الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علي العندل.. كتابة الخراب

علي العندل.. كتابة الخراب
10 سبتمبر 2014 21:30
* قصيدة النثر لها وهج داخلي استطاع أن يأسر المبدع نفسه قبل المتلقي * نص "الروليت" يقول بالمغايرة والمشاكسة الوجودية على مستوى الذات والمجتمع ------ إنه شاعر المفردة الواقفة، الواقعة في المحظور التشاؤمي كمن لا يرى من الكوب إلا نصفه الفارغ، أو هو من يرى حقيقة الحياة في فراغ الوجود من فرحٍ يتيم، في انتباه الشاعر إلى العدم كحالة حتمية نهائية، كما الموت، كما الاختناق، "كما ربطة العنق" يقول الشاعر الإماراتي علي العندل، "لا أفقه ألعابي/ خراب وجودي/ كما ربطة العنق حبل مشنقة/ أصبحت مرهوباً/ شعرات جلدي واقفة/ متأهب للرحيل"، وهو الذي تأهب للرحيل منذ سنواته الأولى، وصولاً إلى عتبة الأربعين حين ودّعنا وغاب. ------ "جلده مليء بالكدمات وثمة آثار عنف وارتطام هائل بالوجود، هذا الوجود الذي لم يتصالح معه علي أبدا"، يحيلنا البحث في النص الشعري المنتمي لما نسمّيه قصيدة النثر، للشاعر الإماراتي علي العندل إلى إشكالية التوصيف للقصيدة نفسها في مشهد الشعرية الإماراتية المعاصرة، وذلك بعد ما يقارب النصف قرن من انتشارها كخيار تعبيري شعري خاص بمجموعة من الشعراء الطليعيين المجرّبين بحرية، وبينهم الشاعر العندل نفسه، والذي بحسب ما يقول عنه الناقد إبراهيم اليوسف في مقالةٍ له في الملحق الثقافي لجريدة الخليج من يقرأ ديوان "سيف الماء" للشاعر الراحل علي العندل، والذي يضم بين دفتيه أربعة عشر نصاً، يجد أنه وبحق أمام عالم غرائبي، مدهش، يكاد لا يشبه إلا نفسه، سواء أكان على صعيد بنية النص، أو اللغة، أو الصورة المشحونة بالقلق، والتوتر الهائلين". إنه الشاعر الذي لم ينل حقه من الاشتهار ولم ينل نصّه الشعري نصيبه من الانتشار، كأنه طرفة بن العبد في إفراده ذاك الإفراد وهنا تكمن المفارقة الجميلة، فبين الشاعرين صلة وجد ووجود، والاثنان لم يمهلهما العمر إلا قليلاً، حيث توفي العندل في ريعان شبابه وأوج نضوجه الحكيم وهو لم يكمل الثالثة والأربعين من العمر، وهنا أستعيد مقولة شهيرة أحمد في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد، عدد 25 مارس 2010، عن الشاعر العندل وحياته المتفردة، لأشير إلى المشترك الدلالي بين تجربتي الشاعرين العندل وطرفة بن العبد، تقول شهيرة: "وخلافاً لنصه الخافت الهامس، لم يكن العندل خافتاً في إنسانيته وحياته. . . ذرعها حلماً وزرعها بكتابات غريبة كان يعرف سلفاً أنها مجرد محاولة لخداع الحياة، للتحايل عليها، لعلها تترك العاشق قليلاً ليقول عزلته ويهندس لوعته، أما علي العندل المثقف فلم يكن سوى "محتج كبير" على الكثير مما يجري في المشهد وما يعتوره من عيوب، وما يتوفر عليه من فقدان". وعن نصّه تقول: "نصه في المجمل مفكك وشديد الغموض، يستغلق غالباً على الفهم ويحتاج إلى القراءة مرات ومرات، ذلك أنه نص بلا علامات، كما لو انه تجسيد كلامي لغموض الحياة نفسها، ولعلاقته هو مع الحياة، تلك العلاقة الخربة، المفككة، غير المفهومة". إنها عن هذا النص تتحدث، النص الشعري المنتمي لقصيدة النثر، والممتنع عن التأويل، في تجربة الذات المتحررة من كل قيد، المغامرة والغامرة، المتجهة تواً نحو حتفها الجميل، كأن يصير الشاعر باحثاً "عن ورمٍ خبيث - - > لرجل وحيد - - > يبعث العزاء للوجود"، النص "جلد الجسد والأسد" الذي من مجموعته "الروليت"، يقول فيه الشاعر العندل: "أبحث عن ورم خبيث لرجل وحيد يبعث العزاء للوجود". بحسب الباحث د. عبد الإله عبد القادر، في مقالة له بجريدة البيان، عدد 6 يونيو 2014، فإن العندل "كان شاعراً خلافياً ومشاكساً في شعره لا في حياته التي اتسمت بخجل بيّن لكل من عرف علي العندل، هو ليس مثل هؤلاء الذين يفتشون عن بؤرة الضوء عند كل شعاع شمس، من أجل أن تكشف للناس شخوصهم وهو أيضاً ليس من النوع الذي كان يسعى لنشر قصائده لا خجلاً إنما اكتفاءً بأن ما يكتب هو شخصي وذاتي، وأن الشعر ممارسة حياتية تجعله يشعر باستمرارها، وإن انقطاع الشعر انقطاعاً للحياة واختناقاً وهو يتنفس الهواء مثل فراشة تدرك أن النور قاتلها إلا أنها تقصده لأنها تحب الضوء وبالتالي فلا مناص من الموت به". وعن لغته الشعرية يقول عبد القادر: "فريدة في مفرداتها وباقتناء موضوعات قصيدته حينما نقرأ شعره نشعر بالعذاب الذي كان يحمله مع كل نسمة هواء تمر على جبينه، أو يشعرك بخيبة أمل في الحياة التي لم تدم لأحد، وتتلمس أيضاً قدر الإنسان الذي لابد منه". نظرية المرايا العاكسة إذاً تكمن أهمية قصيدة النثر الإماراتية بدايةً في نظرية المرايا العاكسة، كأن تصير اللغة حمالة أوجه، أو هي بوجهين اثنين: الأصل والضد، فيكون الضد أصلاً والأصل ضداً أيضاً، تكمن أهميتها في مفردتي الغرائبية والإدهاش، ثم في مفردات الذاتية والاختناق والخيبة والعذاب، وهذا ما لم تستطع إليه سبيلاً المطولات الشعرية العامودية وقصيدة التفعيلة رغم أنهما أبدعتا في رصف الجماليات الشعرية والمحسّنات اللفظية والمعنوية والبلاغية والبيانية والموسيقية أيضاً. فلقصيدة النثر وهج داخلي استطاع أن يأسر المبدع نفسه قبل المتلقي، فها هو الشاعر علي العندل يبدأ نصه الشعري بمسمّى "الروليت" ليقول بالمغايرة والمشاكسة الوجودية على مستوى الذات والمجتمع، وها هو يقيم توازن النص الشعري على التضاد لا الترادف وعلى المقابلة لا على الوحدة الموضوعية الموروثة، ففي نصّه "جلد الجسد والأسد" في مجموعته "الروليت"، يخاطب نار الشباب المقدّسة، كأنه يقيم طقساً وثنياً إفريقياً للرقص حول النار، ثم يتعب بعد الرقص فينزوي في غرفته الداخلية أو ما يسميه هو فراغ القلب، حيث التفاصيل "موسى الحلاقة"، حيث قرار القطع مع الحياة، حين يكون موسى الحلاقة دالاً على فعلي القطع والقتل، يقول العندل: "يا نار شبابي المقدّس نعود إلى الغرفة. . إلى فراغ القلب إلى موسى الحلاقة ننتظر إصدار القرار". لا يغفل العندل عن زاوية حميمة في الذات، في ذات كلّ إنسان، يلجأ إليها حين تتعبه الحياة، ولكنه بسوداوية حكيمة، عارفة، يشير إلى تلك الزاوية بما لا ينتمي للحميمية بصلة، فالطفولة خطوته إلى الموت، الذي ينتظره على عجل، على عتبة الأربعين، نقرأ حقلاً معجمياً يحشد مفردات الموت وكلماته المفاتيح "المقبرة/ الرائحة/ الجثمان/ الجثة"، ليعكس شبكة علاقات يقيمها الشاعر بعناية بين الطفولة والموت، "مباهج الطفولة - - > تراب المقبرة الرطب - - > الرائحة - - > جثمان لم يجئ بعد - - > جثة لم تحملها أنت"، يقول: "يا مباهج الطفولة على تراب المقبرة الرطب تأخذك الرائحة إلى جثمان لم يجئ بعد إلى جثة لم تحملها أنت". إنها العلاقة التي تقيمها قصيدة النثر نفسها مع الحياة بمراحلها اللاواعية الأولى، مرحلة الطفولة الحلمية، ولكنها في نموذج العندل تتخذ صفاتٍ يستلهمها من مجهول ما يشي به اللاوعي الأول، لا وعيه المتوجس من الموت، لا وعيه الذي يرسم له في كل شكل ظل للموت، للنهش، للقتل، فتصبح القصيدة مساحةً مفتوحةً للهلوسة بأحلام اليقظة واستعادة الطفولة مع التدخل الدادائي في تشكيلها فهي طفولة اللامأوى، والحبو لراكض بالخوف من الليل والعتمة، ثم التحول السحري إلى طائر عند ارتداء الخيمة أو الغيمة في الحلم، ولا ينسى الشاعر أن يزخرف نصّه بألق خفي لمفردات الموت حين يتناولها كأنها القدر المحبّب: "النهش/ اللامأوى/ الحلم دم"، يقول في نصه نفسه: "في الليل تأتيني هرةٌ ممتلئةُ الأثداء تقول: أنت عاطل وللنهش مباح اللامأوى تكتب أحرف شبابي كنت أحبو، كنت أركض أرتدي الخيمة في الليل طائراً أمزج الحلم صحواً يسقط الباب تحت قدمي دماً". بنت التمرّد يعتبر الباحث اليمني الأستاذ الدكتور أحمد العزي صغير أنّ سمة قصيدة النثر العربية وميزتها تكمن في التمرد الذي أتت وليدته، ويشير إلى أنّ "القصيدة العربية شهدت مجموعة من التحولات المهمة يمكن وصفها في بعض مستوياتها بالانقلاب الجذري، الأمر الذي يجعل الوصول إلى قصيدة النثر أمراً غير مفاجئ وشبه متوقع، بل يمكن اعتباره امتداداً طبيعياً لمحاولات التمرد المتعاقبة"، فأول خطوة للتمرد على نمطية القصيدة العربية، في نظره، كانت من خلال بشار بن برد وأبي نواس ومجموعة الشعراء المحدثين، الذين لم يكتفوا بتجاوز المقدمة الطللية ووصف الرحلة التي ظلت حتى عهدهم مكوناً أساسياً في بنية القصيدة، بل تعدوا ذلك إلى اللغة والموضوع، ولم تكد القصيدة العربية تستوعب هذا التمرد حتى واجهتها موجة تمرد أخرى أكثر عنفاً تمثلت في أشكال جديدة من التعبير الشعري تمثلت في شعر: (الرباعيات) وشعر (البند) الذي خرج على العروض الخليلية المعروفة، ثم الموشّحات التي كان لها هيكليتها الخاصة، وإذا ما انتقلنا إلى العصر الحديث وجدنا رياح التمرد أكثر عنفاً في ملامستها لجسد القصيدة شكلاً ومضموناً، ولعل أهم وأبرز ما حققته نازك والسياب وباكثير والبياتي وفدوى طوقان من تأثير في القصيدة العربية على مستوى الشكل هو الانتقال من البيت الشعري إلى الجملة الشعرية والسطر الشعري، فضلاً عن تهشيم جدار اللغة، ولا شكّ في أن كل ذلك كان استجابة لمتطلبات العصر، ورغبة الشاعر العربي في تجاوز حالات العقم والوثوب إلى ما وراء الأسوار، يقول الباحث نفسه: "هكذا ينبغي النظر إلى التحولات التي تعرضت لها القصيدة العربية وصولاً إلى قصيدة النثر". والشاعر علي العندل هو الشاعر الذي يستحضر تماماً في تجربته الشعرية المقولة السابقة لجهة تهشيم جدار اللغة، وتكسير مساقاتها وتفجير دلالاتها، فإعلاء الذاتية بحد ذاته قيمةٌ من قيم قصيدة النثر العليا في سبيل انتصار الفرد ضد الجماعة ومسلّماتها وإسقاطاتها المجتمعية عليه، ففي نصه الشعري يحاول العندل أن يشير إلى تلك المساحة البعيدة المغرقة في الذاتية كملاذ أخير، بأدوات التداعي الحر والهذيان النفسي حتى آخره، والغرق والاختناق، كأنه يشير إلى انسلاخه عن واقعه ورفضه لمحيطه كلّه فيبدو غريباً وملعوناً: "كل القمصان لا تليق بي/ الكل أنا/ أريد غابة بعيدة/ تطاردني الأواني/ الصدأ يزرع الرعب في قلبي/ وجه لا أملكه/ سأغرق طويلاً/ رحلاتي روح غرفة"، يقول في نص "المرد الأحمر" من مجموعته "الروليت": "كل القمصان لا تليق بي أريد غابةً بعيدةً كلُّ أشجارها أنا. . أبدو غريباً، ملعوناً تلفظني أفواه الأطفال أمرد هو نواحي أضمّ إلى صدري بقعة انزواء". هذا الشاعر الذي انتمى إلى النصف الأسود من الحياة، ليشير إلى نصفها المفرح، كانّه حامل رسالة طرفة بن العبد الذي لولا ثلاث هنّ من لذة الفتى لم يحفل للموت، ورسالة أبي العلاء المعرّي، وإشارته إلى الموت الموازي للحياة، يترصدها ويتربص لصاحبها عند كل مفترق، وهو القائل: "رُب لحدٍ قد صار لحداً مراراً/ ضاحكٍ من تزاحم الأضدادا"، وعلي العندل هو الذي رأى الحياة موتاً ممتداً بين غيبوبتين، يستعجل العبور إلى عتبة الأربعين ليقول عن المساء "المساء يتساقط في غرفة مرعبة/ تلد المساءات خيبات المستقبل"، وعن الحبّ والعاشقة "فتاة قاتلة توقظك في الفجر/ فتاة قاتلة تلعب بخيوط المساء"، وعن الطفولة "طفلٌ قديمٌ يرتبك بالاحتفالات النارية/ الأطفال أظافر طويلة/ الألوان ألعاب مرعبة/ الانتحار يا طلقة الطفولة"، عن الأنا الشاعرة القاتلة والقتيلة معاً "أنا العطالة، لا نوم بعد/ الحصان لا زال يطرق الباب/ في المرآة وجه أحمق مرقط بخيوط العناكب/ في قلبك الزنزانة، والقيد في الرأس يعتلي/ أهمس في اذن الليل إني مريض/ الغرفة صفارة نفسي/ أنا المتجمد في هيكل التاريخ"، هذه الأنا التي "تلعب الروليت/ تخرج حاملاً صاحبها مسدسه وأصابعه المرتجفة/ كل يوم يرسم موته في قالب، ويصرخ في الآخرين: "لا أريد أحداً لسفك دمي/ أنا وحدي قادرٌ على الشراب الأخير"، هو يشير إلى الروح بالتجمد، بالجفاف، والرطوبة بالحمق، والتفاحة بالانفجار، والأصدقاء بالخيانات الدائمة، يقول في نص "المرد الأحمر" نفسه: "عندما أستفيق من غيبوبتي سأذهب إلى المقصلة وأدع رأسي بين يدي الجزار". هو الساخر من الحياة وأشيائها، في تسمية مجموعته الشعرية "الروليت" أو لعبة الموت الروسية كما يطلقون عليها، وهي اللعبة القتل للنفس بالانتحار الطوعي المجاني أو الواقع في الرهان، لكن الفارق هنا يكمن في ما يشتهيه الشاعر من موت جماعي لكل الأشياء، لكل الناس، لكل مخلوقات هذا الكون، ففي لعبة روليت الشاعر علي العندل "خمس طلقات للجمهور والسادسة لدماغي"، كأنه في "هزأة القلب" أو هو في تعرية حقيقية لتفاصيل مخبوءة من حزن وقلق، وأسئلة، ينتظر الربيع فلا يأتي، بل يعده بالنوايا القاصمة والغفوة الشيطانية، يقول في نصه من مجموعته الروليت، "إني أضحك": "أيها الجرذان افرحوا العالم جبنة ايها الحمير افرحوا العالم وجبة شعرٍ وخس".
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©