الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحلة إلى البلاد الواطئة

رحلة إلى البلاد الواطئة
21 أغسطس 2013 20:02
يضعنا الشاعر السوري فرج بيرقدار منذ عنوان الكتاب “الخروج من الكهف: يوميات السجن والحرية”، في فضاء التجربة التي يقدمها في كتابه الصادر ضمن سلسلة الرحلة المعاصرة، والذي فاز عليه بجائزة مركز السويدي لأدب الرحلة في أبوظبي عن هذا النوع من أدب الرحلة. العنوان الثاني يأتي لكي يفسر ويوضح معنى الكهف في العنوان الأول الذي هو السجن بعد أن يضعه في علاقة تقابل ضدِّية مع مفهوم الحرية، ما يحدد للمتلقي منذ البداية الفضاء الذي تتحرك فيه هذه التجربة الخاصة التي يقدمها الشاعر في هذا الكتاب على أكثر من مستوى: السجن والحرية، والشرق والغرب على ما بين هذه الثنائيات من تباينات ومفارقات تكشف عن المعنى الإنساني والاجتماعي للحياة في مجتمعين وثقافتين مختلفتين تماماً. بين مكانين رحلة الشاعر من شرق المتوسط إلى مجاهل الأرض الواطئة كانت بدعوة من مؤسسة شعراء من كل الأمم الهولندية، وهي تفتتح لحظة تدوينها من تلك المسافة الملتبسة بين السماء والأرض، حيث تبدو الأخيرة وكأنها لوحة مرسومة بدقة، أو قطعة من جنة يستعد آدم العربي للهبوط عليها من سماوات خيال سجنه المثقل بالسواد. اللحظة المفارقة التي يشكلها اختراق المكان والتحليق في فضاء غرب المتوسط عند الشاعر وزوجته الروائية منهل السراج، ليست مجرد فاصلة زمنية في حياتيهما، بل هي ترتبط بمسألة أكبر وأعمق تتمثل في رمزية المكان بما يمثله من نمط حياة وقيم ثقافية وإنسانية وحقوقية تضعهما كما وضعت بطل شرق المتوسط عند وصوله إلى سواحل المتوسط الغربية أمام لحظة صادمة: الحرية والنظام والجمال مقابل الاستبداد والفساد والقبح. لكن الشاعر هنا لا يرمي بجواز سفره قاطعا كل صلة بعالمه القديم، وإنما يقيس المسافة الفصلة بين العالمين بالروح المنهوبة ووجع الاختلال الفادح بين النقائض. الهبوط الأخير يستيقظ الكهف عند الشاعر كمعادل رمزي للسجن أو للوطن ـ لا فرق ـ مقابل مساحة الدهشة التي ترسمها عين تتنزه في أرض الجمال والحرية والضباب والمطر الداهم مرتبكة في أسئلتها الموجعة بين الهنا والهناك، غرب الشرق وشرق الغرب، وما تثيره حالة الاشتباك بينهما من مقارنات صارخة، تفضح مأساة الشرط الإنساني الذي تعيشه الذات في جمهوريات الرعب: “في الحقيقة كانت ذاكرتي منهكة بصور ومقاربات كثيرة بين سوريا وهولندا، بين السجن والحرية، بين وضعي هناك محروماً من حقوقي المدنية والسياسية وبين وضعي الآمن والمرحب به”. هنا آدم المعاصر يعيد بناء حكايته على صورة مغايرة يغدو فيها الهبوط في الجنة مقابل الهبوط من الجنة، ويا لها من مفارقة عجيبة يتنازعها حرف جر واحد، لتصبح للحكاية رواية أخرى وراو مختلف هو بطلها الذي يقترف خطيئته بدلاً من حواء. في هذا العالم كل شيء مختلف في تفاصيله وإيقاعه ودلالاته وعلاقاته وألوانه من رمزية البومة التي يحمل اسمها الفندق الذي تجري استضافتهم به حتى سلوك الناس في الأماكن العامة والحياة المحكومة بالحرية والجمال؛ لذلك يظل الشاعر في رحلته موزعا بين زمانين ومكانين، يذكره أحدهما بالآخر باعتباره النقيض المختلف عنه في الجوهر: “لا أدري لماذا انعطفت بي ذاكرتي إلى سنوات السجن حيث كنا معاً، عدد من الفنانين الموهوبين الذين شكلوا ألوانهم ولوحاتهم من رماد السجائر ومساحيق حبوب الأدوية ومعاجين الأسنان والورق والعجين وأحياناً مما يتوافر لهم من دمائهم أو دماء أصدقائهم”. الخطوات الأولى في هذا العالم الغريب والمسكون بالمودة وحنين الغريب إلى الغريب تختلط الوجوه والأسماء واللغات في يوميات الشاعر، سوريون ومصريون وفلسطينيون ومغاربة وهولنديون. كل شيء منظم ومدروس وبسيط في آن معاً، لكن لا بد للقادم الغريب في أيامه الأولى من التعرف إلى الأشياء والعالم المحيط به. يستعين الشاعر على هذه المهمة بصديقه الكردي وزميل سجنه الذي سبقه إلى هولندا للتعرف إلى معالم المدينة وأسواقها و«سوبرماركتاتها» الهولندية والتركية والمغربية والعراقية، وإلى دار البلدية، وللقيام بإجراءات الإقامة حيث كل شيء هنا منظم وبيروقراطي ويتم بالمراسلة. الاختلاف الذي يجده لا يقتصر على العلاقات والنظام وطبيعة الحياة وسلوك الناس، بل يمتد إلى الطبيعة التي يكتشف جمالها بعين الشاعر. لكنه وهو الموزع بين عشق المدينتين يحاول أن يعيد تشكيل ملامح كل منهما لكي تصبح إحداهما وجها للأخرى أو دليلا إليها: “ليدن لي وحدي. أعيد تشكيلها لتشبه مدينة حمص أيام الطفولة، بل أعيد تشكيل حمص على هيئة ليدن، ولا سيما في هذه الليلة التي يستحم بها كل شيء. ليدن مدينة صافية النية، قريبة جداً من القلب، وقريبة جدا من بحر الشمال سبعة كيلومترات فقط ولا بد لها أن تتمتع بحصة وافرة من حق الجيرة. ألا نتمتع بحن بحصة وافرة أيضا من حق جيرتنا للصحراء”. يتداخل السرد مع الوصف في هذه الرحلة، والتأمل مع الخواطر التي تستدعيها المواقف والمشاهدات الأولى لعل أهمها الاستخدام المكثف للدراجات كوسيلة للتنقل دون أن يكون هذا الاستخدام وقفا على فئة بعينها، ولذلك نجده يقف مذهولا عندما يشاهد عميدة الكلية التي يكلف بإلقاء مجموعة من المحاضرات عن الأدب العربي فيها، وهي تركب الدراجة ذاهبة إلى عملها؛ لأن هذه الظاهرة لا يمكن أن يجدها في بلاده حيث الموقع والسلطة تتطلب مظهراً يتناسب معهما، ويكون دالا عليهما. المرأة السورية التي تركب الدراجة تقول له لو رأوني أفعل هذا في سوريا لاعتبروني مجنونة. هذا المشهد البانورامي لاستخدام وصناعة الدراجات يكشف عن بساطة الناس في تعاملهم مع الحياة، وسعيهم للحفاظ على البيئة: “الدراجات في هولندا صناعة قائمة بذاتها دراجات عادية، نسائية ورجالية، دراجات طويلة يسوقها اثنان. دراجات للمعوقين للصغار دراجات سفارية يمكن طيها وحملها في القطار وأخرى يمكن تفكيكها وتوضيبها في أكياس. مقاعد أمامية وخلفية مخصصة للأطفال..”. التنوع هو سمة تلك المجتمعات والقوانين التي تضبط العلاقة فيما بينهم بما في ذلك الفوضويين الذين يتعرف إليهم عن قرب ليكتشف أنهم على خلاف ما توحي به مظاهرهم من أشد المناوئين للعولمة ورأسمال المال والحروب في العالم، وقد أسسوا مركزا لهم يمكن لأي شخص أن يأخذ منه ما يحتاج إليه مجاناً، والعاملون فيه هم من المتطوعين. هنا كل شيء مختلف على خلاف ما قرَ من صورة قديمة عنهم بوصفهم قراصنة بحار ومغامرين، وفي هذه الرحلة تنفتح العين والقلب على دفء وروعة شعب يقدم الشاعر في هذه الرحلة شهادته عنه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©