الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرَّواي.. الساقي من ثدي السماء

الرَّواي.. الساقي من ثدي السماء
21 أغسطس 2013 19:58
على ظهر حمارك النبيل، أسقيت، وأرويت، وأشفيت، وأعطيت، وبذلت، وأجزلت، ومنحت من أتون التراب، عِذاب الماء وقطرة الحياة.. بين الأزقة كان الصغار، يطوفون خلف نهيق الكائن الجميل، يجوبون معه، في تجاويف المكان كأنهم نحلات تمتص الرحيق من خلية الذروة القصوى.. على ظهر حمارك كنت أنت السيِّد، والجيِّد، وكنت القيد والمرساة لنخوة الزمن، وما غفى على ضفافه من حلم وخير الكلم.. كنت العراف الغارف من حصون الاشتياقات الكبرى، كنت النازف والعازف على أجراس الحمار، الراقص رقصة الفراشات عند شفة الزهرة الوفية.. كنت أنت الشاهق، والسامق، والباشق، والعاشق، تأتيك اللواتي يخطفن القلوب بأثواب أرهف من وجناتهن الأنيقة، كنت الحدق المتطلع إلى آخر زقاق بانتظار طرف الثوب، يطل عن بعد ويهديك نظرة فابتسامة، فصوت أشبه ببوح النسيم.. تمر من هنا، من زقاق مقفر إلا من رائحة الجدران العتيقة، وعبق الجريد المسفوف بحبال الصبر، تمر ومعك الحمار، يحثو الرمل، بحوافر التعب، ويمضي منكفئاً صاغراً طائعاً، ماداً خطمه الغليظ إلى حيث تستقر أعشاب الشوك المتسمرة، ما بين الحصاة والحصاة. على ظهر حمارك، كانت علب المعدن المبلل، تقطر بالماء، وتنز بعرق الحمار، وتفاؤلاً كان أعظم وأشم.. الأجر والشكر وعند الأبواب الخشبية، المواربة، تسقط عيون الحور على مرمى من ناظريك فتمد البصر، مشفوع بابتسامة مرهقة، تتوقف وتنزل الأعباء عند طرف الدكة ثم تأخذ الأجر ومعه الشكر ونظرة أخرى تعيد لك مشاعرك المبعثرة، وتضعف ما تبقى من قلب مهشم.. وتغادر إلى أجل يوم آخر إلى صباح جديد تعيد فيه الكرة، ومرة بعد مرة، تشعر أنك في المكان، الملك المتوج تدور حول فلكك نساء كاسيات ساحرات، جاثيات كأنهن حمامات البر، تشعر أنك فيلسوف، يعيد ترتيب أشجار العالم، ضمن نظرية لا تكتمل أجزاؤها، إلا بنظرة خاطفة معمقة إلى رموش انسابت على العيون كأنها أهداب قماشة حريرية.. على ظهر حمارك، تجوس أنت وتمارس حقك في السطوة والسيطرة، واحتلال مناطق في القلوب لأنك الوحيد في ذلك المكان، في ذات الزقاق تزق قطرات الماء، فترشفه الشفاة بعد عطش، وبعد سغب وتعب، حيث الأرض استرخت على جفافها، والسماء عانت من جفائها، وما بقي غير ذاك البئر اليتيم في الحديبة، يسقى ويلقى قطراته الشحيحة، بقدرة قادر، وهذا الحمار، حمّال الأسية، ينهق، ويشهق، ويلعق ريقه، كما أنه يأكل لحم خطمه الذائب في اللظى المغموس في فراغ الوقت العسير. على ظهر حمارك، تنز الجونية، بالتعب، كما يئن الظهر المجلود بالقرحة، من شديد الألم. في كل صباح، في كل رحلة، عند طلوع الشمس، تقول بملء الفم: يا رب دع لي حماري، حياً معافى من المرض، ثم تشد أزره، وتسحب خطامه، وتغادر البيت إلى الحديبة، حتى تعود بعد زمن محملاً بأوزار الماء، والتعب، وركاكة الساقين بعد المسير الطويل.. تعود وقلبك يخفق بالفرح لأنك ستلتقي بنفس الزقاق، ستقابل أطفالاً صغاراً رحمت، رحمت أنت طفولتك، وكبرت وأنت صغير، زاحمت الرجال في الكد والكدح، غادرت الطفولة باكراً لأجل الماء، ومن الماء خلق كل شيء حي، وأنت الحي.. حي بن يقظان الذي رأى الغزالة، تحتضن كائناً صغيراً وترعاه ولما كبر شق بطنها ليكتشف كيف تمضي الحياة في عروق ابن آدم.. هكذا قال ابن طفيل، وهكذا أنت تعرفت على الماء كونه الشيء العزيز، كونه المبهم بلا لون ولا رائحة، لكنه الفاعل المتفاعل في عناصر الطاقة البشرية. على ظهر حمارك تجز عنق الزمن، وتمضي بلا هوادة، تمضي بسرعة الدم، في الجسد، بخفة الهواء في الرئة بسخونة الروح في تلافيف العقل، تمضي وعيناك، متربصتان في الأبواب المواربة شاخصتان في سماء الأزقة عازفتان عن الغمضة الطارئة، تنصت جيداً، برهافة الأذنين، الموسيقيتين بقوّة الحب الذي يستوطن قلبك، بنخوة الألفة التي عرفتها وأنت تقيس المسافة ما بين الحديبة والمعيريض. الرَّواي.. أنت يا سيدي، مثل ذاك الفيلسوف البوذي، عندما زاره أحد مريديه، فأراد أن يضيّفه فصب له الشاي في الكأس حتى فاض، وفاض، فصاح المريد لقد طفح الشاي.. فضحك الفيلسوف قائل:اً أنا لا أملأ الجزء المملوء، بقدر ما أملأ الجزء الفارغ، فأنت هكذا جئت بأفكارك المسبقة، وإذا كان العقل مستبداً فالصحوة مستحيلة.. ومثل ذاك أنت.. الرَّواي الذي لا تملأ إلا الأجزاء الفارغة، لأنك مع الاحتمال في أن العطشى هم الذين يستحقون الإرواء، وهكذا كنت تفعل، وتعمل وتسكب وتحدب، وتجذب، وتكتب على الرمل بحوافر حمارك المضنى من الحياة، والمغزى من التطلع إلى الماء، كونه الأكسير الذي منه جاءت البشرية، ثم اعتنقت حبها للأرض وعشقها للسحابة المتجولة على رؤوس الطير. الرَّواي.. ذاك مجدك وذاك وجدك، وذاك جِدك، وذاك سعدك، عندما كان الحمار، جواداً يعربياً، يطفو على الأديم كأنه الفراشة الملونة بالتعب، كأنه الوردة المبللة بالسغب، كأنه ورقة اللوز تهفهف على أفنية المنهكين المنهمكين في قراءة الغيب وطلاسم ما كتبه الشيخ الجليل على أوراق المبهم.. أنت المتسمر السامر، الساحر، السافر، المجاهر، بالصولة والجولة من أجل عيني امرأة جاشت تعباً وهي تنظر إلى آخر ثقب في الزقاق العتيق، محتسية من قطرات العرق على الشفتين، ملح العذابات الأولية.. الرَّواي.. أنت الوحيد في ذلك الزمن، كنت والماء شقيقين، كنتما حليفين خليلين، عشيقين، مغرمين، بأيدي الذاهبات ولهاً بالماء وفحولة تخصب الزمن بساعد أسمر، معروق لا يكف ولا يلين عن تجذير الحياة بالماء والصوت الجهوري.. كنت أنت في الزقاق، رجل المرحلة، وفارس المسألة الصعبة، كنت أنت النورس المحدق في عيون النساء تقطف ثمرات النخوة الأنثوية، بعفوية متناهية في التجبر.. سر النشوة كنت سر النشوة عندما تبلغ بلوغ العطاء السخي وترتل أمنياتك بشفتين، جامدتين، كورقتين مسقوفتين بلظى القيظ. وعلى ظهر حمارك، تبدو كأحد فرسان الجيوش القديمة، تمضي بشغف وترتدي قميص يوسف خوفاً من الزلل، تمضي بلهف وعلى رأسك، عصمة الأولياء الصالحين، والكحل الأسود يغطي عينيك كخط فاصل ما بين الجفن والدمعة المحبوسة في المحجرين.. كنت وعلى ظهر حمارك، في غاية التأمل ترى ما لا يراه بشر في عيون نساء غاب عنهن الرجال في رحلة البحث عن رزق لا يأتي إلا بعد عناء وشقاء.. على ظهر حمارك، كنت تستشف من الدمعة حرة، توحشت حتى أصبحت كقط محشور في قفص الشهوات المؤجلة.. كنت على ظهر حمارك ترى في عيونهن، نكبة زمن اختطف فلذات أكباد، وكذلك بعول في ريعان الشباب حيث كان البحر، مثل أبي درياه في الأسطورة القديمة يخطف، ويقصف، ويعسف، ويسف، ويخسف.. على ظهر حمارك، كنت ترى الموت جائلاً وحائلاً بينك وبين ابتسامة مفرقة في الذبول.. على ظهر حمارك كنت وحدك تمضي في الشعر ترتيباً وتهذيباً وتقول: «إن مت أنا لا تدفنوني/ با شوف من يبكي عليَّ حطوا على جسمي سنوني/ قولوا احترق والروح حيه يا بو علي لو تعذروني/ النار في قلبي لظية» ثم تمضي في الهوى، والأشواق كأنك الطير السارب في بطون السماء، بأسئلته الحقيبة، تمضي كأنك الغافة الجارفة عند كثيب مد رملة للمدى، بلا هوادة.. كنت وحدك تسف حبال المرحلة بدمع وشمع، والوحدة الرهيبة، تغري قريحتك فتسكب الكلام كأنه الزلال في فنجان الرشفات اللذيذة.. كنت وحدك يا سيدي. الرَّواي، المنكب على واجب العطاء، بخصال المدنفين العاشقين ومن سكنت قلوبهم، وردة الحب، واستعصى على التعب أن يشف بريقها.. كنت وحدك، يا سيدي الحالم بماء يلون العيون بالبريق ويرطب الشفاة، بقطر كأنه الحبر.. كنت وحدك يا سيدي، الملهم، والمبهم، والمنعم بفضيلة الفلاسفة القدماء لأنك في العزلة كنت تضفي على الفكرة ملامح، من طيبوا العقل بالتفاني والمثابرة، والمغامرة.. كنت وحدك يا سيدي، في المعنى كائن يخب، ويجب، ويصب، ويدب، ويحب، ويكب، ويسكب الرحيق في شمعة التأمل لعلك تستدعي الطاقة الإيجابية في النفوس المكسورة.. كنت وحدك يا سيدي الجدير بالكتابة والمهابة والنجابة، والحصن الحصين، لأنك حصنت وأتقنت تلاوة السطور الأولية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©