الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحلم في مواجهة خيبات الأمل

الحلم في مواجهة خيبات الأمل
19 أغسطس 2015 21:45
الفيلم المصاغ بحس فني عال، يأخذنا بلطف وهدوء إلى واحدة من أقدم ثقافات العالم المنتمية إلى حضارة المايا العظيمة، بطقوسها الروحانية وأساطيرها ومعتقداتها التي تدور حول علاقة الإنسان بالطبيعة والكائنات الأخرى والكون الغامض. الفارق أن هذا يحدث اليوم في أكثر الأزمنة تقدماً من الناحية العلمية والتقنية والعمرانية، وهو يحمل رسالة ضمنية مؤسفة عن حال الإنسان الغواتيمالي الذي ينتمي إلى شعب المايا، خاصة الذي أصبح يعيش على هامش الهامش، في عزلة تجعله يبدو ساذجاً وعرضة للاستغلال بسبب بساطته وعدم حصوله على التعليم، والأكثر أسفاً أنك حين تشاهد هذا الإنسان تحضر بشدة حقيقة أنه ينتمي إلى ثقافة عريقة لطالما نظر إليها العالم بالكثير من الإجلال؛ لأنها تعتبر واحدة من أهم ثماني حضارات في العالم والتي يُقدر تاريخها بحوالي ثلاثة آلاف، إذ وصل تطور مدنها إلى أعلى مستوياته قبل وصول الإسبان إلى أميركا الوسطى، وهي الحضارة الوحيدة التي عرفت تطور اللغات الكتابية على مستوى الأميركتين إلى جانب تطور أنظمة الرياضيات والفلك وكذلك الهندسة المعمارية والفن. بهاء عرائسي يفتتح الكاتب/‏‏ المخرج بوستامنتي فيلمه بتجهيز العروس ماريا الجميلة ولكن الحزينة في آن، الألوان الزاهية للملابس التقليدية الرائعة التي تلف جسد ماريا في هذه المقدمة من الفيلم هي أحد الملامح القليلة المتبقية من بهاء وجمال تلك الحضارة المختبئة تحت الصخور الحادة والمائلة إلى السواد والتي تحتضن تحتها قرقعة البركان النشط الذي نشعر بوجوده طيلة الفيلم في خلفية المشاهد الطويلة وفي أصوات حمحمة النيران القادمة من جوف الأرض، وبين جنبات تلك الصخور الكبيرة تقع مزارع البن التي يعمل فيها جميع سكان هذه المنطقة المعزولة، إنهم يشكلون أفراد المجتمع الفقير المتبقي من سلالات غابت ولكنهم قد أصبحوا ضحايا الحضارة الجديدة التي لا نراها أبداً ولكن نشعر بتأثيراتها عليهم. فالشبان يعملون طيلة النهار ولكنهم في الليل ينفقون كل نقودهم على الكحول الذي لا يكفيهم لكي ينطفئوا فيستدينوا المزيد من المال الذي لا يستطيعون تسديده، وهكذا تكبر فاتورتهم مع مرور الأيام كما تزداد حاجتهم للانطفاء حتى ينسوا دينهم وأمانيهم في التحرر من هذا المكان بالهرب إلى المدينة الحلم التي تتسلل أنباؤها إليهم مع قوارير الكحول ورشفاته. البيئة الجبلية القاسية بقتامتها لا تمنح فرصة للإحساس بمزارع القهوة المنتشرة على جانبيها ولكنها تبرز نوعية السكان الذين يعملون بصمت، متواضعين وبسطاء وضحايا للجهل والأحلام المستحيلة، عائلة ماريا واحدة من هذا المجتمع وهي مكونة من الأب والأم وماريا، وهم جميعاً يعملون في قطف البن وفي الأعمال المنزلية اليومية المختلفة والشاقة أحيانا، ونتيجة لرغبة المدير المشرف على مزارع البن في الزواج من ماريا فإنه يمنح والدها عمل الإشراف على العمال وسكناً أفضل من بقية العاملين، وهكذا يتم الاتفاق عائلياً على تزويج ماريا منه، غير أن ماريا ذات السبعة عشر عاماً تكتشف أنوثتها حين تُعجب بأحد الشبان العاملين معهم في مزارع البن وتبني أحلامها من خلال الإصغاء لحلمه باختراق الحدود والهرب إلى العالم الآخر المتمثل في أمريكا، وشيئاً فشيئا نراها تقع ضحية أكاذيبه واستغلاله، فهو يطلب منها أن تمنحه نفسها إذا كانت تريد الرحيل معه وبعد أن تفعل يقول لها إن عليها أن تستمر في التعامل معه بلطف إن أرادت أن يأخذها معه وفي نهاية الأمر يهرب تاركاً إياها في مواجهة مشكلة الحمل في سن مبكرة. ستحاول الهرب ولكن سيشاهدها المدير على الطريق العام أثناء عودته من المدينة وسيعيدها إلى بيتها ولكن بعد أن يكون قد دب الشك في نفسه، مع هذا سيحتفظ بصبر الخبثاء الذين اعتادوا على المساومات والتعامل مع الظروف المتغيرة فهو الوحيد الذي له اتصال مباشر مع العالم الخارجي وهو يعرف لغة أهل المدينة وتجارها ومدرك في الوقت ذاته لقيمة ماريا كامرأة جميلة وقوية وقادرة على تحمل مسؤوليات البيت لأن والدتها قد أنشأتها على ذلك. عندما تعرف والدتها بالأمر تحاول مساعدتها على التخلص من الجنين بالطرق التقليدية وحين تفشل تقول لها إنها روح الجنين التي ترغب في الحياة بشدة، هذه المشاهد المتعلقة بالأجنة والأرواح يتم تصويرها في حضن الجبال الداكنة وعلى حواف صخورها الحادة حيث تدفع الأم بماريا للقفز فوق الصخور بعد أن لا يجدي شرب الأدوية العشبية في زحزحة جنينها من مكانه، نراهما معاً، الأم والابنة تتقاسمان الأسرار ووقع المصائب على كاهلهما في الخلاء وحيدتين في مواجهة الطبيعة الصخرية الحادة. وسيؤسس بوستامنتي، الكاتب/‏‏المخرج لعلاقات متوازية مثل الحمل الذي ينمو في بطن ماريا والبركان الذي يختبئ في جوف الأرض وستبدأ ماريا بالتعبير صراحة عن شعورها بأن هناك بركانا في داخلها. ومبكراً سنراها تعطي زوجاً من الخنازير بعض الكحول لمساعدتهما على التزاوج بعد أن يكون عصياً عليها حملهما على ذلك بمجرد وضعهما في الحظيرة. وستفعل الأمر نفسه قبل أن تمنح عذريتها للمُزارع الشاب حيث ستأخذ زجاجة الكحول نفسها وتشرب هي والشاب منها وهذه الحادثة تأتي تأكيداً على أمر مهم وهو أنها تذهب للشاب وكأنها تنفذ مخططاً وتستسلم له لا بفعل الرغبة ولكن بفعل الحاجة والتي تضعها في منزلة شبيهة بأنثى الخنازير التي كانت بحاجة لفقد توازنها حتى تتم عملية التزاوج. إنها تريد الخلاص من هذا المكان ومن الأعمال الرعوية التي عليها مكابدتها وهي تفعل ما بوسعها لتنجو من هذه القساوة والفوز بالحياة المدينية. أما المدينة التي حلمت بها فستتمظهر فيما بعد بصورة ستترك داخلها الكثير من الآلام التي لن تتعافى منها أبداً. وبعد أن تستسلم ماريا لنداء الجنين وتدعه ينمو في داخلها تجاوباً مع نصيحة والدتها يكون عليها أن تتحرك بحذر حتى لا يُكتشف أمر حملها وتخسر عائلتها المكاسب التي حصلت عليها من المدير، ولكن بعد أن يكبر الجنين ولا يكون هناك مجال لإخفائه تتلقى الدعم من والديها المحبين لها والمراعيين لوضعها ويقرران ترك المنطقة والتخلي عن المزايا التي منحهم إياها المدير والبحث عن مكان بديل للسكن. وعندما يبدأون بالبحث في الجوار تواجههم مشكلة الأفاعي التي تنتشر بكثرة في المنطقة وتُقنع الأم ابنتها بأن كونها حاملا ستستطيع السير في الحقل المليء بالأفاعي لأن جنينها سيحميها من جهة ولأن الأفاعي لا تلدغ النساء الحوامل من جهة ثانية، وتخبرها كذلك أنها عندما تسير في حقل الأفاعي فإن الأخيرة ستتراجع وتسمح لها بالإقامة في المكان بسلام احتراما لقدسية روح الجنين التي بداخلها. بوستامنتي يستخدم هنا لغته الرمزية من جديد في صياغته لهذا المشهد الجميل المبني على الأسطورة وعلى جمال الصورة بنفس الدرجة من الحساسية الفنية الرفيعة. الأفعى رغم معتقد الأم تلدغ ماريا الحامل وتعرض حياتها وجنينها للخطر الأمر الذي سيجعلهم يعودون لطلب العون من المدير الغاضب منهم والذي سيحملهم في سيارته للمدينة لإنقاذ ماريا، غير أن الثمن التي ستدفعه ماريا بسبب مساعدته ستكون حياتها بأكملها. ستنجو ماريا وسيبلغها المدير بأن الطفلة التي أنجبتها ماتت وأن المستشفى سيدفع لها مبلغاً من المال لصندوق الدفن. ماريا التي لن تتقبل أمر موت طفلتها يخيم عليها الاكتئاب وتتعلق بمكان دفنها وتنتابها حالة من الفراغ العاطفي بسبب الفقد، ورغم تحذير أمها من مغبة المساس بقدسية الموتى ورفاتهم إلا أنها ستهرب ذات ليلة وتنبش القبر وحين تخرج الصندوق ستكتشف أنه فارغ إلا من حجر ملفوف بقطعة قماش. ستذهب الأم والأب برفقة المدير إلى المستشفى الذي ولدت فيه ماريا في المدينة للتضرع لهم بإعادة طفلة ابنتهم التي لم تستطع نسيانها أبداً، وسنكتشف نحن كمشاهدين خدعة المدير لهم جميعاً والذي سيستغل عدم معرفتهم باللغة وسيقوم بتغيير كل ما يقوله المسؤول الإداري الذي سيستغرب من عودتهم لاستعادة الطفلة التي تثبت الملفات أنهم قاموا ببيعها للتبني. المشهد الأخير من الفيلم يعيدنا إلى المشهد الأول حيث كانت لقطة البداية مع العروس الشابة الحزينة ماريا أثناء قيام والدتها الحنون بتجهيزها للعرس. النقاء مواجهاً التشوّه الطريقة التي كتب فيها الكاتب/‏‏المخرج الغواتيمالي جايرو بوستامنتي نصه وخاصة في الجانب المتعلق بمشاركة المشاهد أحد الأسرار المهمة التي لن تكتشفها الشخصيات الرئيسية المعنية بالحدث هي التي ستعطي الفيلم قيمة أخرى، فيما عدا الإحساس الفطري لماريا بأن طفلتها على قيد الحياة فإن السر سيبقى دفين الفيلم نفسه وسيفوز المدير الماكر الذي تلطخت أخلاقه بخبث أهل المدن بماريا التي أرادها زوجة رغم كل العراقيل التي مرت فيها خطته. ليس هذا وحسب وإنما سيبدو وكأنه شهم وإنساني ومتفهم أمامها وأمام عائلتها وكأنه سيرضى بها رغم كل أخطائها وسيحتضن عائلتها رغم أنهم حاولوا الهرب مع ابنتهم للتخلص منه. والمخرج/‏‏ الكاتب يقدم من خلال هذه القصة البسيطة في شكلها العام والعميقة في مضمونها نموذج الإنسان النقي في مواجهة الشخصية المشوهة إنسانيا وأخلاقيا ويعبر بصورة ما عن ضياع الحلم البريء والبسيط، أما ماريا فهي مثال الفتاة التي تتعاقب عليها العوامل والأنفس المستغلة على السواء، حبيبها قد استغلها من قبل ثم جاء المدير الانتهازي الأكثر سيطرة وخبرة ليستفيد من ظروفها وجهلها ويحولها إلى ما يشبه الرقيق الذي يستطيع امتلاكه بالاعتماد على ماله وسلطته الإدارية وقدرته على الخداع. «بركان» فيلم يقترب من الموضوع بشفافية عالية وبأسلوب تأملي راق للشخصيات وتعقيداتها والبيئة المحيطة بها وهو يصورها بذكاء جم ومستوى فني رفيع، هو من جهة أخرى شهادة تعيد إلى الأذهان سيرة ثقافة المايا العريقة بكل ما فيها من رموز وطقوس وغنى وخصوصية والتي تم نسيانها ككل الأشياء الجميلة التي يتم نسيانها في ركب التسابق على بناء المدن الحديثة الخالية من الروح. إنه فيلم يعيد الروح لشعب المايا الأصيل وأحلامه ويذكر بحقوقه المدنية التي يفترض من العالم أن ينتبه إليها ولكنه وللأسف قد قرر نسيانها ونسيانه وعزم على تركه وحيداً في مواجهة فوهة البركان. عزلة وبساطة أبناء ثقافة المايا تحولهم إلى هدف لانتهازية الملطخين بأخلاق المدينة .................... فيلم يعيد الروح لشعب المايا الأصيل وأحلامه ويذكّر بحقوقه المدنية التي يفترض من العالم أن ينتبه إليها لفتة نبيلة بالإضافة إلى أن الفيلم يُعد لوحة فنية تم الاعتناء بإمعان ببنائها وفضاءاتها وتفاصيلها، فهو يُعتبر لفتة نبيلة ومدروسة لمجتمع وثقافة وبيئة جديرة بالاهتمام، ولشعب مسلوبة أحلامه بسبب العزلة المفروضة عليه قسراً، والمتمثلة بتركه في جغرافيا قاحلة ودون دعم للاحتياجات الأساسية البسيطة التي يحتاج إليها أي مجتمع والتي تشمل التعليم والرعاية الصحية والفرص الوظيفية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©