الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

باريس مرة أخرى..

باريس مرة أخرى..
21 أغسطس 2013 20:01
يروي حامد الزغل ـ وهو اليوم في الخامسة والثمانين من العمر ـ في هذا كتابه “جيل الثورة” ذكرياته منذ طفولته إلى عهد الشباب، أي منذ الثلاثينيات من القرن الماضي إلى تاريخ استقلال تونس في مارس 1956، ويستهل المؤلف مذكراته باستعراض سريع لانطباعاته عن المجتمع التونسي في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، ثمّ يصف الوضع إثر خروج قوات المحور من البلاد التونسية، ورجوع الجيش الفرنسي إليها، وما واكب هذه العودة من أعمال انتقامية أدخلت الرعب في النفوس. ويسترجع المؤلف ذكرياته عن إقامته للدراسة في باريس في مستهلّ الخمسينيات من القرن الماضي، فيصف مشاغل الطلبة التونسيين واجتماعاتهم السياسيّة، ثمّ يروي لقاء جمعه مع الحبيب بورقيبة كشف فيه الزعيم عن برنامجه السريّ بهدف الوصول إلى استقلال الوطن، ويطلع المؤلف القارئ على مساهمة جيل الخمسينيات في الثورة التحريرية الحاسمة ضد الاستعمار الفرنسي. ويشير حامد الزغل إلى أنه لا يقصد بهذا الكتاب التباهي بما قام به زمان فتوّته، وإنما رغب في تسليط الأضواء على بعض النواحي من دور الحركتين الكشفية والطلابية في النضال الوطني التونسي ضد الاستعمار الفرنسي، مشيراً إلى أنه يزيح الستار عن جوانب خفية من تاريخ الحركة الوطنية، وتصحيح وقائع ذكرت ـ كما يقول ـ بصورة خاطئة في كتابات بعض المناضلين. سراب الشيوعية تعرض المؤلف في فصل من كتابه إلى نشأة الحزب الشيوعي التونسي، مبيناً أن هذا الحزب نشط بمجرد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، فأصدر جريدة باللغة الفرنسية هي “لافينير سوسيال” (المستقبل الاجتماعي). ثمّ عوضها بجريدة أخرى سماها “لافينير دو لا تونيزي” (مستقبل تونس). ثمّ أصدر جريدة أخرى باللغة العربية تحت عنوان “الطليعة”. وفي الوقت نفسه نظم اجتماعات عديدة في كثير من المدن والقرى، مستغلاً شتى المناسبات. وقد تزامنت انطلاقة الحركة الشيوعية في تونس ـ وفق شهادة المؤلف ـ مع غلق نوادي “الحزب الدستوري” واعتقال عدد من قادته وتشديد الحراسة على عدد آخر منهم، ويعترف حامد الزغل بأنه حرص على مطالعة صحف الحزب الشيوعي التونسي والاستماع إلى خطب رجالاته في الاجتماعات العمومية التي كانوا ينظمونها وقد حضر هذه الاجتماعات من شهر أكتوبر من سنة 1943 إلى أواخر السنة الموالية، وتبين له وقتذاك أن سياسة الشيوعيين التونسيين تتعارض مع ما كان يتمناه هو لبلاده ـ حسب تعبيره ـ إذ ما انفكت جريدة “لافينير دو لا تونيزي” تنادي بضرورة إحداث “وحدة صماء بين الشعبين التونسي والفرنسي”. وكان من الطبيعي ـ وفق ما جاء في الكتاب ـ أن لا تجد سياسة الشيوعيين تأييداً لدى الشعب التونسي، وأن تفشل مساعيهم لضم الشباب في صفوفهم، باستثناء عدد هام من الفتية اليهود التونسيين ـ ذكوراً وإناثاً ـ وعدد قليل من الشبان المسلمين. نحو باريس يروي المؤلف استعداده للسفر إلى باريس لمواصلة تعليمه العالي، وقد التقى بأحد أصدقائه القدامى، ولما علم هذا الأخير بخبر سفره القريب قال له: “إني أعرف فرنسا جيّداً، وأعرف جوها الإباحي. وسأقول لك ما لم يجسر أحد على مخاطبتك فيه. واني لو أنصحك بعدم مخالطة النساء والفتيات، يكن كلامي مجرد عبث، فخالطهن كما تشاء، (...)، ولكن إياك أن تعود إلى تونس بزوجة فرنسية، فلن تسعد بها، وكل من تزوج بغير بنات قومه، ندم شر الندم”. ويقول حامد الزغل انه تذكر أمه التي ضحت بالكثير من أجله. مضيفاً: “قلت في نفسي إنها ستصاب بدون شك بخيبة أمل إن تزوجت يوماً بفتاة من فرنسا، فبأي لغة سيتخاطبان وكيف سيتفاهمان؟ وقلت لصديقي: (أعدك بأني لن أرجع إلى الوطن بزوجة فرنسية)”. ثم يصف الأجواء التي أحاطت بسفره من تونس إلى مدينة مرسيليا على متن الباخرة Ville d’Oran (مدينة وهران) في الدرجة الرابعة، وهي أدنى درجة، والرحلة دامت أربعا وعشرين ساعة وليس لركاب الدرجة الرابعة الحق في التمتّع بالأسرّة فلهم أن يناموا على أرضيات المركب، أو أن يكتروا مقاعد طويلة، مصنوعة من قماش متين، ويمكنهم أن يتمددوا عليها. وأورد صاحب المذكرات ما شاهده خلال سفرته تلك، مشيراً إلى أنه وجد معه في الدرجة الرابعة عدداً كبيراً من العائلات اليهودية التونسية الفقيرة، بنسائها وشيوخها وأطفالها، وقد انتشرت بين سطح السفينة وطوابقها السفلية. ولا شكّ في أن هذه الجماعات كانت ـ وفق شهادة المؤلف ـ بصدد مغادرة البلاد التونسية للهجرة وللاستقرار في الجزء اليهودي من فلسطين، متأثرة بالدعاية الصهيونية التي وعدتها بأنها ستجد الثراء والعيش الرغد في أرض الميعاد. ويروي المؤلف التقاءه لأول مرة خلال هذه السفرة مع الراحل محمد مزالي (الذي تولى رئاسة الحكومة التونسية في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة) قائلاً: “... وكنت قبالة طالب لا أعرفه. فتبادلنا الحديث، وعلمت من هذا الشاب أنه كان تلميذاً في المدرسة الصادقية، وهو يكبرني بثلاث أو أربع سنوات، وينتمي وقتها إلى كلية الآداب بباريس، حيث يدرس الفلسفة، ولا تفصله إلا سنة واحدة عن نيل شهادة الإجازة والرجوع نهائياً إلى أرض الوطن. وعرفني باسمه، وهو محمد مزالي. وأعلمته من جهتي أني أقصد فرنسا لأول مرة، بعد أن نلت شهادة “الرياضيات العامة” في “معهد الدراسات العليا” بتونس. فشرع يحدثني عن “جمعية الطلبة المسلمين من شمال أفريقيا”، ونشاط شعبة باريس الدستورية وهو منخرط في كليهما. .... وأخيراً رست باخرتنا في ميناء (مرسيليا). ونزلنا من المركب قبيل غروب الشمس.. ووجدنا القطار الذي ركبناه في اتجاه باريس مزدحما بالمسافرين رغم وفرة عرباته، فليس هناك مقعد واحد شاغر، والمماشي قد عجت بالركاب وأمتعتهم ودخان سجائرهم فمنهم من تمدد على أرضية الممشى، ومنهم من جلس على كيسه أو حقيبته، ومنهم من بقي واقفاً قرب نافذة العربة.. وأدركنا ضواحي العاصمة الفرنسية عندما حلّ الفجر. وأخذت أتناسى التعب بمشاهدة شريط البساتين والمساكن وهو يمرّ سريعاً أمامي، وشيئاً فشيئاً تقاربت المنازل وصغرت البساتين ثمّ ظهرت العمارات هنا وهناك، ثمّ تلاصقت ولم يعد يفصل بينها أحيانا إلاّ الشوارع والساحات وطال سير القطار في هذا المحيط الجمّ من المباني. ها أنا في باريس! وشعرت بشيء الوجل، وأنا في هذه المدينة العظيمة هي في تصوري وحش رهيب وبستان فسيح ممتع، في آن واحد. هي الورد الذّي تحيط به الأشواك فهل سأتغلب فيها على الصعاب الجمّة التي ستعترضني؟ هل ساجد فيها سبيلي؟ تلك هي المشاعر والتساؤلات التي كانت تجول في خاطري عندما وصل بنا القطار إلى محطة ليون (Lyon) في باريس”. وعلى غرار سهيل ادريس في “الحي اللاتيني” وتوفيق الحكيم في “عصفور من الشرق” وطه حسين في “الأيام” وقبلهم رفاعة الطهطاوي في: “تلخيص الإبريز في معرفة أحوال باريز” فان حامد الزغل من خلال وصفه لحياته كطالب في باريس في الخمسينيات يعطينا صورة عمّا عاشه ورآه في العاصمة الفرنسية، وقد أمضى المؤلف بها ثلاث سنوات دون انقطاع. وفي فصل عنوانه “حياتي الباريسيّة” يقول انه ألف شوارع “الحي اللاتيني” وأزقته، وأحب ممرات حديقة الـ Luxembourg وتماثيلها، وصار معروفاً لدى موظفي مكتبة القديسة Geneviève ومكتبة (السوربون). حيث كان يطالع الكتب المتصلة بدراسته، ويتردد على المسارح، مثل (الأوربرا) وقاعتي La Comédie Française، ومسرح Chaillot، فاستمتع بمشاهدة روايات كثيرة لم يدرسها من قبل. حب وفن كما يستعرض المؤلف الجو السياسي في فرنسا والصراع بين اليمين واليسار وحضوره بعض اجتماعات الحزب الشيوعي الفرنسي، كما يطنب في وصف أدق تفاصيل إقامته ودراسته ومغامراته أيضاً مع بعص الفرنسيات على غرار Giuletta وهو يقول في وصفها: “كانت قصيرة القامة، سمراء اللون، لم تكن جميلة لكنها كانت مرحة بشوشة وكانت ابتساماتها تكشف عن فم أفلج جذاب. علمت أنها ممرضة وكانت خليلة طالب تونسي اسمه عمر وقد حصل على شهادة الطب في السنة الماضية ورجع نهائياً إلى وطنه”. ويضيف: “كنت في نفس الوقت منجذبا نحو جينا وجيولتا في الوقت نفسه: الأولى لسحر عينيها، والثانية لخفة روحها، وأعترف أنّ نيتي لم تكن طاهرة وكنت أتفرس فيهما لعلي ألاحظ من إحداهما تجاوبا مع رغبتي، وبدا لي أن الإشارة المناسبة أتت من جيولتّا ذلك أني دعوتها ذات ليلة لتناول كأس من الشاي في غرفتي، فأجابت على الفور: “أوافق. لكن بشرط أن تمتثل لما أطلبه منك. ـ سأمتثل ـ بجدّ؟ ـ بكلّ جدّ. ودخلت الغرفة، ونزعت معطفها، ثمّ استلقت على ظهرها فوق السرير. ونسيت من جهتي إعداد الشاي. واقتربت منها. ـ يمكنك أن تتمدد بجانبي دون أن تمسني. سأغني لك أغنية كورسيكية. أطفئ النور. ففعلت. وأخذت جيولتّا تغني. وكان صوتها ناعماً جميلاً، واللحن حزينا رائعا. وحاولت تارة أن أقترب أكثر منها حتى لا يبقى فراغ بين جسدينا، وتارة أضع ذراعي على خصرها، فكانت تبعدني كل مرة بيدها. وتتابعت الأغاني. وكنت مسحورا برقتها. فأنا لم أستمع في حياتي تغريدا له مثل هذا الحسن. وانتفت شيئاً فشيئاً غريزتي الحيوانية. وخيّل إليّ أني كنت في حلم عذب، أطفو في فضاء من الفن الراقي.. فكان قلبي يخفق وكياني يهتزّ لهذه الألحان الساحرة. ولما ملت عليها لأقبلها على جبينها أو وجنتها، دفعتني غاضبة: ـ ألم أقل لك لا تلمسني؟ وإلا سأتوقف على الغناء. ـ لا واصلي أرجوك. لن أقترب منك. إني في نشوة لا توصف. إنك كما قال شاعر تونسي: أنت دنيا من الأناشيد والأحلام والسحر والخيال المديد.. وترجمت لها هذا البيت فضحكت، وعادت إلى شدوها. واستمر الفن الرائع يملأ غرفتي ويملك أحاسيسي، إلى ما يقرب من منتصف الليل. وعند ذلك أشعلت جيولتّا النور وقالت: يجب أن أذهب الآن، حتى أدرك المترو. ـ يمكنك أن تنامي هنا. فضحكت وقالت: أبداً. وصاحبتها إلى محطة المترو، ثمّ عدت إلى غرفتي مفكراً في أمرها الغريب. لا شكّ في أنها أرادت سحري بصوتها وأغانيها. وقد سحرت فعلا. ولا شكّ في أنها شعرت بذلك عندما حاولت تقبيلها. فماذا كان قصدها؟ ودار بخلدي أنها كانت ترغب أن أنطق بجملة صغيرة: إنّي أحبك je t’aime. وأنا لن أنطق بها، رغم أن عاطفتي نحوها كانت ليلتها قوية. “أحبك” ليست مجرد كلمة إنها نار ونور. نار في فمك، إذا نطقت بها. ونور قد ينفذ إلى قلب مخاطبتك، فيجعله أسيرا لك إلى الأبد. فالحب والوصال قد يربطان العشيقين برباط قوي لا يؤول إلا إلى الزواج. وأنا لن أتزوج إلا بفتاة من محيطي الثقافي. ولا أريد أيضا أن أغري جيولتا بحبي لها، فتتعلّق بي، ثمّ أغادرها بعد إنهاء دراستي، فأترك في باريس قلبا مكلوما قد لا يندمل. لن أفعل مثل طالب عرفته في باريس، كان يخدع الفتيات بإيهامهن بحبه لهن، فيوقعهن في شراكه، ثم يلفظهن لفظ النواة بعد أن ينال منهن وطره. إنه سلوك تأباه المروءة، ويحط من قيمة صاحبه ومارس عدد من الطلاّب التونسيين هذه الطريقة، مثل (طقطق) مع كريستيان، وعمر مع جيولتّا. بيد أني لم أكن ضمن هذا الجمع. فصلاتي بالكورسيكيات الثلاث لم تتجاوز مستوى الصداقة الصافية من كل دنس. وقد ظلت وطيدة حتى بعد ليلة الروعة والفن، ورغم عدم استجابتي لطلب “أنّا” في الزواج. وكانت تجمعنا بعد ظهر كل يوم تقريباً قاعة المطالعة في مكتبة القديسة Geneviève.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©