الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سيرة المنفى.. القلوب التي من حجر

سيرة المنفى.. القلوب التي من حجر
11 سبتمبر 2014 00:25
يصح في الهزيع الأخير من الليل العربي والهزائم والانكسارات أن نتدبر أمر وجودنا على هذه الأرض، وأين مكاننا فيها بعد أن صارت الأمكنة إشارات وعلامات ينقصها الوجود الإنساني. ما الشواغر والفراغات التي يملؤها وجودنا؟ وهل من سبيل لنتكيف مع إقاماتنا المؤقتة والطارئة التي سيطول انتظارنا فيها، كما طال انتظارنا لأمل ما قبل معرفتنا بها. تعددت الأسماء والمكان واحد منفى، مهجَر، مغترَب، منتبَذ، أسماء عدة لمدلول واحد هو المكان الذي يجد الإنسان نفسه فيه، ينفق أيامه محاولا التعاطي مع سياقات هذا المكان متعدد التسميات وواحد المدلول. إنه يغوص فيه كما في رمال تتحرك من تحت قدميه، أو يغرق فيه رويدا كمن يجتاز حاجز الماء ليختبر أعماقه قبل أن تتلقفه وتغيّبه، أو هي كالإيغال في حلم طويل لا نهاية له إلا في حلم مقابل يواصل طريقه صوب وجهته الغامضة والمختلطة في أضغاث كوابيس وأمنيات وأوهام صارت كلها أحلاما. في المنفى - المهجر المغترب تحف الدلالات والإشارات بالمصطلح. شعرياً كان البياتي أول من صرّح بالمنفى مكانا وأكثر من ذكره، ووضعه عنوانا لديوانه (أشعار في المنفى) وهو يتصادى في ذلك مع ديوان (أغنيات المنفى) لأبرز شعراء المنفى العالميين من معاصريه والمؤثرين في تجربته الشعرية، وهو التركي ناظم حكمت وصرخته الأشهر: يا لحياة المنفى من مهنة شاقة!، وستظل لازمة النفي والمنفى تتكرر لدى البياتي لأنه يعايشها حياتيا ويتمثلها شعريا، حتى تصبح قدرا لا يستطيع ردّه؛ فيتساءل في أبيات من مأثورات شعره: أوَ هكذا تمضي السنون؟ ويمزق القلبَ العذاب؟ ونحن من منفى إلى منفى، ومن باب لباب نذوي كما تذوي الزنابق في التراب تكبر المنافي ويكثر روادها ومقتحمو جحيمها المختفي وراء بريق فراديسها، ثم تصبح مأوى للسلامة من كمائن الأوطان وخساراتها. شعرياً يتطور مفهوم العيش في المنفى ويختلف عما كان يعانيه المهاجرون الأوائل البعيدون عن أوطانهم في مغترباتهم، كما تتغير الدوافع والمقاصد معا. لا يصبح المنفى مناسبة لبث الحنين للأوطان فحسب. صار للوضع الإنساني المعقد وتراكم الظاهرة وتوسعها انعكاسات شتى. وخلق الكتاب والشعراء يوتوبيات جديدة من مخيلاتهم عن الاغتراب، ثم صدمتهم في محيطها القاسي، وصار بعضها معبرا لمنفى آخر. رحلة أشبه بمعراج أو بكوميديا إلهية جديدة تتسلسل الأماكن هكذا: جحيم الوطن، ومطهر المنفى الأول، وفردوس المنفى النهائي أو المقصود. بهذا تكون نبوءة البياتي قد تحققت بعد تلك الأعوام؛ فقد وجد المثقف نفسه متنقلا من منفى إلى منفى، وعلى أبواب السفارات والهيئات والمنظمات، منتظراً قارب نجاة بعيدا عن نيران وطنه وبراكينه وزلازله. لكن العولمة خففت كثيرا من معاناة المَنفي / المغترِب / المهاجِر، فصار عبر الوسائط المتوفرة يعيش يوميات وطنه، ويمارس عمله الثقافي غير منقطع - كالرعيل المهجري الأول- عن ماضيه. لكن بذرة الإحساس بالانقطاع والنفي تظل في داخل المثقف المعاني تلك التشظية التي لم ينج منها الجميع. ماذا فعلت المنافي بالمثقف؟ وماذا فعل بها؟ الحامية الرومانية أحد الأسماء التي تطلق على عمّان. وفي هذه الحامية عاش عشرات المثقفين العراقيين بانتظار قبولهم لاجئين أو مهاجرين في بلد ما من أقاصي الأرض. يكتب شاعر عراقي هو هادي الحسيني المقيم منذ سنين في النرويج عن تجربة بقائه في عمّان منتظراً فردوسه الموعود. في المطهر العمّاني هذا يحدث الكثير مما يستعيده الحسيني في كتابه الجديد (الحياة في الحامية الرومانية - سيرة أخرى للمثقف العراقي) لكنه يروي سيرة الشظف والبرد والغربة ليس عبر ذاته فقط، بل عبر لقاءاته بالكثير من الشعراء والكتاب المقيمين هناك، أو العابرين صوب فراديسهم الافتراضية. إنه يكتب سيرة لهؤلاء المنتظرين فرصة نجاتهم. أغلبهم خاضوا الحروب المجانية وعانوا من الحصار الاقتصادي على العراق في التسعينيات. في غرفة صغيرة مستأجرة يعيش هادي حياة حافلة بالضنك المادي والخواء الروحي جراء البحث عن أي عمل يمنحه الحياة منتظرا. وسط ثلة من زملاء الشعر والأصدقاء تتسع لهم رقعة الغرفة الباردة في صقيع عمان ولياليها المقفرة؛ ليعرفنا على شعراء وكتاب مروا من هناك أو أقاموا. يطمح الحسيني أن يكون كتابه هذا تاريخا نحن بحاجة لترميم متاحفه رغم مرارته وآلامه، لا سيما وهو يبدأ من معاناته في الوطن قبل الرحيل، وعن عمره الذي أكلت أغلب سنواته حروب مات فيها كثير من أصدقائه حتى ليحس أنه خرج منها سهواً، وعاش ليهاجر بصبر قليل ونقود أقل ولكن برغبة في أن يبدأ حياة أخرى توهم أن المنافي تعطيه إياها. تستقبله ظلمة ليل عمان وبردها ونزوله بلا هدف في وسط البلد بحثاً عن مكان رخيص، أو بانتظار الصباح ليذهب إلى مقهى يلتقي فيه العراقيون، ومنهم أصدقاء له يحمل لهم رسائل وتوصيات ستعينه في العثور على عمل بسيط كبائع كتب، وخلال ذلك تتوالى لقاءاته بالشعراء والأدباء الذين بدأت الحياة تبعثرهم في جهات الأرض الأربعة. لقاء الحسيني بالبياتي كان الأكثر متعة وحيوية؛ فهو يلتقيه كل ليلة ويحادث ضيوفه وأصدقاءه، ويسهر معهم ثم يكمل سهرته بين أصحابه في الوجع والعوز، وأغلبهم من شعراء جيله. البياتي سيظهر في قلب الحامية الرومانية مخففا عن المهاجرين الجدد وطأة المنفى وغائلة الموت البطيء بلا نقود أو مأوى. لكن المفاجآت تترى وتهب الشاعر مزيداً من الصبر ليواصل انتظاره في المطهر الأردني. شخصيات كثيرة سيتحدث عنها لكن حياة الشاعر الصعلوك جان دمو في عمان، ثم هجرته كانت من أكثر اليوميات حرارة . فهذا الشاعر المتفرد بوهيمي حقيقي يعيش حياته بلا رياء وسط هذا القفر المادي والروحي في المغترب. وثمة أيام أخرى جميلة سيعيشها مع شعراء من أجيال شتى تذيب الغربة الفوارق بينهم، وتمنحهم الألفة التي تكسر حدة العيش غرباء عن أوطانهم. شعراء من جيله والأجيال السابقة: أكاديميون وشبان وحرفيون وعاطلون عن العمل يظلهم فضاء المقهى، ويقتسمون شرابهم وطعامهم كما يقتسمون همومهم وخيباتهم وعوزهم. وتدهشنا دقة التواريخ التي ذكرها الكاتب والحشد من الأسماء التي التقاها وشهد على حضورها ومعاناتها في المطهر ذاك. ولا تبعد السياسة كثيرا عن معاناة المثقف المنفي، فثمة تجمعات لمعارضين ومناضلين وأدعياء وطنية لهم صحفهم وسلطتهم. وكانت لهم حصة في اليوميات العمانية تفسر الكثير مما سيحصل للعراق من مآس ونكبات. سترة واقية من الحنين تقدم القاصة والروائية لطفية الدليمي منظوراً آخر للمنفى. إنها في (يوميات المدن) ترينا الوجه الثقافي للمغتربات والمنافي، وترصد الأمكنة مظهرة جمالياتها محتمية كما تقول بالحكي سترة مدرعة ضد الرصاص. في حقيبتي سترة واقية من النوستالجيا، تقول لطفية وهي تسرد حكايات ومشاهد من مدن عاشت فيها، لكنها ستعود بعد حين إلى عمّان هاربة من تلك الفراديس المصطنعة، راضية بالسير خطوة واحدة في ماراثون الغربة. أي تقترب من بغداد بعيشها ثانية في عمان. لم تنبهر بباريس: “لم أضعها في الحسبان ولم أحلم بها إلا وهجة نور نائية ومستحيلة”، وتصف لياليها في الفندق الباريسي بأنه عدم رغم اسم الفندق ذي الرنين السعيد: عدن!، تقول الكاتبة: “عدم يسمونه اصطلاحا اللجوء ويسمونه المنفى ويتعطفون عليه قليلا أو كثيرا فيسمونه التغرب، أو يضفون عليه سمة الخيار الواعي فيكون مهجراً، غير أنه يبقى ذلك العدم المقرون بالاقتلاع المرير والتشرد”. تلك الفقرة المطولة تعكس وعي الكاتبة بهذا القاموس الاغترابي، وما تتركه ظلال التسميات ووقعها الجارح. إنها المرأة الغريبة في المدن الغريبة، لا شيء ينجيها سوى الكلمات، كالحاكية الأولى شهرزاد التي اشترت بحكيها حياتها. بين مرائي المدن وجمالياتها تخبئ لطفية الدليمي اعتراضاتها مبثوثة بين الأسطر. ستعود لعمان إذن في رحلة عكسية من الفردوس المفترض في تلك المدن إلى محطة الأعراف والانتظار: عمان. لغتها في المدن الغريبة تهندس متاهة الاغتراب والتغرب كما تقول. المدن أكالة قلوب البشر! لذا فسوف تنكص من جولاتها في مدن الغرب لتنساق وراء حنينها الشرقي الذي لا تستره بعد سترة واقية. ستتذكر ما تركته وراءها من ميراث: كتب ولوحات وتذكارات. حقائب موزعة بين بيوت نزلتها وغادرتها. المنفي يؤسس كل مرة وجوده الرمزي في مكتبته التي سرعان ما تسكن الحقائب ثانية وتتنقل معه. لذا تقرر الكاتبة فجأة أن تعود لتجرب منفى أقل قسوة، تلاحقها فوبيا الاغتراب وتتخيل نهايتها ميتة بعد أن تعرضت للسطو وأدركت “أن لا مكان لها في هذه المدن ذات قلوب الحجر”. نداء من الأعماق يخترق دفاعاتها ويهبط بها حيث تستطيع أن تتنفس لغتها وتغني أغنياتها بصوت عال. فقد “تحررت من أغلال غربتها وعبودية المنفى”. . ندوب في الروح تتركها المنافي التي تتسع وتكبر كلما ازدادت الظلمات والخسائر والجراح.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©