الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشجرة المباركة لا شرقية ولا غربية مصونة عن التفريط

23 أغسطس 2011 22:45
أبوظبي (الاتحاد) ـ القرآن الكريم كتاب الله لكل الأزمنة والأمكنة ولكل الناس، فهو هدى للناس، وذكر للعالمين يهدي للتي هي أقوم، حوى جميع أصول الهداية في العقائد والعبادات والآداب والأخلاق والأسرة والمجتمع، فهو بلا شك جامع أسس الشريعة بما تضمنته آياته البينات من حقائق دامغة وحكم بالغة وقواعد ناطقة. قال الشاطبي: “إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة عمد الملة وينبوع الحكمة وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر وأنه لا طريق إلى الله سواه ولا نجاة بغيره ولا تمسك بشيء يخالفه”. فكيف أصل القرآن الكريم للوسطية؟ قد امتدح القرآن الكريم المسلمين وجعلهم على الصراط المستقيم والمحجة البيضاء، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس لأنها أمة الوسطية والاعتدال، لذلك اعتنى بالوسطية عناية خاصة، فجاءت الآيات توضح هذا المنهج وتدعو إليه وتربي الناس عليه وتحذر من الغلو والجفاء والإفراط والتفريط، فوردت مادة “وسط” في القرآن الكريم في كثير من المواضع، وذلك باشتقاقاتها المتعددة، فنجد وسطا، وسطى، أوسط، أوسطهم، ووسطن، ولكل مشتق دلالته الخاصة في الوسطية، من ذلك قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) “البقرة، 143”، وقد ورد تفسير هذه الكلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل فقال: وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ “البخاري”، والعدل التوسط بين الإفراط والتفريط. والآية ثناء على المسلمين بأن الله ادخر لهم الفضل، وجعلهم وسطا، فهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط، بين الغالي والمقصر. معاني الوسطية واحتوى القرآن على آيات كثيرة تضمنت معاني الوسطية والاعتدال في أمور الدين والدنيا، والقرآن في بيانه لأهمية الوسطية سلك مسالك متعددة تجمع بين سوق نماذج حية لها وثيق الارتباط بحياة المسلم المادية والمعنوية وبين تقديم أمثلة عملية متعددة تدل على وسطية الإسلام. فالمتأمل في أم الكتاب سورة الفاتحة التي لا تستقيم صلاة المسلم إلا بها يجد أنها تقرر من أولها إلى آخرها منهج الوسطية في أجلى صوره، وأبرز آية تشهد على ذلك هي قوله سبحانه وتعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْـمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فهذه الآية صريحة في دلالتها على أن منهج الوسط هو مطلب كل مسلم، وهو أكبر نعم الله على أمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأفضل ما ينبغي أن يطلب المسلم من الله تعالى. والصراط المستقيم هو الوسطية التي هي سمة الأمة المحمدية، فإن الله يعلمنا أن ندعوه أن يرزقنا الهداية إلى الصراط المستقيم ويسلمنا من الانحراف بنوعيه الغلو والتفريط، ولما أمرنا الله سبحانه أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، كان ذلك مما يبين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطرفين. ودلالتها على الوسطية بينتها الآيات التي تلتها وهي قوله تعالى: (غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ”، ومنهج المغضوب عليهم التفريط، بينما يمثل منهج الضالين الإفراط، فهما منهجان دائران بين الغلو والجفاء. ومن هنا يتبين لنا أن السبل ثلاثة، سبيل الذين أنعم الله عليهم وسبيل المغضوب عليهم، وسبيل الضالين، والله سبحانه يأمرنا باتباع سبيل الصراط المستقيم الذي هو بين السبيلين المنحرفين، وهو مما أنعم به الله علينا. الفاتحة والمنهج فالفاتحة وضعت الأساس والمنطلق ورسمت المنهج وحددت ملامحه، ثم جاءت الآيات الأخرى داعية له ومبينة. وغالباً ما تقترن الاستقامة بالصراط لزيادة تأكيد حقيقة الوسطية لأن الصراط المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه هو طريق الحق والعدل والوسط وما سواه طريق الانحراف والتطرف الذي أمرنا الله باجتنابه. التطرف بجميع أشكاله مرفوض شرعاً وعقلاً، كيف قاوم القرآن الكريم ظاهرة التطرف؟ التطرف حقيقته أن الأمر له طرفان ووسط، فأحد الطرفين تساهل والآخر تشدد، والوسط ليس على طرف بل بينهما، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْـخُسْرَانُ الْـمُبِينُ) “الحج، 11”، أي على شك فهو على طرف من دينه غير متوسط ولا متمكن، يقول القرطبي: “على حرف: على شك، وحقيقته أنه على ضعف في عبادته كضعف القائم على حرف مضطرب فيه”، (تفسير القرآن). مسلك الاقتصاد وفي المقابل يدعو القرآن الكريم إلى مسلك الاقتصاد، حيث يقول تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْـخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، “فاطر، 32”، والاقتصاد الرفق من الأعمال بلا إفراط ولا تفريط، والمقتصد الذي على صلاح من الأمر، وهو غير المبالغ في طاعة ربه وغير القصر فيما ألزمه ربه حتى يكون عمله في ذلك قصدًا. قَال صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ ثَلَاثًا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا (ابن ماجة). مثل القرآن الوسطية بشجرة مباركة لا شرقية ولا غربية، هل من توضيح لهذا المعنى؟ عندما نقرأ قوله تعالى: (شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَـمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) “النور، 35”، ندرك بجلاء مدى بلاغة القرآن في التعبير عن فكرة الوسطية بضرب الأمثال ومحاولة إشاعة حقيقتها بين المسلمين، وأن هذا الدين جاء لنفع الإنسانية ورفع الضيق والحرج عنهم، فالشجرة مباركة أي كثيرة البركة والنفع. والشجرة المباركة جعلها الله تعالى لا شرقية ولا غربية تنبيها على أنها مصونة عن التفريط والإفراط كما قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، “الإسراء، 9”. وبهذا المفهوم جاء القرآن وسطا في كل شيء، وسطا في النظرة إلى الحياة، وسطا في نظرته إلى حقيقة الإنسان بين الروح والمادة، وسطا في إشباع احتياجات الإنسان الفكرية والروحية والوجدانية والمادية، فأضحى بذلك منهجاً متكاملاً في الوسطية. د. سالم بن نصيرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©