الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
اقتصاد

دور «البارجيل» في تبريد «معهد مصدر» .. إلهام الماضي وابتكار المستقبل

21 نوفمبر 2010 20:53
بقلم : الدكتور عصام جناجرة الدكتور بيتر آرمسترونج يجسد البناء باستخدام هياكل البارجيل الخاصة بنظام التبريد في “معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا” تشبث مدينة مصدر بالإرث العريق لإمارة أبوظبي وتطلعها بثقة وطموح إلى المستقبل، كما يعكس حرص “مصدر” على الاستفادة من المعارف والخبرات والتقنيات المحلية لتستمد منها الإلهام في طريقها إلى غدٍ مشرق. في السابق، كان يجب زيارة المتحف أو القرية التراثية للاطلاع على أسلوب الحياة في أبوظبي قبل النهضة التي رافقت اكتشاف النفط. بيد أن الحال قد تغيرت اليوم حيث يمكن للمرء أن يأخذ فكرة عن الماضي العريق من خلال زيارة “مدينة مصدر” التي تعد نموذجاً فريداً على مستوى العالم من حيث التنمية المستدامة والنظرة المستقبلية. ومع أن الانطباع هو أن “مدينة مصدر” تقدم صورة عما سيكون عليه حال أبوظبي ومختلف مدن العالم في المستقبل، إلا أنه يصح أيضاً القول إنها تقدم صورة صادقة عن أسلوب التخطيط الحضري والهندسة المعمارية اللذين سادا في المنطقة لقرون طويلة. وتكفي جولة سريعة على المباني الستة الأولى من الحرم الجامعي لـ “معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا” لمعرفة أن جذور أبوظبي و”مصدر” تنهل من ينابيع الإرث العريق مع التطلع بطموح كبير إلى المستقبل. ويبدو بوضوح أن المعالم العمرانية التقليدية لأبوظبي هي النموذج الأساسي لمدينة مصدر، حيث نرى الشوارع الضيقة والمباني المتقاربة والنوافذ المظللة والممرات والجدران الخارجية والنوافذ الصغيرة والمزروعات الكثيفة التي تحد من تسرب الحرارة إلى داخل المنازل، فضلاً عن إمكانية التنقل بين أرجاء المدينة سيراً على الأقدام براحة تامة. ولم يأت هذا التصميم عن طرق الصدفة، فعند وضع المخطط الرئيسي لمدينة مصدر، تم استلهام تصاميمها من الإرث العمراني لدولة الإمارات العربية المتحدة، وذلك انطلاقاً من قناعة مفادها بأن الاطلاع على تاريخ التخطيط الحضري للمنطقة هو العامل الأساسي لضمان تحقيق الاستدامة في مدينة يجري بناؤها لتكون مجمعاً للطاقة المتجددة والتقنيات النظيفة وإحدى أكثر مشاريع التنمية المستدامة نجاحاً على مستوى العالم. وإلى جانب الملامح العمرانية التقليدية لتخطيط المدن، أدرك المصممون أن “البارجيل” يمثل أحد أبرز العناصر المميزة للعمارة المحلية، فضلاً عن دوره كنظام للتهوية والتبريد يستخدم منذ القدم في منطقة الخليج. وبالفعل، تم استخدام “البارجيل” في مدينة مصدر بأسلوب يمزج بتناغم كبير بين عراقة المدينة ومستقبلها، وذلك من خلال الابتكارات الفريدة. البارجيل لأجيال عدة، كان “البارجيل” الوسيلة الأمثل لمواجهة درجات الحرارة المرتفعة في أشهر القيظ. ويعمل البارجيل وفق مبدأ فيزيائي بسيط، فكلما اشتدت سرعة الرياح في الطقس الحار، أحس المرء بالانتعاش وازدادت قدرته على مقاومة الحر. وكان للبارجيل التقليدي غطاء وله منافذ متعددة الاتجاهات، حيث بإمكانه تعزيز التهوية الطبيعية في داخل المباني بطرق عدة. فعلى سبيل المثال، إذا كانت الرياح باردة، يمكن للمنفذ المواجه للريح التقاط النسيم وتوجيهه نحو الأسفل إلى داخل المبنى، أما إذا كانت الرياح حارة، فإن المنفذ المعاكس للاتجاه الذي تهب منه الريح يؤدي إلى تكوين تيار صاعد من خلال ما يعرف بظاهرة “كواندا” أو “الجرّ”. أما في الأيام التي تخبو فيها الرياح ويسكن الهواء، فإن ظاهرة “المدخنة الشمسية” تؤدي إلى فرق متدرج في مستوى الضغط يسحب الهواء الحار والأقل كثافة باتجاه الأعلى. ويضاف إلى ذلك أن الباراجيل المتطورة كانت تستخدم أثر التبخر لأغراض التبريد، حيث كان يتم تثبيت قضبان خشبية عليها قطع قماشية، أو كان يتم بناء بركة مياه في أسفل البارجيل، وعندما تمر الرياح فوق قطع القماش أو سطح المياه، كانت تحمل معها برودة منعشة إلى المنزل في الأسفل. وتم استخدام المبدأ التقليدي نفسه في تصميم البارجيل أو برج الرياح في مدينة مصدر، مع فارق أساسي وهو أنه مخصص لتلطيف الأجواء في الساحة الرئيسية ضمن معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا. وبطبيعة الحال، يستخدم البارجيل العصري أحدث المواد والتقنيات بما يسهم في تعزيز فاعلية البارجيل التقليدي. ويبلغ ارتفاع “البارجيل” 45 متراً ليبرز بوضوح فوق مباني معهد مصدر ذات الطوابق الأربعة التي تحيط به من كل جانب، وتسهل رؤيته عن بعد من خارج مدينة مصدر، خاصة في الليل حين تشع الأنوار التي تم تزويده بها. أسلوب العمل يتكون “البارجيل” من هيكل فولاذي مقوس قليلاً بحيث يشد الأنظار إلى الأعلى. وفي قمة البرج، توجد تسع كوات تفتح أتوماتيكياً في الاتجاه الذي تهب منه الريح وتغلق الاتجاهات الأخرى، وذلك من أجل التقاط أكبر قدر ممكن من الرياح. ومن ثم ينساب الهواء نحو الأسفل عبر غشاء من مادة “PTFE” أو ما يعرف بـ “التيفلون”. وبحسب عوامل درجة الحرارة ومستوى الرطوبة وسرعة الرياح، تعمل مولدات للرذاذ في قمة البرج – على غرار نموذج قطع القماش المبللة بالماء - من أجل خفض درجة حرارة الهواء عبر التبريد بواسطة التبخر. ويؤدي نظام التبريد بواسطة التبخر وتنشيط حركة الهواء عند مستـوى الساحـة في خفض درجات الحرارة وإضفاء شعور بالانتعاش والراحة. وحتى في الأيام التي تسكن فيها حركة الرياح، يقوم “البارجيل” بتوليد نسمات خفيفة من خلال تيار هابط ينشأ عن تشغيل رذاذ البخار في أعلى البرج. فمن خلال التبريد بواسطة التبخر، يتحرك الهواء البارد هابطاً نحو الأسفل ويتدفق باتجاه الساحة. وتم تزويد “البارجيل” بالعديد من المستشعرات وأجهزة المراقبة، بما في ذلك أدوات لجمع بيانات الطقس مثل درجة الحرارة والرطوبة وسرعة الرياح، إضافة إلى أجهزة لقياس جودة الهواء. وسيقوم أساتذة وطلاب “معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا” باستخدام هذه البيانات في العديد من مشاريع الأبحاث. وتستفيد ساحة “معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا” بأوجه عدة من التبريد الإضافي الذي يوفره “البارجيل”، فهي مركز تجمع رئيسي للأنشطة الاجتماعية والترفيهية بالنسبة للمعهد. وستسهم النسمات في تلطيف الأجواء وتعزيز الراحة لرواد المقاهي الخارجية والمتسوقين من متاجر التجزئة وكل الموجودين في الساحة العامة التي تعد محور النشاط الرئيسي في المعهد، وذلك نظراً لوجود العديد من المرافق والخدمات بالقرب منها، مثل المُصلّى والنادي الرياضي ومقهى المنتجات العضوية ومصرف والعديد غيرها. الابتكار يعد “بارجيل” معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا ثمرة للابتكارات والأبحاث المكثفة في مدينة مصدر، حيث كان تصميمه وبناؤه تجربة قدمت الكثير من الدروس المفيدة. وفي البداية، تم اقتراح نموذج مختلف للبارجيل، إلا أن النماذج الحاسوبية وغيرها من وسائل الاختبار والتجريب أثبتت عدم ملاءمة الاقتراح الأول للموقع الجغرافي لمدينة مصدر، وتم البدء بالعمل والأبحاث التي أسفرت عن التقنية المعتمدة في النموذج الحالي والتي أعطت نتائج مشجعة. وبما أنه النموذج الأول من نوعه، ستجري دراسة بارجيل معهد مصدر لاختبار فاعليته ضمن مختلف ظروف الطقس في الإمارة. وسيتم استخدام النتائج في تطوير نماذج مستقبلية من الباراجيل في مختلف أنحاء مدينة مصدر، وبمرور الوقت، على نطاق أوسع. تعزيز الوعي بالتنمية المستدامة يقوم بارجيل معهد مصدر بوظيفة إضافية تتمثل في كونه مؤشراً عملاقاً لمستوى أداء المعهد من حيث الاستدامة، وذلك عبر الإضاءة. وتعمل هذه الميزة من خلال المراقبة المستمرة للأداء الإجمالي لمباني المعهد وقاطنيها من حيث استهلاك الطاقة بواسطة نظام ذكي للمراقبة يتيح إمكانية إجراء التعديلات الضرورية، حيثما كان ذلك ممكناً، بغرض تحقيق الاستخدام الأمثل لهذه الموارد. ويتم استخدام نتائج المراقبة ومقارنتها مع الأهداف المحددة للتصميم والأداء التشغيلي، وبناء على ذلك يتحدد لون إضاءة البرج، حيث يستخدم لون محدد عندما يكون الأداء عالي الكفاءة، ولون مختلف عند تدني الأداء عن المستوى المستهدف. وعلاوة على ذلك، تتوافر جميع هذه البيانات على لوح مراقبة تفاعلي عند قاعدة البارجيل، بما يتيح معرفة أقسام المباني التي تحقق الأهداف المنشودة، وتلك التي لا تلبيها، والجوانب التي يمكن تعديلها لتحقيق الأهداف. ومن شأن ذلك أن يشجع سكان المدينة على تعديل سلوكهم في استهلاك الموارد للمساهمة في الارتقاء بكفاءة المباني وتغيير لون إضاءة البارجيل. وتعد هذه الميزة مؤشراً عملاقاً للنشاط الجاري على نطاق واسع في المباني السكنية والمكاتب المحيطة بحرم المعهد، ومستقبلاً، في جميع أنحاء المدينة، حيث تتيح أجهزة قياس ذكية للأفراد معرفة استهلاكهم من المياه والكهرباء. ويتلخص الهدف من ذلك في أنه عندما يمتلك الناس معلومات دقيقة حول استهلاكهم، فإن هذا يعزز وعيهم ويدفعهم إلى العمل على خفض الاستهلاك وتحسين مستوى الاستدامة في المدينة بشكل عام. رمز للإبداع يعد “بارجيل” معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا مثالاً واحداً من مئات الحالات في مدينة مصدر التي تجسد الابتكار في مجال التقنيات النظيفة والتنمية المستدامة، والتي تجمع بين التقنيات والخبرات وأفضل الممارسات في دولة الإمارات العربية المتحدة ومختلف أنحاء العالم. وبما أن مدينة مصدر تستقطب أبرز الشركات العالمية لتأسيس مقرات لها وإجراء الدراسات والأبحاث، فإن الخبرات المكتسبة والتطورات الناتجة ستسهم في تحقيق الأهداف العامة لأبوظبي في التنويع الاقتصادي والالتزام ببناء اقتصاد مستدام قائم على المعرفة. ويعد بارجيل معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا نموذجاً مصغراً عن مدينة مصدر من حيث إبراز ملامح الهوية الإماراتية المحلية، فضلاً عن تقديم قدوة للعالم أجمع حول العمل على خفض الأثر البيئي. ويرجع ذلك إلى أن البارجيل يقدم دليلاً على أن التاريخ والخبرات والمعارف التقليدية قادرة على تحقيق أفضل النتائج والحلول والابتكارات عندما تقترن بالتقنيات الحديثة. وهذا ما تعكف مدينة مصدر على تحقيقه، وهو الالتزام بالقيم المحلية الأصيلة ضمن بيئة عصرية. * أستاذ مساعد في معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا **أستاذ مساعد – الهندسة الميكانيكية، معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©