الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تفكيك معمار الكراهية

تفكيك معمار الكراهية
19 أغسطس 2015 22:11
ليست (الكراهية)- لعنة ذات بنية ماورائية أو ميتافيزيقية، ليست موروثاً أسطورياً لا يمكن وضعه على مسطرة البحث ومشرحة التفكيك، بمعنى أنها ليست شيئاً مقدساً، فكل الأديان السماوية ترفض الكراهية بين البشر، بل ترفض الكره في حدِّ ذاته، حيث تصف الكراهية بأنها ظلام أما المحبة فهي النور، فما أقسى على الإنسان أن يعيش في ظلام، وهو ما تعيشه حضارتنا الراهنة التي تستفرغ سمومها القاتمة في كل مكان، بل وما يعيشه البشر من كراهية أمست تستفحل يوماً بعد غيره في راهن الحال حتى يكاد المستقبل يلوح بمآل عدمي. في أضيق وصف، تبدو الكراهية مجرَّد معمار أو كيان له وجوده الحقيقي في حياة البشر. كان أرسطوطاليس قد عدَّ الكراهية من النوازع أو الأهواء التي ترتبط باللذة والألم، ما يعني أنها تجربة ذاتية للإنسان وذلك معمار للكراهية أول. أما الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت فقد عدّها إدراكاً، بينما وجدها الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم شعوراً بشرياً. المعمار المؤسساتي هذه النماذج الثلاثة إن هي إلاّ كيانات ذاتية للكراهية، لكن المعمار الأكثر خطورة في أنطولوجيا الكراهية هو المعمار المؤسساتي، ذلك المعمار الذي يبني الكراهية لدى البشر على نحو موضوعي، ويهيئ لها بوصفها معطى ذاتياً كهوى وإدراك وشعور لدى الفرد ليصبَّها في إطار مؤسساتي ينتج الكراهية على نحو منتظم وفق خطاب أيديولوجي قد يتوسَّل الدِّين السماوي أو الدِّين الوضعي مرة وعلى نحو مخادع ومتطرّف أو يتوسَّل أنظمة فكرية دنيوية لتصريف تلك الكراهية مرة أخرى. لقد عرّت الأديان السماوية خطابها عن الدعوة إلى الكراهية في الحياة؛ فالأديان السماوية قبل الإسلام وصفت الكراهية بالظلام، بل وعدّت الكاره قاتلاً، أما الدين الإسلامي فقد وصف الكراهية بأنها فتنة، ومنزلتها أشد من القتل، ما يعني أن الكراهية أكبر من القتل في الإسلام، ولهذا كانت خشية الخطاب الدِّيني في أصله النقي واضحة من جعله وسيلة لبث الكراهية بين الناس، وطريقة غير شرعية يتوسَّلها الكارهون لقتل الحياة. لا تكاد الكراهية الذاتية كتجربة شخصية فردية إلا أن تكون ذات أثر محدود إذا ما بقيت تجربة في حدِّ ذاتها، سواء كانت رغبة غريزية أم شعوراً نفسياً كهوى أو حتى مجرد إدراك ذهني أو عقلي، فلكل منهما معماره الذاتي- الشخصي المحدود، ولكن، وعندما يتحوَّل كل ذلك، وفي ملتئَم واحد أو في بوتقة أحقاد واحدة، إلى معمار كراهية موضوعي يمكن تداوله في المجتمع، عند ذلك سيكون الأمر فادح الأثر كون الكراهية خرجت عن نطاق ما هو ذاتي- شخصي صوب ما هو موضوعي عام. لقد أنشأ الغرب الاستعماري معماريات مؤسساتية للكراهية ما زال نصف العالم المعاصر يكتوي بلظاها، ومنها مؤسسات التمييز العنصري، إلاّ أن مؤسسات شبيهة أخرى غير قائمة على التمييز العنصري أخذت تتنامى في كينونتها ووجودها وحضورها؛ مؤسسات أو معماريات مؤسساتية صارت تجتر العِرق والدِّين والمذهب والقومية والمنطقة كحواضن جهوية لبناء أنظمة كراهية بات أمرها يفتك بالعمران البشري، بل بعمران الروح الإنساني حتى أمست معماريات الكراهية القائمة على التجربة الذاتية والشخصية- الفردية لا تعدو أن تكون مجرد أساس بسيط القيمة والفاعلية مقارنة بالقيمة ذاتها التي تتمتع بها تلك المعماريات أو المؤسسات الكبرى التي تنتج الكراهية على نحو منظَّم بين إنسان وآخر، بين مجموعة بشرية وأخرى، بين شعب وآخر، بين أمة وأخرى، بين حضارة وغيرها. وهكذا، أصبحنا بإزاء أنظمة كراهية تشتغل على نحو منتظم مدفوعة بخطاب فكري أصبح الكارهون الذين يحملوه مجرد رهط رعاعي ينساق بعماء لإنتاج ذات مفعمة بالكراهية (Hateful)، وهي تنتج موضوعها (الكراهية) دونما تفكير فيما تُقبل عليه وتفعله تداولاً في خضم عماها ذاك الذي يسوق الناس إلى متاهات العدمية المجحفة. إنها معماريات تجمع بين الكراهية كرغبة، والكراهية كهوى، والكراهية كإدراك، والكراهية كشعور، في معمار كراهية واحد. يبدو أن أخطر ما تعيشه البشرية اليوم هو معمار الكراهية بوصفه تنظيماً مؤسساتياً يتوسَّل الدِّين مرجعاً وخطاباً في بناء كينونة ذلك المعمار وتصريف وجوده العملي اليومي. ولنا في الشرق الإسلامي أنموذجاً حياً ذلك الذي تمثله فذلكة التنظيمات الإسلامية المسلَّحة، أحزاباً ومنظمات، سرية وعلنية، إسلامية وعربية ودولية عابرة للقارات، حيث تتوسَّل هذه المجموعات الدِّين الإسلامي وفق قراءة تأويلية خارجة عن المعقول لتبث الكراهية على أسس دينية - مذهبية بين الناس، تبث الفتنة التي هي أكبر من القتل، تبث الفرقة بين أبناء الملة البشرية، بين أبناء الدين الواحد، تبثها بين أطراق القوم البشري هنا وهناك على نحو عرقي ومذهبي في مشهد انقتالي (قاتل ومقتول) حتى إنها لم تعد تتعظ بأية قيمة تدعو إلى الأمل الإنساني. مسؤولية منذ ولادته ترى الإنسان يعيش في مؤسسات عدَّة؛ مؤسسة الأسرة، مؤسسة المدرسة التعليمية، مؤسسة المجتمع العام، وكل هذه المؤسسات مسؤولة بالدرجة الأولى عن تربية الإنسان على المحبة وتقويض الكراهية لديه؛ كراهية الذات أو النَّفس، كراهية الآخر أو الغير، بل مسؤولية مجتمع ودولة، لكنها الدولة الوطنية في أغلب المجتمعات الإسلامية، خصوصاً في البلاد العربية، ما عادت بتلك القوة التي تسيطر بها على تنشئة الأجيال على المحبة بالضد من الكراهية، فكيف لهذه الدولة أن تكون قادرة على تقويض الكراهية التي تبثها عملياً معماريات مؤسساتية ضخمة كالتنظيمات الإسلامية المسلحة؟ في البلدان العربية لا توجد إحصاءات حقيقية للكيفية التي بدأت بها (الكراهية) تأخذ مساراتها في المجتمعات، نعم ربما يعود الأمر إلى خمسين عاماً مضت، وقد يكون أكثر من ذلك، إلا أن الأمر أمسى يتعدّى البحث عن الجذور، فواقع الحال يشي بمخاطر جمَّة والدماء البريئة تُراق بلا هوادة وعلى مرأى البشر في كل آن، ولذلك يمكن القول إن ثورة حقيقية لا بدَّ منها لتفكيك أنماط الكراهية لدى الإنسان المغترب عن أصله الإنساني في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، وتقويض فاعلية تلك الأنماط السوداوية، وهدم مؤسساتها التدميرية، وإزالة مخاطر ثقافتها الوخيمة، ولجم طموحاتها العدمية، وزعزعة كيانها الطارئ سوءً، وتلك هي مهمة الفرد/ الشخص، ومهمة المجتمع، ومهمة الدولة الوطنية التي تعيش ضياعها في دروب استعمار مفسد جديد، إنها مهمة مؤسسات اللا– كراهية، مؤسسات المحبة البشرية. بالكراهية المقيتة التي تستفحل بيننا ترانا نسير نحو منعطف الهاوية الخطيرة، وحتى الآن لا يوجد إحصاء كمي لحجم الكراهية التي تبثها وسائل الإعلام العربية والإسلامية والعالمية، ولا يوجد إحصاء مماثل لحجم الكراهية التي تنخر مجتمعاتنا، وللنجاة من ظلام تلك الهاوية المظلمة علينا أن نفكِّر في استراتيجيات ناجعة لتطويق الكراهية تمهيداً لقبرها؛ تفكيكاً وتقويضاً وتدميراً لكينونتها ووجودها وأثرها فينا، وتلك مهمة سامية لا بد أن يشترك بها الجميع. الإسلام وصف الكراهية بأنها فتنة ومنزلتها أشد من القتل
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©