الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه وانغاري ماتاي: زهرة عباد الشمس

وجه وانغاري ماتاي: زهرة عباد الشمس
19 أغسطس 2015 21:45
يمتص وجه «وانغاري ماتاي» تاريخ الألم الزنجي، يضمره ويواريه في قعر البحيرة، فيما يشهر ابتسامة غريبة، صقيلة وجليلة. ابتسامة ذات أصول سحيقة بكر. لها صلة غامضة باليوم الأول على وجه الأرض، قبل تشكل الخرائط، وانفصال كتلة القارات. تحديقة وانغاري ماتاي، سحرية، تختلج فيها أنهار وأعشاب، كأنها تنظر إلينا من وراء غابة استوائية، فتصدّر لنا من منجم سوادها الأليف والودود، معجم ألوان شتّى، تنتصب كبوابات أقواس قزح، بوابات أحلام لها رائحة البن والتبغ. زنوجة هذا الوجه ضالعة في صداقة الشمس، تستأثر بموجز أسرارها العجيبة، وتدخر حقائقها المبهمة، وهي لذلك لا تعرف إلا الإفصاح عن ابتسامة أفريقية، شبيهة بزهرة عباد الشمس. صاحبة كتاب «التي تغرس الأشجار»، وجه ينضح بأمازونية النبات والوحيش، ممهور بأطياف الرقص الحبشي، والموسيقى التي يسطو فيها صدح الطبول الملحمي، وجه يسمق في ابتهاج طفولي، ضد الخراب والقحط، يبزغ كدليل خرافي إلى حقول متخيلة (ما من وجود لها إلا في إغماضة الحلم)، تزمخر تلال براريها بأزهار وأشجار... تجهل أسماءها القواميس. عجبا كيف يحيل وجه زنجية، على غابة خضراء، تعسكر في ظلالها قبائل وشعوب الألوان عن بكرة أطيافها. ما السر الغريب الكامن في وجه وانغاري ماتاي، الذي يوقظ رغبة الرسم في مخيلة أصابع من ينظر إليه أوّل وهلة؟؟؟ أما النظر إلى عينيها فينزاح بنا إلى سراب ظهيرة قائظة في تخوم الصحراء. هذا السراب الذي يأتي منه الشعر، هو ما تحتاجه فكرة سينمائية، لكي تخلق إبهاما بصريا للغتها السرية. إنه السراب الذي تفتقده لوحة الرسام، لكي تكون. ليس سراب صحراء بالضرورة، بل هو السراب دليل المياه، مياه بحيرة فكتوريا بالذات ما يترقرق في أفق النظرة اللامحدودة، لانهائية المدى والعمق. يعلمنا وجه وانغاري ماتاي، أن اللون الزنجي، له غواية سحرية، يضطلع بمجاهل وألغاز لم تكتشف بعد. إنه السحر الأفريقي المنسي والمهمل، وكأن أفريقيا لوحدها كوكب غامض ومجهول، حريّ بفضائيي العالم السفر إليه، واستكشاف حقائقه المذهلة. اللون الزنجي، محض غرابة هائلة، يضيء أسودها المترف بالدهشة، أصفر الذهب. ثمة ذهب يشع من منطقة غير مرئية يضيء وجه وانغاري ماتاي. ما السر في تعالق الأسود والأصفر، بشكل هارموني في هذا الوجه الذي تتنازع هويته جهتان متناحرتان: جهة الغابة وجهة الصحراء؟؟؟ يأسرنا وجه صديقة الأشجار، ويستضيفنا بإغواء بريء في مساحات عذاباته وألمه وبؤسه، ثم ما يني يكشف عن صلابته النبيلة المتحجرة خلف هشاشته وعذريته. إنه يطوف بنا فيما يشبه سفرا بدائيا، مذهلا وفجائيا، في أدغال الحكمة الإفريقية، يوغل بنا في أساطير القارة العجيبة، ينزاح بنا في رحلة فاتنة إلى لغز البدايات، ويجلل انبهارنا بفلز الحكايات وعسجد الرؤى وسحر العلامات... إنه يكشف لنا عن خرائط تخلخل معرفتنا بوجوهنا نحن، يزرعنا في لمحة بارقة داخل ألفة براريه المفزعة. قرية قرية، وكوخا كوخا، يرحل بنا إلى جمهرات الطقوس ومهرجانات الرموز وإمبراطوريات الوشوم ومحافل الأقنعة ومسارح بلاغات الجسد وأعياد الرقص الدائمة... لا لغة تعلو على الوشم والرقص... هكذا تتداعى الوشوم في سماء المشهد كشهب ونيازك تتناقل سر الوجود والكينونة، فيما الرقص يكتب سيرة الجسد والأرض، يفجر الغياب ويفصح عن أكوان غرابته وجماله، بشكل تعجز اللغة عن توثيقه وتوصيفه وتدوينه... لا يقتلعنا وجه وانغاري ماتاي عنوة من تراب سهونا، كي يزج بنا في غابة حلميته، بل يجرفنا نهره الأسود بتلقائية، ونغرق في قيعان كنوزه ومدخراته العاتية. خلف الابتسامة السحرية لوجه وانغاري ماتاي، يمكن أن ينبش الرائي عن أرشيف إفريقي لتواريخ موشومة وصاعقة: تاريخ نساء محاربات يروضن شراسة الغابة ووحيشها الضاري. تاريخ أناشيد العبودية المقيت، إذ تبزغ ظلال الهجرات المارطونية للسود من إفريقيا إلى أمريكا عبر طرق العطش والموت. يصدح رنين السلاسل في طرقها الدموية، تتناقل الرياح صداه وتفشيه لأبدية الموسيقى. تاريخ الحرائق المندلعة في الغابات واللحم الإنساني، بسبب حروب الاستعمار والحروب الأهلية. تاريخ القتل الذي يستهدف الحيوانات والبشر في البراري المتوحشة أو في المحميات. تاريخ الأوبئة والأمراض المرعبة المستعصية. تاريخ العنصرية الموبوءة، واضطهاد الزنوج. تاريخ الركض والعدو في السهول والجبال... الخ ليس رائحة القهوة ما يندلع ويفوح من وجه وانغاري ماتاي وحدها، بل ثمة هسيس لا علاقة له بأقراطها وضفائر شعرها وفستانها المترف بالأشكال والألوان والرموز، إنه هسيس النباتات الذي سرعان ما يتحول إلى هذيان، هو هذيان الغابة بمجمل أشجارها، كل شجرة تحكي تاريخها الخاص، ومع حكايتها تنكشف في سماء المشهد مجرة جديدة. كل هذا الأثر الجليل، لفسيفساء غرابة وجه ماتاي، يتقوى بمعترك الألوان، ما من لون إلا ويضمره أسودها الأثير، كأنّ زنجيتها هي أصل ومعجم الألوان كلها، غير أن لونا وحيدا يطفو ويسطو من صخب واشتباك هذه الألوان قاطبة، يظل قرينا وتوأما للأسود، هو الأصفر، الذي يجعل من وجهها، زهرة عباد شمس، سامقة، تطل على العالم من كينيا كشمس بديلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©