الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البروفيسور محمد الحداد:الحوار مع الأصوليين مستحيل

البروفيسور محمد الحداد:الحوار مع الأصوليين مستحيل
10 سبتمبر 2014 21:35
* الثقافة النخبوية عاجزة عن القيام بوظيفة التنوير * الحوار مع الأصوليين مستحيل لأنهم مبرمجون على الطاعة * الحركات الأصولية نسفت جميع مكاسب الحركات الإصلاحية * تحرير المساجد من أشكال الاستغلال السياسي شرط للخلاص من العنف ---------- البروفيسور محمد الحداد هو أستاذ مادة الأديان المقارنة في اليونيسكو، وله دراسات ومؤلفات عدة، حول تيارات الإصلاح الديني في العالم العربي منذ نهايات القرن التاسع عشر، ويرى أنها كانت مجدية في زمنها أو عصرها، وكان يمكن لها أن تؤسس لحركة تغيير حقيقية، على غرار ما حصل مع مارتن لوثر في إصلاح الكنيسة الغربية. ولكن قيام الحركات الأصولية، وفي مقدمتها حركة «الإخوان المسلمين» في نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، أجهض أي أفق للإصلاح، ناهيك عن التغيير أو التجديد. هنا حوار مع البروفيسور الحداد، حول واقع العنف والإرهاب الذي يهدد مستقبل الإنسان العربي، ومحاولة لتلمس سبل الخلاص من المأزق، وآفاق المخاض الذي تشهده المنطقة منذ ثلاث سنوات تحت مسمى «ثورات الربيع العربي». ------- * خلال العقدين الأخيرين بدا وكأن العنف أو الإرهاب لصيق بالإسلام كدين، إلى أي مدى يصحّ هذا التوصيف؟ ** أعتقد أن الأديان جميعا تؤمن بأنها تحمل الحقيقة المطلقة، وهذا يمكن أن يكون من العوامل التي تؤجج العنف. ولكن عندما نرى تاريخ الأديان، نجدها جميعاً كانت تدعو للتسامح وتنادي بالوئام والسلام بشكل أو بآخر. علماً أن كل دين كان يتمتع بمنظومة معرفية أو فكرية، سواء دينية أم أخلاقية، وكان من خلالها يضع الحلول لقضايا ومشاكل العصر، ما جعل الأديان تبدو وكأنها مشاريع دول، وخاصة منها الدين الإسلامي، حيث طرح حلولا لكافة القضايا في عصره الأول. ولكن مع التقادم والتغيير، الذي هو سُنة الحياة، من الطبيعي أن لا تكون هذه الحلول مواكبة أو شاملة لكل التحولات الجديدة في حياة الإنسان. لذلك لا بد أن تتغير الحلول التاريخية، فما صلُح بالأمس لا يصلح اليوم. فمثلاً وقع قبول أصحاب الأديان المختلفة على مبدأ «الذمية» أو «أهل الذمة» الذين هم المسيحيون واليهود. وهذا النظام يمكن اعتباره متطورا إذا طرحناه في القرن السابع الميلادي، ولكنه لم يعد مقبولا في العصر الحديث، لأنه مناف لفكرة المواطنة أو المساواة والعدالة، وهو ينتهك الحقوق المدنية. وقس على ذلك الكثير من الأمور والقضايا. وإذا لم تتطور التأويلات والمنظومات المعرفية بهذا الشأن، فسيكون العنف أو الإرهاب من النتائج الطبيعية. ممارسات عنفية * كيف نفسر قطع الرؤوس، أو غمسها بالمياه حتى الغرق الكامل، أو إلقاء البعض من أعلى المباني بدم بارد؟ ** ربما يحصل أكثر من هذا، بما أن الناس الذين يمارسون هذا العنف مقتنعون به. هؤلاء في معظمهم أناس عاديون، تعلموا في المدارس وبعضهم أنهى دراسته الجامعية، ولكن هناك عمليات غسل للدماغ بفتاوى مشتقة من أحداث وقعت قبل أربعة عشر قرناً، وتُقاس بنظائرها على الحاضر، وهي فاتحة على عناصر ثقافية ودينية متعددة المشارب بتخلفها عن العصر، فتحول الإنسان العادي إلى وحش، بل إن الأدهى والأمرّ، أن جزءاً من الرأي العام يميل إلى تقبل هذه الأعمال الإجرامية، الوحشية، تحت شعارات المقاومة والجهاد. وهذا يذكرنا بالعنف الذي كان يمارس أيام محاكم التفتيش بأوروبا، وكان يعتبر مبررا ومقبولا لدى فئات واسعة من الناس في ذلك العصر. نستنتج من ذلك، أنه ما لم يحدث تغيير عميق في القيم الثقافية السائدة، كي تصبح قضية الإنسان هي الأولى، والحرمة الجسدية والمعنوية للإنسان أكبر من كل الاعتبارات الأخرى حتى الدينية عينها، فستبقى موجات العنف والإرهاب ــ للأسف ــ تجتاح المجتمعات العربية والإسلامية إلى أمد غير منظور. * أفهم من كلامك أن آلية النقل الببغائي، السائدة في الوعي الإسلامي المعاصر، أزاحت العقل جانباً بشكل نهائي؟ ** لا أقول إن العقل بات مُحَيَّداً بالكامل. لأن المشكلة أن مناصري تيار العقل محاصرون، وإذا ما تكلموا، يتكلمون لبعضهم البعض، بعكس تيار النقل، الذين يسيطرون على جميع المنابر حتى الرسمية منها، ويكفي هؤلاء أن المساجد تحت تصرفهم، فتجدهم يحاضرون في الآلاف من الناس العاديين والبسطاء بشكل دائم، وربما يكون ذلك من مولدهم حتى مماتهم. بينما أحسن ندوة لتيار العقل لا تستقطب إنسانا عاديا واحدا، وهم بأحسن حالاتهم أو أفضل رموزهم لا يستقطبون أكثر من عشرين إلى ثلاثين شخصاً من طينتهم وعجينتهم، كما يقال، وعليه تبقى أفكارهم تدور فيما بينهم لا أكثر. الأصولية والإصلاح * ألا تعتقد أن الإخفاقات التنموية المتوالية على مدى خمسة قرون في معظم بلدان العالم العربي، تساعد الفكر التكفيري على استقطاب العاديين وتأجيج العنف في وعيهم؟ ** الفقر أو الظلم الاجتماعي، يمكن أن يدفع بعض الأفراد إلى العنف، ولكنه ليس العنصر الوحيد، كما أنه لا يدفع السواد الأعظم من الناس إلى ممارسة العنف والإرهاب أو الإجرام، سواء بشكل مباشر أو من خلال القبول أوالتأييد. * كأنك تقول إنه لا أفق للتجديد أو التغيير، فأين أصبح مشروع التنوير العربي؟ ** بداية أنا لا أستعمل كلمة التجديد، وإنما الإصلاح. وأرى أن الإصلاح كان قائماً في القرن الثامن عشر، لأنه بدأ بالانفتاح على الغرب وتجاربه العلمية من جهة، وعلى فكرة أو مفهوم المواطنة من جهة أخرى. وبمقاييس ذلك العصر يعتبر هذا الأمر مهماً، ولكنه لم يتواصل. وأنا من الذين يميزون بين الحركات الإصلاحية التي نشأت في القرن التاسع عشر، وتواصلت إلى الثلث الأول من القرن العشرين. وبين الحركات الأصولية التي نشأت في نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، التي اكتسحت الساحة وألغت الحركات الإصلاحية السابقة. فالحركات الأصولية لم تنشأ على التفاعل الإيجابي مع الغرب – كونه مركز الحضارة السائدة -، بل على العكس اعتبرت أن قضيتها الرئيسية هي التخلص من الغرب والقطيعة التامة معه. وكذلك لم تكن قائمة على فكرة المواطنة، وإنما قامت على فكرة الخلافة. ولذلك أعتبر أن المكاسب التي حققتها الحركات الإصلاحية، رغم أنها كانت محدودة، إلا أنها قد نُسِفَتْ تماماً مع قيام الحركات الأصولية بعد ذلك. * ألا تحدثنا عن الإصلاح الذي قامت به الحركات الإصلاحية، أو من أطلق عليهم رواد حركة النهضة؟ ** أنا قلت إنهم وجدوا، ولم يجددوا. ذلك لأن التجديد كان من داخل المنطق الإسلامي هو إصلاح المعطل. ونحن نعلم أن إصلاح المُعَطَل، قد يُفسح المجال لتجديدات لم يكن يتوقعها أصحاب الدعوات الأصلية، لو قُيض لحركاتهم الإصلاحية أن تستمر. لكنها في الواقع لم تستمر لأن الحركات الأصولية نسفتها تماماً كما أشرت سابقاً. فمثلاً مارتن لوثر رائد الإصلاح في الكنيسة الغربية، لم يكن يتوقع أن الإصلاح الديني الذي طرحه لإصلاح عطب الكنيسة، سيتحول إلى مكون رئيسي من مكونات الحداثة الغربية أو الثورة الفرنسية عموماً. شرائح واسعة من العرب يخلطون بين القيم الغربية والقيم الحداثية. يمكن لقيمٍ ما أن تنشأ في الغرب، لكنها تتحول إلى قيم كونية، والإصرار على ربطها بالنشأة، يؤدي إلى رفض العرب للعديد من القيم الكونية. أنا أتساءل دائما، لماذا يقبل العرب الاستفادة من الكهرباء واللُقاحات اللذين نشآ في الغرب وأصبحا كونيين، ويرفضون الاستفادة من منظومات سياسية واجتماعية أثبتت نجاعتها، وصارت كونية، مثل قيام العديد من دول العالم اليوم على الديمقراطية ومبدأ المواطنة وحقوق الإنسان، وليس على أساس الهُويات العرقية واللغوية والدينية. جمود لا عطب * أتظن أن هناك عطباً ما في الهُوية العربية الثقافية؟ ** هناك جمود للهوية الثقافية، يجعلها تنظر إلى الماضي، وتبحث عن الحلول في التجارب الماضية، ولا تتفاعل مع التغيرات والحلول الجديدة. هناك دائما توازن بين الماضي والحاضر يقوم على تأويل الماضي لمصلحة الحاضر. أما التمسك بالماضي في ذاته، وبحذافيره، فهذه هي هُوية الجمود التي تحدثت عنها. رغم أن ماضي الثقافة العربية الإسلامية كان بدوره تفاعلا مع ماض آخر، مثل الرومان والإغريق والفرس والهند والصين وغيرها، ولولا ذلك لما بلغت الحضارة العربية المستوى الذي بلغته في السابق. ويمكنني القول إنه «لولا أرسطو لما وُجد ابن سينا وابن رشد». * كيف يمكن ملامسة العطب في الشخصية العربية؟ ** هناك أشياء عديدة، أهمها القراءة التاريخية للماضي بدل القراءة التقديسية له، لنُبرز أولا صفة التفاعل مع هذا الماضي، ولنبين ثانيا محدودية العديد من الأطروحات والمنظومات التي عرفت فيها. نحن نتحدث دائما عن نظام «الذمية» على أنه نظام مثالي! ولا نأخذ شهادات الأقليات الدينية التي كانت خاضعة له، والتي لم تكن دائما إيجابية مثلاً. حصار * أين أصبح مشروع التنوير العربي؟ ** لقد بدأ مشروع التنوير العربي في القرن التاسع عشر، وهو متواصل إلى اليوم، ولكنه محاصر من قوى عديدة لها مصلحة في أن تظل الأوضاع على ما هي عليه، ومع الأسف فإن المدارس والجامعات والتعليم العصري لم يقُم بأدوار تنويرية، ولم يعمل على تعميم هذا الفكر الجديد، عكس ما حصل في الأنظمة التعليمية الغربية مثلا. فالتحدي الأكبر أمام الفكر التنويري في العالم العربي أنه مازال فكراً نخبوياً، ولم يتحول إلى فكر جماهيري، لأن وسائل الانتشار محدودة، وطبيعي أن لا يحقق انتشارا واسعاً، بخلاف الخطاب الديني الذي تُشرع له أبواب المساجد، ومختلف أنواع المنابر حتى الرسمية منها. . فالتعليم نفسه بقي تعليما نفعيا أكثر منه تعليما تنويريا. وأبسط الأمثلة أن انتشار الكتب المطبوعة في العالم العربي مازال محدوداً للغاية، ولا يمكن أن نتحدث عن ثورة مطبوعات مثل التي حصلت في أوروبا، فمثلاً تقول بعض الدراسات إنه في العام الواحد يُطبع في أوروبا ستة عشر مليون كتاب. فهل يُطبع مثل هذا العدد في العالم العربي اليوم؟. هذه كلها عوامل تفسر محدودية انتشار الفكر التنويري. * المفكر محمد أركون يتحدث عما يسميه «زحزحة النص». أي تجاوز المعنى الموروث بالخطاب الديني، هل فعلا يمكن أن يؤسس هذا المفهوم لتيار يتجاوز محنة العقل العربي؟ ** نعم يمكن أن يؤسس لتيار جديد. ولكن المشكلة الحقيقية أن الإضافات التنويرية لا تحصل مع شخص واحد، وإنما مع مؤسسات. والدليل على ذلك أن العربي عندما يهاجر إلى الغرب يمكن أن يكون أحد رموز التنوير، فمثلا بخصوص الدراسات ما بعد الاستعمارية، التي أسسها إدوارد سعيد في الغرب، وصارت معتمدة في كل الجامعات الغربية، لو بقي إدوارد سعيد يدرس بجامعة عربية ما كان له أن ينجز ما أنجز. المؤكد أن المؤسسات التعليمية في العالم العربي هي مؤسسات لا تسمح بالقيام ببحوث علمية عميقة. ومن ثم حتى نتحدث عن ثقافة تنويرية يجب أن تصبح في البداية، ثقافة جماهيرية، مثلما حصل مع فلاسفة الأنوار في أوروبا. ذكرت أركون، دعني أخبرك قصة من سيرة أركون في بداية حياته المهنية، ترشح لوظيفة في الجزائر، أتعلم ماذا حصل؟ لقد تم تعيينه في معهد بسيط موجود بمنطقة نائية وبراتب لا يبقى منه بعد مصروفه الشهري ما يسمح له بزيارة أهله. فتقدم لوظيفة في فرنسا، فجرى تعيينه فوراً في جامعة السوربون. النتيجة يا سيدي واضحة. وهي أن المؤسسات التي يفترض أن ترعى التنوير وتقوم بنشره في العالم العربي غير قادرة تماما على القيام بهذه الوظيفة في العالم العربي. * إذن ما العمل، إلى متى سنبقى في دوامة الإرهاب وهذا الكم الهائل من الأشلاء والدماء، التي تغطي مختلف البقاع العربية والإسلامية لأسباب تافهة جداً في بعض الأحيان؟ ** في العالم العربي هناك تراكم من المشاكل، وعندما تتراكم المشاكل يصبح من الصعب حلها بالسهولة والسرعة المطلوبة، هذا من حيث المبدأ. أما الحلول بذاتها فهي معروفة، وتتمثل أساسا في ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وقيام الأنظمة السياسية على مبادئ المواطنة والديمقراطية والتوزيع العادل للثروات الوطنية واحترام التعددية الثقافية إلى آخره. ومن جهتنا كمثقفين تنويريين لا نملك إلا أن نواصل الدعوة لهذه المبادئ بالإمكانيات القليلة المتاحة لنا. وهي إمكانيات كما ذكرت محدودة ولا تسمح بالانتقال إلى الثقافة الجماهيرية. * هل من أفق للتعاون مع الحركات الأصولية أو الإخوانية للعبور من النقل إلى العقل؟ ** شخصياً لا أرى في الحركات الإخوانية أو رديفاتها مثقفين، وإنما العكس هو الصحيح، وبمعنى أدق أنا لم أرَ بها شخصاً يمكن اعتباره مثقفا أو فنانا. علماً أن هذه الحركات أنتجت رجال أعمال. ولكن التعاون مع هذه الحركات هو من المستحيلات في الوقت الراهن، فهذه التنظيمات لا تستوعب بعض الأصوات المعارضة من داخلها، حتى الذين يقاربونها من الأطياف الإسلامية سرعان ما ينأون بأنفسهم عن الانتماء التنظيمي في إطارها، لأن المثقف بحدوده الدنيا يحتاج إلى الحرية، وهذه التنظيمات الكلّيّانية قائمة على مفهوم السمع والطاعة والاتباع من دون مناقشة، ولا توفر الحد الأدنى من مناخ الحرية للممارسة الثقافية الحرة. * المثقف الحقيقي مطالب بالبحث عن الحلول، واكتشاف طريق الخلاص، فهل من سبيل إلى ذلك؟ ** السبيل هو إرساء أنظمة ديمقراطية يُحترم فيها القانون، وتحييد المساجد عن عملية التوظيف الحزبي، أو أي شكل من أشكال الاستغلال السياسي سواء من قبل النظام الحاكم أو المعارضة، وفتح أبواب الحرية أمام جميع مكونات المجتمع. ومن دون توافر هذه الشروط لا يمكن أبدا أن تتغير الأوضاع بصورة جذرية وسريعة. أما كتابة بيانات الشجب والإدانة أو التنديد بالحركات الإسلامية، فلن تكون لها أدنى فائدة لأن المسألة راسخة في عمق التركيبة الاجتماعية. * ألا ترى بصيص أمل في ما يسمى «ثورات الربيع العربي»؟ ** نعم هناك أمل كبير، ولكن رهاني الشخصي على ارتدادات هذه الثورات. بمعنى أن هناك ثورات في بعض البلدان العربية، ربما تؤدي إلى تحقيق هذا المأمول في بعض التجارب المحددة. ولكنْ هناك بلدان أخرى لم تحصل فيها ثورات، وهي تدرك أن أفضل طريقة لتفادي هذه الهزات العنيفة، أن تبادر من تلقاء نفسها بالإصلاح، فربما يكون هذا هو الأمل في المستقبل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©