الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأثر المرّ

الأثر المرّ
19 أغسطس 2015 21:50
استقبلت الكونتيسة بحزن شديد موت ابنها (بيتيا) آخر العنقود، فلم تقوَ على سماع الخبر فقد نزلت المصيبة عليها كالصاعقة وكادت تفقد توازنها، فدخلت الغرفة وأغلقت الباب عليها مستسلمة للحزن المميت رافضة نسيان الأحباء بسهولة. وكما يسرد تولستوي: «ومرة أخرى، أبت الأم، في صراعها العاجز ضد الواقع، أن تصدق أنها يمكن أن تعيش في حين يقتل ابنها الذي يفيض حياة، فهربت من الواقع إلى عالم الجنون». في رواية (الحرب والسلام) لتولستوي بدت الكونتيسة تهلوس وهي في فراشها، وهي تقف بين حافة الجنون وغور الألم فتتخيل ابنتها (ناتاشا) ابنها الميت: «كم أنا سعيدة بوصولك. أنت متعب، أتريد شاياً؟ دنت ناتاشا منها، فتابعت الكونتيسة كلامها وهي تمسك بيد ابنتها: - صرت أجمل، صرت رجلاً. - ماما، ماذا تقولين! - ناتاشا، لقد مات! لقد مات! وضمت الكونتيسة ابنتها وبكت لأول مرة». بعد ثلاثة أيام من التوحد في غرفتها. تستيقظ الكونتيسة على وقع الفاجعة وينبغي علينا تخيل اللحظة والساعات والأيام كم مرت قاتلة في قلب أم خطفت الحرب منها ابنها. في مشهد تراجيدي مؤثر يستيقظ شعور دفين قبل الموت لدى الأمير أندريه العائد بجراحات الحرب المميتة فقد «شعر بالفرح العذب. كانت ناتاشا راكعة، تنظر إليه مرعوبة، لكنها كانت مشدودة إليه، لم تكن تستطيع أن تتحرك، تحبس زفراتها. كان وجهها شاحباً، جامداً، إلا جزأها الأسفل الذي كان يرتعش»، وزاد من ألمها أنها لم تكن عاجزة وهي تشهده يصارع الألم المضني، وإنما محاولته انتشالها من عذاباتها حينما قال لها: «هناك شيء فظيع، وهو أن يرتبط الإنسان إلى الأبد بإنسان يتألم. إن هذا لعذاب سرمدي». ولم يكن موت أندريه في حياة ناتاشا بأقل إيلاماً من موت أخيها بيتيا، فالمأساة باتت لديها مركبة وكانت فجيعة ناتاشا مرتين، غير أنها استلهمت من تجربة المأساة وواقع أمها ضرورة مقاومة الحزن والعيش داخل دائرة السعادة والنظر بإيمان في الوجود والقبول بمشيئة القدر والموت الذي يختارنا دون رغبة منا. المهم أن نحيا داخل دائرة العيش المستجدة وننسج الفرح مجدداً. وفي نص سيكولوجي يتمظهر في كيفية معالجة الصراع بين الموت والحياة ستولد ناتاشا «لم يكن الجرح النفسي الذي أصيبت به الكونتيسة يندمل، ذلك أن موت بيتيا انتزع منها نصف حياتها. فبعد شهر من نبأ موته الذي وصل وهي امرأة غضة رشيقة في الخمسين من عمرها، غدت امرأة عجوزاً، نصف ميتة، لا تسهم بأي قسط في الحياة التي خرجت من غرفتها، لكن الجرح نفسه، الذي قتل الكونتيسة نصف قتلة، هذا الجرح الجديد هو الذي دعا ناتاشا إلى الحياة». لم تكن موسكو زمن الحرب تفيض بالحزن والتوتر وحده وإنما كانت المدينة وصالوناتها النسائية تسجل مواقف متناقضة إزاء الحرب، مع أو ضد الغزاة، ذلك هو الوجه الآخر في المدينة والمختلف عن وجه الخنادق وأصوات المدافع، فكنا نتحسس في الرواية العظيمة منتدى (آنا بافلوفنا) ومنتدى (هيلين) حيث كان المتحاورون يتحدثون في سنة 1812 كما كانوا يتحدثون في سنة 1808 بالحماسة نفسها عن الأمة العظيمة والرجل العظيم، ويأسفون للقطيعة مع فرنسا، وهي قطيعة يجب أن تنتهي بالصلح، في رأي المترددين على هذا المنتدى». وكانت ترتفع أصوات بضرورة مقاطعة الأرستقراطية وعلية القوم والمثقفين المتحدثين باللغة الفرنسية، والتي كانت اللغة الأساسية في ذلك الوسط الاجتماعي، بل وأكثر من ذلك فقد «كان يشاد بالفكرة الوطنية، التي مفادها أنه لا ينبغي التردد على المسرح الفرنسي». ويا له من مجتمع أرستقراطي حي إذ لم توقف الحرب في بطرسبرج الفرقة المسرحية الدائمة وكأنما النهضة الثقافية عليها استكمال مسيرتها داخل المجتمع، ففي زمن الحرب يحتاج الناس للخبز والثقافة كخندق للمواجهة. في حروب معاصرة تكتب مارغريت ميتشيل في روايتها (ذهب مع الريح) عن معاناة امرأة ليس قبل الحرب الأهلية الأمريكية وحسب، بل وبعد الانتهاء منها، فللحرب نتائج كارثية، حيث تفقد (اسكارليت أوهارا) ليس الرجل الذي أحبته في السر وأدمى قلبها وحسب، ولكنها أيضاً خسرت ثروتها، وعليها النهوض مجدداً في ظروف قاسية والعمل بدأب. وليست اسكارلت إلا نموذج نساء مجتمع الجنوب الأمريكي المنبعثات من رماد الحرب بعاطفة محبطة وأمل مشدود نحو خيط اليأس وورقة خريفية تتطاير مع الريح، بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، ولكن بعد أن صار البناء والعيش من جديد ليسا إلا حياة مضنية بلا ثروة أو حب. أجراس همنغواي ما تزال تقرع في حروب العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي يبقى الكاتب الأميركي وحده مميزاً، فقد كتب عن حروب أهلية ونظامية خارجية عاصرها وعايش رجالاتها في إسبانيا وإيطاليا، وقد كتب بعد عقد رواية (وداعاً أيها السلاح) كجزء من نتائج الحرب العالمية الأولى، فهذه الرواية التي عّرت لا أخلاقية الحرب من خلال قصة حب ربطت بين ضابط أميركي وممرضة إنجليزية في إيطاليا المقاتلة. وفي قصته القصيرة (موطن الجندي) يظل هارولد يتذكر الحرب العالمية الأولى والفرقة الثانية وحوض الراين، وصورة التقطت له مع فتاتين ألمانيتين، وبما أنه تأخر في العودة إلى بلدته الأصلية، فإن عملية الترحيب بالأبطال العائدين قد انتهت، وشعر بسخرية الناس له وهو يتحدث عن الحرب التي انتهى الحاجة للحديث فيها، بل «ولم يرغب أحد في أن يستمع إلى أي كلام عن الحرب، فبلدته كانت قد سمعت عدداً كبيراً من قصص البشاعة والفظاعة حتى غدت غير مستعدة لأن تهتز للوقائع الفعلية». ووجد هارولد أنه كي يستمع الناس إلى ما يقول، ولو في الحدود الدنيا، «يتوجب عليه أن يكذب». وليس هارولد نموذجاً منعزلاً وكذاباً، بل ويشعر بالبطالة والنفور والاشمئزاز والوحدة والتمزق الروحي حتى إزاء النساء وأمه، التي بدأت تشفق عليه وعلى حالته: «لقد قلقت من أجلك كثيراً يا هارولد. أنا أعرف الإغراءات التي تعرضت لها. أعرف أيضاً كم هو ضعيف الإنسان. أعرف كل الذي قاله جدك، أبي العزيز عن الحرب الأهلية، وصليت من أجلك. أنني أصلي من أجلك طوال النهار يا هارولد». نتقابل مع الأم التي تعيش بذاكرتين إزاء الحرب، حرب خاضها والدها وكادت تفقده وحرب خاضها ابنها وكادت تفقده أيضاً، لهذا تصلي الأمهات من أجل عودة الأبناء بصمت وحسرة وقلق. العار للفتاة المصاحبة للفاشي في رواية (الصامدون) للمؤلف بوريس غورباتوف نسمع ونشاهد أحذية الألمان ودباباتهم تحتل أراضي شاسعة من الاتحاد السوفييتي السابق، إلى أن يصلوا إلى مدينة كاميني برود الأوكرانية، فتحولت أرجاء أوكرانيا «كلها إلى عويل نسوي، عويل الأمهات والأرامل، وبكاء الأسيرات المرير». هكذا نلتقي مع مأساة الاحتلال، ويوميات مدينة وعائلة العامل تاراس، الذي توترت علاقاته مع كل عائلته ومنعهم من العيش بفرح والتزين والخروج من البيت، فكل لحظة في حياته صارت جنازة وينبغي التضامن مع الأبناء المحاربين في الجبهة، فالألمان منعوا الفتيات حتى من البكاء في قاعة السينما، بينما سكان المدينة أخذوا يقاطعون الفتيات اللاتي يصاحبن جنود غزاة وانتشرت أغنية «العار للفتاة المصاحبة للفاشي». كل ذلك كان مفهوماً، حالة التقشف، البحث عن الخبز، ارتداء الملابس القديمة، مقاطعة المحتل، والمناخ السوداوي في المدينة، كل ذلك كان مفهوماً، ولكن القلق الكبير الذي دمر حياة تاراس ليس انهيار أنتونينا زوجة ابنه التي ركعت لهم أكثر من الكفاية وتملكها الخوف والرعب وهي تردد: «لا، يا ماما، أنا لست بطلة. لقد تذللت لهم»، وإنما أخبار اغتصاب النساء من قبل الألمان، فعندما التفت إلى ابنته (ناستيا) وأرسل زفرة «ألا إن فكرة غامضة كانت تعذبه، وتقلق عليه راحته. وقد سأل زوجته ذات مرة، يبدو أن ابنتنا أصبحت جميلة. أليس كذلك. فردت الأم فخورة: جميلة، قسماً بالله، جميلة. نعم، نعم... أنا أرى ذلك، وتنهد تاراس بمرارة. لقد كان تاراس يزفر مهموماً: إلى هذا الحد بلغ الأمر، صار جمال ابنتي لا يسرني». لكم تتألم الأبوة والذكورية والشرف في آن واحد وفي زمن ليس اغتصاب الوطن وحده مؤلماً، بل التعدي على الفتيات العزل وانتزاع أغلى ما يمتلكن، وهو كرامتهن وعفتهن. غيرنيكا.. رؤوس النساء المرفوعة كانت لوحة غيرنيكا للرسام الإسباني بابلو بيكاسو وحدها تعبيراً تكعيبياً لواقع مدمر في زمن الحرب، فرؤوس النساء المرفوعات للسماء كن في حالة استغاثة مميتة وأخيرة، وصراخهن بلغ إلى السماء القاتمة بالموت منبعثة من ألوان اللوحة بخطوطها البيضاء وأصباغها الرمادية الكابية كمذبحة تلك البلدة الإسبانية الصغيرة بقنابل فاشية عانت الإبادة، محنة الأمهات وجدت تعبيرها في الحدقات الواسعة والمتسائلة والمعبرة عن الرعب وفي خطوط الأفواه المستجدية المستغيثة وهن يحملن أطفالاً موتى. ومع سواد الحرب لم ينس بيكاسو في لوحة غيرنيكا أن يجعل الضوء والأمل القادم من المصباح والنافذة ضوء الإنسانية المنتظرة والمنتصرة، فقد ظلت حمامة بيكاسو للسلام تشكل المعادل الآخر في فنه العظيم الذي تركه مع مأساة الحرب من خلال لوحة غيرنيكا الجدارية. يبقى أولاً وأخيراً، المرأة سواء في الحرب أو السلم، عنواناً للحياة ومشعلها الأبدي وأملها الدائم. الحرب.. وجهها البشع هذا الوجه البشع من الحرب ربما تخافه النساء بصورة مرعبة أكثر من أي حالة أخرى، فهو بمثابة تدمير روحي وجسدي لكيان الأنثى وشرفها. صور وحكايات تبقى مع الناس في زمن الحرب، ففي البعيد يتقاتل الجنود المتحاربون، ولكن في الظلال الأخرى من الحرب يعشن مرعوبات من وحشية الحرب ودمارها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©