الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تجارب على مشرحة التنظير

تجارب على مشرحة التنظير
25 أغسطس 2011 01:12
في حلّة فاخرة وأنيقة، وبإصدار مشترك بين مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب ومختبر الدراسات حول القصة والترجمة، صدر كتاب “في نظرية القصة: مقالات مترجمة”. ويحتوي هذا الكتاب على أهم الدراسات والأبحاث التي كتبت عن القصة القصيرة بأقلام كبار كتابها والمنظرين لها من مختلف أنحاء العالم. كتاب نجد فيه مقالات عميقة تسلط الضوء على القصة القصيرة، وتعرف بتقنية كتابتها، والاقتراب منها وسبر أغوارها من بينها: “نظرية القصة في الديكاميرون” لجيرالومو بارغالي، “من الحكاية إلى القصة: أشكال بسيطة وأشكال عالمة” لأندري جولس، “حول نظرية النثر” لبوريس إيخنباوم، “الصوت المنفرد” لفرانك أوكونور، “الأدب الفانتاستيكي” لخورخي لويس بورخيس، “حدود إدغار ألن بو” لتزيفيتان تودوروف، “القصة والرواية” لألبرتو مورافيا، “تأملات في الكتابة القصصية” لخوليو كورثازار، “خيط “أوريانا”: بين بو وبورخيس” لجون إرفن، “قضايا عامة حول القصة القصيرة” لباتشكيو وليناريس، “من بودلير إلى بو” لدانييل غروجنوفسكي، “ما تحكيه القصة” لخوان مياس، “من أجل قراءة أضمومية للمجموعة” لروني أودي، “لماذا يكتب كافكا القصص؟” لدولوز وغوتاري. وللكتاب أهميته، لأنه يقدم مجموعة من المقالات موضوعها النظر في القصة نظراً يعكس جوانب من النشاط التنظيري والفكري بصدد فن أدبي حديث، رؤية وأساليب وأفقاً جمالياً. يقول معدا الكتاب الأستاذان مصطفى جباري وعبد المجيد جحفة “إنها نظرات في القصة نتساءل عن ماهيتها وكيفيتها، تنحو إلى الشمولية، وتندرج ضمن النظرية الأجناسية، وتقارب بنيات تراوح بين التاريخي والاجتماعي والفني والجمالي، وتتخذ منظورات تراوح بين الموضوعي الواصف، وبين الذاتي التجريبي”. ويضيفان: “لم يكن تجميع دراسات هذا الكتاب لهدف التجميع في حد ذاته، مع طرح السؤال “هل يمكن إعادة النظر في منتجاتنا من هذا الشكل التعبيري انطلاقاً من الصورة التي أنشأها “الآخر” لهذا الشكل الأدبي في مجاله الخاص؟ القصة شكل تعبيري وقع تأصيله في حياتنا الأدبية بآليات منها ما هو مدرك بالنسبة لنا، ومنها ما ليس مدركاً بعد. ولاشك أن استكمال وعينا بإشكالية التأصيل والتجنيس لا يمكن أن يتم إلا بمثل التجارب التجنيسية والتأصيلية التي غذت أعمال الحداثة الأدبية في المجال الغربي والأوروبي خاصة. وقد يقول البعض، ما حاجة القصة إلى نظريات، وقد جربنا كيف خنقت النظريات روح الإبداعية في كثير من الأشكال التي طالتها؟ لكن عوامل التدهور لا تكمن في النظرية، وإنما في محدودية أفق مستعملها، وأحادية تلقيه. إن السيرورة التاريخية والتطورية تقتضي وقفات للقيام بنمذجة ما تراكم من ممارسة، وشدّ هذه الممارسة إلى أفق البحث عن أشكال جديدة، وبالتالي تجديد النمذجات”. خوسيه مياس من هذا الكتاب يقربنا خوان خوسيه مياس من القصة القصيرة معتبراً إياها، في مقالته “ما تحكيه القصة” ترجمة حسن بوتكي “وحدة سردية غريبة تجعل منها استقلاليتها، من جهة، وحركيتها، من جهة أخرى، جنساً غير مريح لدى واضعي القواعد والسنن. ولا تعدو أن تكون، في كل الكتب المتخصصة حول الأدب، ملحقاً للرواية وذيلا لها يتم تناولها في أسطر قليلة عادة ما تشير فقط إلى خاصيات مثل القصر والدقة والوضوح. بعض هذه الكتب ـ التي ليست قديمة جداً ـ يصل بها الأمر إلى أن تطلب من القصة أن تقوم بوظيفة تمثيلية، لا غير. لابد أن هذا الخلط نابع من طبيعة مصطلح القصة نفسه ذي المعاني المتعددة: فكلمة قصة نستعملها للتعبير عن الحكاية الشفوية والمكتوبة، لكن أيضا للتعبير عن الرواية القصيرة، والسرد القصير والحكاية الخرافية. بالإضافة إلى ذلك، فالقصة ـ التي هي في آخر المطاف سرد ـ تتجول منذ القدم في كل الأجناس. بما فيها جنس الخطابة، وبالتالي ليس من السهل القبض عليها داخل حدود مسبقة وجعلها تخضع لجمود يمكن من وصفها داخل ما يمكن أن يشكل مميزاتها الخصوصية. ربما أيضاً لأن تلك الخصائص لا وجود لها، أو لأن لها قدرة على التغير تنعدم لدى أجناس أخرى. سمات القصة الخاصة هي، في نهاية الأمر، الخصوصيات التي يمكن أن تنسب إلى الأدب عموماً. ورغم ذلك، فإان كل كاتب يعلم أن كتابة قصة تستلزم مواقع وأسلحة مختلفة جداً عن تلك التي يقتضيها تحرير رواية”. ويُتواصى بها كجنس للتدرب يمكن “الإقلاع” منه نحو مشاريع ذات رفعة أكبر. ويضيف خوان خوصي مياس قائلاً “لنقل، منذ البداية، إننا، في جميع الأحوال، نتحدث هنا عن القصة الأدبية، أي تلك التي نميل لجعلها مماثلة للرواية القصيرة. قصة مجردة، إذن، من كل غاية ديداكتيكية، وذات طبيعة أسطورية (بالمعنى الذي تكون فيه الأسطورة قادرة على ترجمة شيء عام يخصنا جميعاً)، ليست لا أكبر ولا أصغر من تلك التي يمكن أن تعم الأدب الحديث بشكل عام. إن أول ما يفاجئنا، ونحن نقترب بحذر من هذه الوحدة السردية، اعتبارها الاجتماعي، إذا جازت هذه العبارة، فقد نسمع بعض الأساتذة يجزمون بأن أي أدب وطني لن يبلغ درجة النضج إلا إذا كان يتوافر في قائمة منتجاته على مجموعة من الروايات الجديرة بالتقدير. تصنف القصة، عموما في مرتبة أقل بالمقارنة مع الرواية، ويُتواصى بها كجنس للتدرب يمكن “الإقلاع” منه نحو مشاريع ذات رفعة أكبر. ومن جهة أخرى، يأتي مصطلح “قصة” في كثير من أمثالنا المتداولة محملاً بمعان قدحية. إن ثنائية رواية/ قصة، بغض النظر عن أنها قديمة، مازالت رائجة بشكل مذهل، وغالباً ما تميل فيها الكفة لصالح الرواية رغم أننا يمكن أن نستقي من التاريخ نماذج بسيطة، في متناول أي كان، تبين أنهما فضاءان سرديان مختلفان، بل أيضا إن القصة أثرت في الأدب المعاصر تأثيراً كبيراً، بحيث لا يمكن تنحيتها واعتبارها جنساً معوقاً غير قادر على إضافة اكتشافات ذات قيمة جديرة بالتقدير سواء من حيث المحتويات الشكلية أو الموضوعاتية. فالجنس البوليسي، مثلاً، الذي لا يشك أحد في الإضافات التي قدمها للأدب المعاصر، وُلد في شكل قصة قصيرة ثم داخل هذه البنية تطور حتى بلغ ما بلغه من تخييلاته الكبرى. شيسترتون نفسه كان يرى أن هذا الجنس هو الأكثر ملاءمة لتطور حبكة بوليسية، لأن قصره، الذي يفرض أن لا ينقص شيء ولا يزيد، يسهل بلوغ الكثافة التي ينبغي توافرها في هذا الصنف من الحكايات. دولوز وغواتاري أما المفكران الفرنسيان جيل دولوز وفيليكس غواتاري، فيجيبان على سؤال: لماذا كان كافكا يكتب القصص؟ (ترجمة محمد آيت حنا)، ويعتبران أن قصص كافكا “هي بالأساس قصص حيوانيّة، وهذا على الرغم من أن القصص لا تتضمن كلها حيوانات. ذلك أن الحيوان، بالنسبة لكافكا، يوافق بامتياز موضوع القصة: محاولة إيجاد منفذ، ورسم مسرب من مسارب الهرب. (وهو الموضوع) الذي لا تكفي الرسائل لتحقيقه، لأن الشيطان، وإبرام الميثاق مع الشيطان، لا يمنحان مسربا للهرب، بل قد يوشكان، على خلاف ذلك، يُلقيان بنفسيهما، بنا في الفخ”. إن قصصاً مثل “الحُكم” أو “المسخ”، هي قصص كتبها كافكا في الوقت نفسه الذي بدأ فيه مراسلة “فيليس”، سواء بهدف تصور الخطر أو بُغية مصاحبته: فلعل من الأفضل كتابة قصص مُحكمة الإغلاق وقاتلة، بدل أن يدفعه للفرار أو يأسره، وتلك التي اقترحها الحيوان على الإنسان، إذ ينبهه إلى منافذ وسبل هرب ما كان الإنسان ليهتدي إليها وحده (شأن الهرب الفصامي)، وكل واحدة من العمليتين تظل ملازمة للأخرى، وتعمل على تسريعها، وتُعينها على تجاوز عتبة. فليس ما يهم قطعا هو البطء النسبي الذي يَسمُ الصيرورة ـ الحيوان، لأنها مهما تكن بطيئة، وبقدر ما تكون بطيئة، ليست درجة أقل للتحرر المطلق من الموطن الذي يُنجزه الإنسان، قياسا إلى حركات التحرر النسبية من الموطن التي يُنجزها (الإنسان نفسه) على نفسه، إذ ينتقل من مكان لآخر، إذ يسافر، فالصيرورة ـ الحيوان هي سفر ساكن ومقيم في مكانه، سفر لا يمكن أن يُعاش أو يُفهم إلا باعتباره كثافة (باعتباره تجاوز عتبات كثافة). وليست الصيرورة ـ الحيوان مجازاً على الإطلاق. إنها لا تنطوي على أية رمزية ولا أية استعارة. كما أنها ليست أكثر من ذلك نتيجة خطأ أو لعنة، ليست أثر إحساس بالذنب. فمثلما يقول ميلفيل عن الصيرورة ـ الحوت التي يصير إليها القبطان أشاب، إنها “بانوراما” وليست “إنجيلا”، إنها خريطة كثافات. إنها جملة من الحالات، المتميزة بعضها عن بعض، التي تلتصق كلها بالإنسان إذ يبحث عن منفذ. إنها مسرب هرب خلاق، ليس يسعى إلى أن يقول شيئا آخر غير ذاته. وعلى خلاف الرسائل لا تترك الصيرورة ـ الحيوان أي اثر لثنائية ذات التلفظ وذات الملفوظ، وإنما تشكل مسارا واحدا، سيرورة واحدة تحل محل الذاتية. بيد أن الصيرورة ـ الحيوان إن كانت تشكل موضوع القصة بامتياز، فإنه ينبغي لنا التساؤل عن عدم كفاية القصص بدورها. إذ يبدو أن القصص تخضع لنوع من التبادلية التي تحكم عليها بالفشل من الجهتين، من وجهة نظر مشروع كافكا، وذلك بغض النظر عن مدى روعتها من الناحية الأدبية. فأما أن تكون القصة، في الواقع، تامة وكاملة، ولكن تنتهي بالانغلاق على نفسها، وأما أن تنفتح على شيء آخر لا يمكن أن يتطور إلا في رواية، هي نفسها لا تكتمل. في الافتراض الأول تواجه القصة خطرا مختلفا عن ذلك الذي تواجهه الرسائل، لكنه يناظره نوعا ما. فقد كانت الرسائل تخشى ارتدادا (جزرا) موجها شطر ذات التلفظ (الذات المُرسِلة)، في حين تصطدم القصص من جهتها، بـ “انعدام ـ منفذ” للمنفذ الحيواني، بدرب (طريق مسدود) لمسرب الهرب (ولهذا السبب نفسه تكتمل القصص، حين تُحقق هذا الهرب). ومن المؤكد أن لا علاقة للصيرورة ـ الحيوان بحركة ظاهرية وكفى، مثل تلك التي تنطوي عليها الرسائل: فمهما تكن هذه الصيرورة بطيئة، يظل التحرر من الموطن فيها مطلقا بالفعل، ومسرب الهرب مبرمجاً بالفعل، والمنفذ مفتوحاً بالفعل. لكن ذلك يتم على صعيد قطب واحد فحسب. فمثلما تملك البيضة، بالقوة، قُطبين فعليين، تحوز الصيرورة ـ الحيوان بدورها قطبين فعليين، قطب حيواني بحصر المعنى، وآخر عائلي. ولقد رأينا، في الواقع، كيف ينوس الحيوان متذبذبا بين صيرورته الذاتية اللاإنسانية وصيرورة عائلية مفرطة في الإنسانية: هكذا يُلفي كلب البحّاثة نفسه متحررا من موطنه، في البداية، بسبب الكلاب الموسيقية، ثم يُعاد توطينه، وإخضاعه لـ (مركّب) أوديب، من طرف الكلب المغني في نهاية القصة. فيظل ينوس بين “علمين” يلتمسان عون علم ثالث من شأنه أن يخرجه من هذا المطب (لكن هذا العلم الثالث لن يكون موضوع مجرد قصة، وإنما سيتطلب كتابة رواية). وأيضاً: كيف يمثل انمساخ غويغوار قصة إعادة إخضاع لأوديب تقود البطل إلى الموت، قصة تجعل صيرورته ـ الحيوان صيرورة موتاً. ولا ينسحب ما سبق على الكلب وكفى، وإنما تنوسُ بقية الحيوانات جميعها بين إيروس فصامي وطاطانوس أوديبي. ومن هنا بوسع المجاز، مع ما يرافقه من حاشية متمركزة على الذات الإنسانية، أن يتسلل. إن القصص الحيوانية هي، اختصار، جزء من أجزاء آلة التعبير، متميز عن الرسائل، بما أنها لا تعمل على مستوى الحركة الظاهرية، أو مستوى ذاتين متمايزتين (...) إن الصيرورة ـ الحيوان تعين بالفعل منفذا، وتخطّ بالفعل مسرب هرب، بيد أنها تظل عاجزة عن أن تتبعه أو تستقله (إن “الحُكم” تظل، بالأحرى، قصة أوديبية، قصة يعرضها كافكا كما هي: الابن الذي يذهب إلى حتفه حتى أن يصير حيوانا، ودون أن يستطيع تطوير انفتاحه على روسيا). مورافيا والمتغيرات أما الروائي الإيطالي الشهير ألبيرتو مورافيا، فيرى في مقالته :”القصة والرواية” ترجمة مصطفى جباري أن “القصة كجنس أدبي متميز ومستقل بقواعد ومعايير خاصة، تعد عملا مستحيلا”. فالقصة، برأي مورافيا، “هي في ذلك أكثر من الرواية، تقدم خصائص جد متغيرة: إنها تراوح بين المحكي على النمط الفرنسي، سرد طويل بشخصيات وأوضاع تحيل على الرواية أكثر، وبين قصيدة النثر، والحكاية، والنص الغنائي. ومع ذلك فالقصة توجد كمحكي متخيل لا صلة له بالرواية في شيء، وبعبارة أخرى، لا يمكن محاولة تعريف تقريبي إلا بفحصها بالنسبة لأختها الكبرى: الرواية. وبالمقارنة مع الرواية، نظن أننا سنكتشف بعض الخصائص الثابتة التي يمكنها، رغم أنه ليس لها طابع المعايير أو القواعد، أن تفسر لنا كيف أن القصة تشكل في النهاية جنسا في ذاته، لا صلة له بالرواية ولا بأي عمل سردي في نفس حجمها”. ويضيف مورافيا قائلا “لنلاحظ أن كتاب القصة المعتادين على التعبير في حدودها، وتبعا لقواعد النوع غير المحددة بوضوح، يستطيعون بصعوبة كتابة رواية حقيقية وجيدة. لنأخذ مثالا كاتبين كبيرين للقصة في نهاية القرن التاسع عشر، موباسان وتشيخوف. هذان ساردان تركا لنا مجموعات من القصص تمثل لوحات واسعة ولا قرين لها، عن الحياة في فرنسا وفي روسيا هذه الفترة. عالم موباسان أوسع وأكثر تنوعا من عالم معاصره فلوبير، وعالم تشيخوف أكثر سعة وتنوعا من عالم سلفه دوستويفسكي، حتى أنه يمكننا القول، بعد إمعان النظر، أنه بينما يمتح موباسان وتشيخوف مختلف المواقف والأوضاع والشخصيات من مجتمع عصرهما، فإن فلوبير ودوستويفسكي، على العكس من ذلك، لم يعملا في العمق إلا على إعادة كتابة الرواية نفسها بنفس المواقف، وحتى بنفس الشخصيات تقريباً، مثل بعض الطيور المتوحدة التي تعيد دون كلل نفس الصرخة، بأمانة دالة ومن دون توقف”. ويصف مورافيا “بوكاتشو” بأنه “أكبر كاتب قصص في كل الأزمنة والأمكنة، نفس المثال عن التنوع العجيب والغنى مقارنة بدانتي. لو لم يكن لدينا إلا الكوميديا الإلهية، بصورها القوطية الثابتة المحفورة في جسد القصيدة، لكانت معرفتنا أقل دون شك، بحياة فلورنسا أو إيطاليا والعصر الوسيط عموما. بوكاتشو على العكس، هو مصور هذه الحياة غير القابل للتقليد. وفي الديكاميرون، على عكس الكوميديا الإلهية، كل شيء مسرود بدقة من أجل تصوير كامل لهذه الحياة، دون هدف إلا الكشف عن غنى وتنوع هذه الحياة”. لكن مورافيا، يرى أن موباسان وتشيخوف حين “ينكبان على الرواية أو المحكي الطويل، لا يجدان نفس القدرة على الابتكار، ويبدوان أقل إقناعا مما هما عليه في القصة. قصة “بيل أمي” لموباسان، وبعض محكيات تشيخوف التي هي روايات تقريبا، لا تذكرنا كثيرا بروايات حقيقية، بقدر ما تعطي الانطباع بكونها قصصا منفوخة، ممططة، متحللة، مثل بعض جداريات الرسامين المعاصرين التي ليست في الواقع إلا لوحات مكبرة بشكل مبالغ فيه. وفي روايات تشيخوف وموباسان ومحكياتهما الطويلة نستشعر غياب هذا الشيء الذي يجعل من رواية رواية، حتى وإن كانت رواية رديئة. يمطط تشيخوف في حبكات مجانية ودون ضرورة داخلية، مركّزة شعوره الغنائي، ويعطينا موباسان سلسلة من اللوحات المقطعة، مرئية بالطرف الغليظ لعدسة مكبرة. (أي أنه يعطيها من الأهمية أكثر مما تستحق)، مشدودة إلى بعضها البعض، فقط، بحضور الشخصية الأساسية. وبهذا الصدد، يمكن ملاحظة كيف أن المزايا التي تجعل من هذين المؤلفين كاتبي قصة كبيرين، تصبح نقط ضعف كلما واجها الرواية. البعض سيلاحظون أن الأمر يتعلق بتقنيات مختلفة، وأن تشيخوف وموباسان، بكل بساطة لم يمتلكا في العمق تقنية الرواية. ولكن هذه الملاحظة تكتفي بتسمية الإشكال باسم آخر، ولا تحلله. إن التقنية ليست في الحقيقة إلا تجليا للمزاج الإبداعي ولشخصية الكاتب إجمالا. وتقنية تشيخوف وموباسان لا تتلاءم مع الرواية لأن هذين الكاتبين لم يستطيعا قول ما سعيا إلى قوله إلا في القصة ومن خلالها. وهكذا نعود إلى نقطة انطلاقنا. فما الذي يميز القصة من الرواية؟ الاختلاف الأساسي اختلاف في البناء، في بنية السرد. لقد كتبنا وسنكتب دائما روايات من كل صنف، يمكن أن تدحض ما سنقوله، بحكم غرابتها، واعتماد بنائها على التنويع وقلة العناية بالتجربة، ولكن الروائيين الكلاسيكيين الذين بأعمالهم صنعوا النوع: فلوبير ودوستويفسكي وستندال وتولستوي، وبعدهم بروست وجويس ومان، موجودون ليبرهنوا على أن بعض الخصائص المشتركة توجد مع ذلك. وأهم خاصية هي حضور ما نسميه الإيديولوجيا، أي ذلك الهيكل العظمي الخطاطي الذي حوله يأخذ جسد السرد صورته. للرواية عموما نسيج عظمي يشدها من رأسها إلى قدميها، لكن القصة منزوعة العظام. الكتاب، هو من المنشورات المتميزة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، الدار البيضاء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©