذا المستوى يعكس موقف المخرج لويس بونويل المتناقض تجاه هذه الشخصيات البرجوازية، وبدت لنا شخصيات باهتة مستهلكة، تسير بلا هدف خارج ظروفها المصطنعة. الحلم والسرد أما خطورة التعامل مع مثل هذا النوع من السرد في المجال المعاصر فتكمن في وجود وطرح علاقة جدلية بين الحلم والسرد القصصي، كما نلمح أيضا في السرد إشارات ثلاث وتماهيات لعقدة أوديب، ففي إثنين منها يظهر هذا واضحا، بينما في الثالثة نرى علاقة بين رمز الأب وإبن متمرد، بهذا المفهوم من صراع الأجيال الذي أصبح أثيرا جدا لدى السينما المعاصرة نجد أن الفيلم يقود المتفرج الى تخيّل أشياء كثيرة مثل الخوف والتوتر المختزن في نظام العلاقة بين الأب والإبن، أو بين السلطة والشعب، في عالم أصبحت فيه العولمة تفرض قيودا كثيرة. وربما نستنتج أشياء كثيرة من حوارات الفيلم مثل: ان هناك سطوة ما، وقوة وسيادية ما لصالح الطبقات، ولصالح الذكورية أيضا، حيث تبدو الأحلام المجسدة هنا لصالح الذكور الأثرياء الذين يتخوفون على الدوام من انحسار سلطتهم ونفوذهم، وبهذا المفهوم الذي كرّسه بونويل بقوة يتضح السبب وراء عدم وضوح حلم النساء، أو عدم سردهن لأي قصة في الفيلم، بل كان وجودهن لمجرد تحقيق مفهوم الواجهة الاجتماعية، إذ لا سلطة لديهن يخفن فقدها، لكنهن بالطبع موجودات مثل أي سلعة للعرض. عبر دعوة طعام تحمل أكثر من ظاهرها، يشرح لنا بونويل في هذا الفيلم الذي يذكرنا أيضا بفيلم عربي قريب منه في عنوانه: (“دعوة على العشاء” من بطولة سعاد حسني، حسين فهمي، وأحمد زكي وفيه تبدو أهمية صراع الطبقات)، يشرح بسوريالية طقوس البرجوازية، حيث نرى في بعض المواضع نقدا شديدا لثقتها بنفسها وسط ضجيج الشارع، في إطار لا يخلو من السخرية والوجع الإنساني، بمزج بديع بين الحلم والواقع والسرد المتداخل المعبر عن تداخل ثقافات العالم وهو ما يثير العديد من الإشكالات حينما نتناول مسألة الهوية وسؤال الذات. لكن مثل هكذا أفلام، تنجح في بناء تيار متصاعد للسينما الطليعية المستقبلية التي تناقش مثل هذا القضايا التي تغفل عنها السينما في أوروبا، باعتبارها أصبحت شيئا من الماضي، ولكن ما هي السينما إذا لم يكن الماضي بكل أثقاله وحمولاته جزءا من مواضيعها واهتماماتها بالنسبة للجيل الجديد؟ فالكاميرا الحقيقية هي التي تكشف لنا الحياة على طبيعتها بدون تجميل او رتوش او تزييف، وان الواقع ما زال يشهد “البرجوازية” القديمة في صور معاصرة لا تخلو من عدم احترام للإنسان، وربما تكون “العولمة”، وهي الهاجس الاول في افلام بونويل هي احد أهم المرتكزات في ترسيخ وتركيز مفهوم “القوة” ناعمة كانت ام خشنة في أرجاء الدنيا. ولعل هذا الكلام يقودنا بالضرورة للإشارة إلى فيلم من نتاجات السينما الليبية الغائبة الحاضرة بعنوان “رسالة المنفي” من تأليف وإخراج المصري حسن الصيد ومن تمثيل عدد من الفنانين الليبيين من بينهم: صلاح الأحمر، فتحي كحلول، مهيبة نجيب، وتناولت أحداث الفيلم مسألة مهمة في تاريخ ليبيا الوطني المعاصر، حينما رهن الايطاليون آلاف الليبيين ونفوهم الى جزر إيطاليا، ترسيخا لمفهوم القوة، وما سطوة القوة حينما تصبح في صورة استعمار ينظر الى الناس على أنهم مجرد عبيد. وعلى هذا يبدو أن الرسالة التي يحملها الفيلم الفرنسي “سحر البرجوازية الخفي” هي رسالة شاملة، تحمل في صفحاتها الكثير من المعاني والدلالات والإسقاطات على أكثر من رجال البرجوازية بألقابهم والهالة التي يلقونها على أنفسهم وسط المجتمعات. وإذا اردنا التحدث عن الفيلم في جانبه الجمالي من حيث المناظر والديكورات والاضاءة والموسيقى ومظاهر الإبهار المختلفة، فإن هذا لا يضاهي الحديث عن الإمكانيات الهائلة لدى مخرجه بدءا من نجاحه في تحويل قصة عادية بسيطة تشرح للمتفرج حالة عدد من البرجوازيين الذين لا يملّون من الحديث عن أمجادهم وأحلامهم وظروفهم، حالة تفيض عن حاجتنا الى مثل هذا المشهد الممل، الى حالة شمولية عالمية، تفنن الرجل في إعطائها مشاعر غير عادية، بل ويجعل من خلالها المتفرج متسائلا على الدوام عن القصد الأهم من هذا الفيلم الممتع، الذي يتمتع بمونتاج عالي القيمة، ولقطات رصينة رائعة فسيحة ومركزة وحدث يتطور مع كل مشهد وحوار وإشارة وهمسة ولفتة من جانب الممثلين، مما يجعل المتفرج يعيش حالة من الإجابات المفتوحة، وهي أهم نقطة لدى الجمهور الذي يشتري التذاكر من أجل مشاهدة شيء يحترم عقله لا ظله. يقدم الفيلم في المحصلة العامة نموذجا نوعيا عن النجاح الذي حققته السينما الفرنسية في ثمانينيات القرن الماضي، حينما كانت تتصدرها أفلام كبيرة من مثل “رجلان ضد القانون” على سبيل المثال لا الحصر للفتى الأول لهذه السينما حتى وقت قريب آلان ديلون، وجان جابان، وهو فيلم أيضا يتحدث عن مفهوم القوة وصراع الطبقات والواقع السياسي في إطار لا يخلو من رهافة الرومانسية والمشهدية البصرية ذات الخصوصية واستخدام بارع لعنصر الحدث الاسترجاعي (الفلاش باك) والمساحات الضوئية النوعية المركزة، التي وضعت هذه السينما على قمة خارطة سينما الجمال والعذوبة ولطف التعبير. بونويل.. رحلة متعرجة في الحياة وثابتة في السينما ولد المخرج لويس بونويل في 22 فبراير عام 1900 في قرية كالاندا بمنطقة أراغون الاسبانية، وتوفي في 30 يوليو عام 1983. في عام 1929 أخرج فيلمه الأول بعنوان “الكلب الأندلسي”، ثم أخرج عام 1930 فيلم “العصر الذهبي” عن قصة كتبها سلفادور دالي. في عام 1932 عاد الى إسبانيا ليخرج إحدى روائعه السينمائية فيلم بعنوان “أرض بلا خبز”، ثم تطورت مفاهيمه عن السينما حتى حظي بثقة كبيرة من صناع ومنتجي السينما في هوليوود، حتى دعي من قبل بعضهم للإشراف على إعادة توليف بعض الأفلام، من بينها على سبيل المثال فيلم بعنوان “انتصار الإرادة” للألمانية ليني ريفنتشول، كما اهتم من خلال هذه الأجواء بالإشراف على إرسال مواد سينمائية تتضمن مفاهيم ورؤى معادية للنازية لحساب عدد من الموزعين في دول أمريكا اللاتينية. انتقل بونويل الى المكسيك ليحقق أهم مكاسبه في السينما التي واجه خلال رحلته العديد من المتاعب على رأسها هجوم بعض النقاد على أعماله ومعتقداته السياسية. في المكسيك وتحديدا في الفترة ما بين 1947 الى 1966 أنجز العديد من الأفلام التي تهتم مواضيعها بالدراما التاريخية والمغامرات والمواضيع التي تهمّ المتفرج المحلي هناك، لكن ما لبث حنينه الى فرنسا أن قاده الى عاصمة النور عام 1967 ليخرج واحدا من أفلامه المهمة بعنوان “حسناء النهار” من بطولة النجمة الفرنسية كاترين دينوف. وكان هذا الفيلم وبطلته فأل خير عليه، بعد الاهتمام النقدي به، نظرا لمحتواه وطريقة تعبيره ولغته السينمائية الأخاذة، كذلك الإقبال الجماهيري الكبير على الفيلم، ما دفعه الى مزيد من الجهد والنشاط المؤثر، فأخرج للسينما الفرنسية فيلم مهم بعنوان “تريستانا”، وآخر بعنوان “شبح الحرية” وصولا الى فيلمنا الذي نتحدث عنه “سحر البرجوازية الخفي”، ونال عنه جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي والذي يصور رحلة لمجموعة من الشخصيات من باريس التي كانت في ذلك الوقت تعاني من مشاكل ناتجة عن تفجيرات يقوم بها بعض المتطرفين، وقاد هذه الشخصيات الممثل فرناندو راي، الذي يكشف خلال سلسلة أحداث الفيلم لمجموعة من الغرباء بعضا من محتوى أوراقه الشخصية. من أهم أفلام لويس بونويل: الكازينو الكبير 1947، الفاسق الكبير 1949، المنسيون 1950، ونال عنه جائزة أفضل إخراج وجائزة الفيبرسي بمهرجان كان السينمائي عام 1951، وفيلم إمرأة بلا حب، والمتوحش عام 1952، وصعود للسماء 1956، ويوميات خادمة. والعديد من الافلام ذات التنوع في المضمون وبخاصة السياسي مثل فيلم شبح الحرية عام 1974. استطاع بونويل في النهاية ترسيخ اسمه كواحد من أهم مؤسسي التيار السوريالي في السينما العالمية وبخاصة بفيلمه “الكلب الاندلسي” الذي يعبر عن أصالة هذا النوع من السينما الذي انفرد بها هذا المخرج النبيل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©