الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رواية بثلاث صفات

رواية بثلاث صفات
16 أغسطس 2012
في العنوان الفرعي لكتاب القاص، العراقي، محمد سعدون السباهي “كوكب المسرات” يذكر: “سيرة ذاتية من يوميات سجين”. من هنا فإنه يقع ضمن سرد التجربة الشخصية، للراوي/ السباهي، عند دخوله السجن عن حادث سير عادي. والكتاب محاولة في رواية التجربة. لجأ خلالها القاص إلى تدوين مجريات الحياة في هذا المكان الذي يوسعه من خلال الاستذكار، والعمل على استعادة التفاصيل الكامنة في ذاكرته، لمغالبة النسيان. وذاكرة الراوي لا تتجه بخط مستقيم مع المكان/ السجن/ بل تعمد إلى استعادة الزمن سردياً بإقصاء المكان، والتوجه خارجه، ثم بعد الهروب، الاستذكاري يسعى إلى استحضار عقد السبعينيات العراقي وبعض مدنيته، ثم العودة إلى المكان ـ السجن، ملتاعاً على ما مضى. المذكرات كتابات يتم فيها تدوين الأحداث التي جرت معنا وأثرت فينا وفي محيطنا. لا نكتب في مذكراتنا ما نعيشه الآن فحسب، بل ما عشنها فيما مضى في الحياة المتسمة بالصراعات المؤثرة، في مراحل مهمة من حياتنا أو حياة المجتمع الذي ننتمي إليه. ربما نقوم أحياناً بتدوين مذكرات شخص آخر بدلاً منه جان بولات. عمد القاص في توطئته إلى الشك في كل ما رأى وسمع وقرأ بسب قسوة ما عاشه وتعرض له في السجن، ليكون شهادة موثقة جارحة عن مكان كان فيه مسحوقاً ومهاناً. بين أدب السيرة الذاتية والتاريخ صلة وثيقة، لأنها تُصور مختلف البيئات، وأحداثها المعززة بالوقائع والأحلام والرؤى، والحالات النفسية. يتميز هذا الجنس بأن مادته التجربة المرتبطة بالسيرة الشخصية، فللكاتب سيرته الذاتية وتجاربه التي يروي فيها مرحلة ما في حياته، وقد سردها السباهي بلغة حادة جارحة، وذات توجه ومنحى توثيقي يبدوغرائبياً لشدة كثافة واقعيته. والسارد في يومياته، قدم أغلب الأشخاص المرافقين له في جحيمه شياطين زمانهم ومكانهم بكل آثامهم أو أنانيتهم أو أحقادهم وجرائمهم المخزية إنسانياً واجتماعياً، ومنافعهم واحتياجاتهم لاستمرار حياتهم، حتى عبر مشاكساتهم التي ينطوون عليها في تلك الظروف الصعبة وهم يمارسون، الدفاع عن حياتهم ورغباتهم الجامحة، المشروعة منها أو الخسيسة أخلاقياً، والتي يسعون إليها، ومهما كان ثمنها. الصوت الواحد كان الصوت الواحد والمراقب، للجميع، حتى ذاته، في الإعراب عما يحيطه، ويحيطهم، لذا قرّبَ بعض ظروفهم الاجتماعية السابقة، خارج السجن، وروى براءة بعضهم والالتباسات التي وضعتهم في هذه (الجحيم) وسلوكهم الذي كان انعكاساً للبيئة القاهرة الظالمة التي ترعرعوا فيها اجتماعياً. و”يتطلب فن محاكاة الواقع، هكذا نوعا من الخطاب، انه لصيق حدث يجعل قدرة التحكم بباطنية إشارته وتضاربها ممكنة التحقق” كما تقول د. فاطمة المحسن. والراوي/ القاص يتناول أغلب ماضيه الشخصي، ومنه عدم استجابته للحياة في بولندا والاقتران بسيدة بولندية، ودموعها يوم سفره، ويحس بلوعة مشاعرها بعد أكثر من عقدين وفي سجنه. تلك الأخرى اليوغسلافية التي يشم في السجن رائحتها. ويستعيد بمرارة واقع الإنسان العراقي وتعاسته في بلد لا حد لثرائه، ويقارنه في بلدان مرّ بها وعاين عن قرب حياة ناسها اللائقة مع شحت مواردها!. وبهذا ومن خلال، الكثير من التفاصيل، فإنه كان “يبحث عن الخلاص من ندم على أحداث حياتية ماضية لا يستطيع تغيرها فالندم هو شعور أكثر تعقيداً، متخثر وبدائي. شعور سمته الرئيسية انه لا يمكن فعل شيء حياله إلى درجة لا يمكن معها إصلاحه” على حد تعبير جوليان بارنز في “الإحساس بالنهاية”. تخلخل والتباس يثير العنوان الفرعي للكتاب تخلخلاً والتباساً عند توصيفه يوميات، ففن اليوميات كتابة يمكن أن ندون فيها الأحداث التي تترك أثراً ما فينا أو في محيطنا المعيش. و”اليوميات عبارة عن سيرة ذاتية يومية، ويمكن أن توفر اليوميات معلومات شخصية، وعموما هي تكتب بغرض النشر أو عدمه، ويمكن أن تصبح مادة لاستخدامات الكاتب الخاصة، وهناك يوميات كتبها بعض الكتاب مع مراعاة أن تنشر في نهاية المطاف للدفاع عن أنفسهم قبل أو بعد الوفاة، أو لمجرد الربح وهي متنوعة للغاية، وتشمل حتى الاستكشافات الداخلية للإنسان من خلال الوجدان، للتعبير عن الذات والاشتباك مع أعمق المشاعر والأفكار والرؤى” عن شبكة الانترنت العالمية بتصرف. سنشخص الالتباسات التي وقع فيها القاص، فهو لم يُوَصّف “كوكب المسرات” بالرواية في العنونة بل “سيرة ذاتية من يوميات سجين” لكنه يذكر في الإهداء “إلى زوجتي.. واصغر الأبناء الشجاعَيْن اللذين بواسطتهما هربت مسودات فصول هذه الرواية”. يكرر ذلك في الصفحة (198). كما انه، يؤكد تنازل المشتكي رسمياً، وتسوية القضية بعد تسلمه سيارة (السباهي) الشخصية، والتي دهسه بها في الظلام، تعويضاً له عما لحقه من أضرار جسمانية بسيطةٍ، وفي المحاكمة لم يعبأ القاضي بذلك، وأعلن الحكم بـ”الحبس البسيط لمدة تسعة أشهر، وفق المادة / 24 / مرور” (ص 11). السرد المتسرع بعد محاولات استمرت بعض الأشهر لإعادة محاكمته، في ضوء تنازل المشتكي: “دخلنا إلى المحكمة وكانت كما تركتها آخر مرة تركس في القذارة والفوضى والرطوبة والبرد. وقفت طويلاً في الرواق، مكبلاً، أدخن والقلق يتناهبني، فجأة خرج القاضي، ومن فوري بصقت السيجارة خلفي، لكنه قد مسكني بالجرم المشهود، فتسّمرَ أمامي وقد احتقن وجهه وعوى: تدخن في رمضان! وداخل المحكمة! يالك من مستهتر!”(ص 159 ـ 160). ومع تأكيدات محاميه عن طيبة القاضي وعدله وحياديته، لكنه يؤكد “قلبي يحدثني إنني مقبل على كارثة!. ومثلما نمَ لي قلبي العارف بطباع ضباع البشر فقد (حَزَّمنيَ) القاضي بسنة كاملة، بدلاً عن الشهور التسعة مدة محكومتي الأولى”. لكنه، يسهو عن الحكم الجديد الذي أعلنه القاضي بحقه، فيذكر في يوم إطلاق سراحه: “سأستحم من دون منغصات، واشرب قَدرَ ما يحلو ليّ من الماء المُبرد، واقترب من زوجتي بعد اخصاء دام تسعة أشهر” (ص 219). ويكرر حبسه “تسعة شهور” في الصفحات (221 /222 /223) متناسياً من خلال لهاثه خلف السرد المتسرع، حكمه الجديد، الذي بات نافذ المفعول، وسبق أن روى ملابساته في الصفحة (160). تتألف كوكب المسرات من (17) فصلاً ضمن (228) صفحة من القطع المتوسط وبحرف طباعي صغير جداً. في النهاية يورد القاص الملاحظة التالية: “تاريخ كتابة النص من 10/ 8/ 1997 إلى 8/ 5/ 1999” وبهذا أطلق صفة ثالثة على كتابه. فأولاً: سيرة ذاتية. وثانيا: يوميات سجين. وثالثاً: نص. الأشكال النصية يحدث الإشكال والالتباس والتخلخل في العنونة. إذ جَنَّسَها بكل ما جاء أعلاه دون أن يوصفها في العنوان رواية، فبصفتها نصاً فهي عبارة عن تكوينات تعبيرية، تؤكد مبدأ التناص، في معنى تواشج التجارب التعبيرية، والأشكال النصية التي تتفاعل مع بعضها في تجربة كتابية أدبية. سخرية مرة وهي سيرة جحيم عامة وخاصة، وهي يوميات بما جاء فيها من وثائق عن تاريخ العراق الاجتماعي والثقافي وتقلباته، قديماً وحديثاً، وكذلك تضمينات من كتب ونظريات فنية وثقافية وجمالية ووثائق كثيرة، بعضها مسجل في رسائل وردت له في السجن من القاص والروائي الراحل مهدي عيسى الصقر الذي يعتذر عن زيارته ويضيف في رسالته: “أخي محمد.. آمل أن يكون لهذه المعاناة المؤقتة جانبها النافع فتطلع علينا، فيما بعد، بـأقاصيص رائعة. قلبي ـ الضعيف ـ معك. المخلص/ مهدي عيسى الصقر/ السبت: 12 نيسان/ 1997.” (ص 101). القاص في “كوكب المسرات”، صفة (المسرات) لم تكن غير سخرية مرة وموجعة، يستعيد كل شيء، طفولته، طبيعة الأهوار، التي شب على حافاتها، قتل أخلاقي، أو سياسي، أدباء شباب يحلمون بتغير وجه العالم عبر قصصهم وقصائدهم وكتاباتهم. صداقات سمتها الوفاء والثقة والمساندة في أحلك الأيام، وأخرى نقيضها، غوايات النساء، مختلسون، مهربو مخدرات، مزورو وثائق رسمية، وشهادات جامعية عالية، تفسخ الأنظمة الشمولية، سنوات المكابدة المتواصلة من أجل العدالة الاجتماعية، تلك السنوات التي تسربت ما بين الأصابع كالماء، الأسفار المتعددة، تاريخ عراقي ملطخ بالدماء، أمكنة آمنة أو منفرة وطاردة الخ.. السجين والسجان في الكوكب ومعهما القادم للزيارة، تتلبسهم مخاوف الوشايات والمعلومات غير الموثقة، لكنها حقائق لدى صاحب القرار. تمازج السرد بفوبيا المكان والزمان، وما يحدث فيهما، دلالات على واقع ووضع يتميز بالقهر الاجتماعي السائد خارج السجن، وتنعكس عليه بأشكال وأنواع حياة يومية رثة وشرسة في آن واحد. تحدث القاص عن كل ما عرفه وقرأه وتعلمه في حياته، وحتى درس الدكتور علي جواد الطاهر، الذي راسله عن قصته “الوصية” عام 1971، التي يحتفظ بنسختها، وذكر بعض ما ورد فيها (ص 71): “الكتابة مسؤولية جسيمة، وليست عملية تنجز للتسلية أو التفاخر الاجتماعي، اكتبْ كما تفكر أنتَ، وليس كما يريد الآخرون أن تفكر، وإلا انصرف إلى عملٍ آخر غير الكتابة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©