الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثنائية الذهب والورد.. تقابلات الفوضى والتنظيم

ثنائية الذهب والورد.. تقابلات الفوضى والتنظيم
17 نوفمبر 2010 19:32
بديوان مبكر في تجارب كتابة قصيدة النثر صدر عام 1960بعنوان مكثف “لن” ـ أداة نفي من حرفين توجز الرفض وتعلن التمرد ـ ظهر أنسي الحاج شعريا بعد نشر قصائده ومقالاته في مجلة (شعر) التي رافق ولادتها منذ عددها الأول شتاء 1957، وضمّه تشكيل جماعتها التي سيعترف بمناسبة ذكراها مؤخرا بغياب أثره في الجماعة “كنتُ في ذلك الوقت على الهامش كعشبة غريبة”، ولكن أثره سيظهر في مقدمة “لن” التي حظيت بما لم يحظ به شعره نفسه من الاهتمام والمناقشة، كونها البيان النظري الأول لمشروع قصيدة النثر، رغم سبق تمهيدات أدونيس ومقارباته في المجلة دفاعا عن قصيدة النثر وبسطاً لشعريتها. يتهيأ لي أن ما حصل مع مقدمة أنسي لـ”لن” شبيه بمقدمة ابن خلدون لكتابه الضخم في التاريخ، فقد نُسي الكتاب وشُهرت المقدمة وظلت متداولة، تقرأ منفصلة عن متن الكتاب. واستقلال مقدمة “لن” ليس في اقتطاعها كتنظير مبكر لقصيدة النثر، بل في تعمقها في مسوغات النثر في الشعر ليكون لنا ما وصف أنسي بأنه (نوع مستقل) كالرواية وقصيدة الوزن الحر. وقصيدته التي نعرضها هنا تثير مشكلات فنية وموضوعية لا تزال على لائحة قراءة قصيدة النثر ونقدها وكتابتها. في لقاء أجرته إذاعة مونت كارلو مع أنسي الحاج ضمن برنامج وجوه وأعادت جريدة “القدس العربي” نشره (14-12-2001) يتضح ندم الشاعر على تحديده تلك الشروط لقصيدة النثر، ويتمنى لو أنه لم يحدد؛ ففي الشعر “لا شروط ولا قواعد، ولا معنى للمقاييس المسبقة” وهو ما قاله بكلمات أخرى في المقدمة ذاتها، ما أوحى بتناقض ليس وحيدا في أطروحات أنسي الحاج، بل يمكن أن نسجل بجانبه تناقض دعوته لأن تكون قصيدة النثر قصيرة، وتقديمه نصوصا طويلة في الديوان نفسه، وتبنيه لفكرة مزاوجة النظام والفوضى في قصيدة النثر، مثيرا القلق في إمكان تصور انضباط نصي وانتظام مع الفوضى والاتكاء على السرد الذي يشير أنسي مبكرا إلى ضرورته لقصيدة النثر؛ فيؤكد أن أدوات النثر كالسرد والوصف والاستطراد يمكن أن تتخلص من زمنيتها، ووظائفها النثرية، وتعمل لغايات شعرية، وفي المقدمة تفريق بين القصيدة والشعر؛ فالقصيدة عالم مستقل مكتف بنفسه، لأنها تعيد النظر في قوانين الشعر عبر بنائها، ويلفتنا كذلك للمؤثرات التي مهدت لكتابة قصيدة النثر كالترجمات عن الشعر الغربي، وبدايات الشعر المنثور والنثر الشعري، لكن أخطر ما في المقدمة سؤالها الاستهلالي: هل يمكن أن يخرج من النثر شعر؟ وهو سؤال يمر عليه الآن نصف قرن لكنه يظل مشرعا للنقاش والتأمل، ويليه الانتباه إلى أن الموسيقى الخارجية (موسيقى الوزن والقافية) لا تصلح لشاعر عالمنا المتغير ذي الإحساس الجديد رغم عدم إشارته لبديل (إيقاعي) عن غياب الموسيقى الوزنية في قصيدة النثر التي طالب خصومها بعدم تعجل موتها والحكم عليها، وهي لم يمض عليها في زمن كتابة المقدمة سوى عامين أو ثلاثة، غير منكر أن ثمة إسفافا وإدعاء بكتابتها عن جهل بها وإساءة إليها.. وهو ما نراه في بعض النصوص المكتوبة تحت مسمى قصيدة النثر حتى اليوم. الذهب والورد تظهر مشاكسة أنسي الحاج للنسق الشعري التقليدي بدءا من عنوان القصيدة المكون من جملتين استفهاميتين يتصدرهما اسم الاستفهام (ماذا) ولكن دون أن يختمهما بعلامة استفهام، مثيرا تناقضا آخر بين الوظيفة النحوية لتركيب الاستفهام كسؤال، والوظيفة الشعرية له كدلالة متوسعة تخرج به إلى التقرير (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة) لاسيما بتعاطف الجملتين دون رابط نحوي، الواو مثلا، فيكون على القارئ تسلم نص متردد بين الإخبار والاستفهام الذي سيثبته أنسي في المتن حيث ترد الجملتان منتهيتين بعلامة السؤال، كما يثير العنوان تزاوج الذهب بالصناعة والورد بالفعل، وذلك يناسب معدن الذهب كصناعة مجتلبة، والورد كشيء طبيعي غير مصنوع، وما يتنزل عن ذلك التقابل بينهما من دلالة على زيف الأول وأصالة الثاني. وطول النص المكتوب المنشور عام 1970 في ديوان يحمل اسمه أيضا، يثير تناقض الدعوة لكتابة قصيدة نثر قصيرة وبين الاستطراد والتطويل والتداعيات اللغوية في هذا النص رغم أن أنسي سيتراجع عن شرط القصر ويتحفظ في لقاء الإذاعة عام 2001 بالقول قصيرة نسبيا، ويمكن أن نقرأ القصيدة على أساس مقطعي أي نبحث عن تبدلات وتحولات في إيقاعها وخطابها بين سطوره وعبر نموها الحدثي فهي تستعين بالسرد وتخاطب جماعة غائبين منذ بيتها الأول: “قولوا هذا موعدي وامنحوني الوقت” وبذا يواجه الفرد/ الشاعر المخاطبين/ الجماعة، ومن هذا التقابل تصنع القصيدة خطابها الذي ينطوي على حس نبوي وتبشيري فكأن الشاعر يكرز ببشارة، أو يخطب في شعب من المؤمنين به والمترددين عن ذلك.. فلغته ذات إيحاءات إشراقية تستدعي لغة الكتاب المقدس، ولغة جبران في نثره الشعري كذلك، وبميزة التناقض يعتمد أنسي الألوان للتعبير عن رؤيته لعالم خيالي في بحثه عن إجابة لسؤال الذهب والورد، محيلا ذاكرتنا لنصوص معروفة لرامبو يظهر فيها الانزياح بنسبة اللون للكلمة والصوت للون، فيكتب أنسي مبكرا تداعيات متصلة تعتمد اللون فنجد في “لن”: (كلمة سمراء ولغوا أشقر)، ولكن هذا النص المعروض للاستعادة هنا يؤسس لذاكرة لونية في خاتمته بالقول: “العالم أبيض/ المطر أبيض/ الأصوات بيضاء/ الحبر أبيض/ قلبي أسود بالوحشة ونفسي حمراء/ والكلمات بيضاء”. وتنقلنا هذيانات النص الخيالية ورؤاه الحلمية إلى تخيل لون متولد عن نقيضه: “وكنت في ثياب لونها أبيض/ لأنها كانت حمراء/ والثلج الذي أثلجت كان أحمر/ لأنك كنت بيضاء” وفي هذا التناقض اللوني تأكيد لميزة التناقض التي تسم لغة أنسي ورؤيته الشعرية، تماما كاصطفاف رامبو كمؤثر في لغته وصوره، وحضور نشيد الإنشاد بلغته الغزلية في قوله مسترسلا في وصف حبيبته: “جميلة كمعصية وجميلة/ جميلة كقمر الأغنية/ جميلة كأزهار تحت ندى العينين”. دقة الفوضى ولكن الفوضى الظاهرة في خطاب النص وتحوله من مخاطبة جماعة لخطاب امرأة ثم لمفرد مذكر لا يمنعنا من رؤية الدقة في اختيار الشاعر لكلماته، ففي قوله (محبتكم صيف وحبي الأرض) تبدو حساسيته اللغوية، فالمحبة نسقية ومكررة يمكن للجميع أو ينجزوها للجميع برحمة روحية ودينية لا سيما وهي من أدبيات العهد الجديد، ولكن الحب شخصي وفردي وذو حمولة دلالية دنيوية ترتكز على الرقة والتهذيب النفسي وتبادل فعل الحب الذي يرمز له الورد في القصيدة، بينما تتضاءل العلاقات المصنوعة رغم بريقها كما يوحي منظر الذهب. لا سيما وأنسي شاعر غزل يعتز بتجاربه في الكتابة عن الحب والمرأة التي لا تغيب عن نصوصه فهي جميلة يجد لها من الأوصاف ما يقربها من صفات امرأة نشيد الإنشاد، وهي في هذا النص حاضرة في زاوية النظر نفسها إلى العالم والأشياء والآخر والعلاقة بها أيضاً، كما أن تمرد أنسي يظهر عبر تحرر تلك العلاقة من نواميس الآخرين وتقاليدهم الموروثة، ومواضعاتهم الاجتماعية والتي سيسميها لاحقا بغضا لا تمردا: بغضا للظلم والعبودية يولد صراعاً، وعدوانية هي جزء من تناقضات الشاعر الشخصية التي يعترف بوجودها. ومن مظاهرها في النص قوله (وكنت أظن أنك وديعة لتغفري لي/ أنك وديعة لتقبلي آثامي/ أنك وديعة لأفعل بك كالعبيد) ملاحظين استخدامه الفعل لا الصنع عند الحديث عن الحبيبة مؤاخيا لها بالورد. لقد أنجز أنسي في نص “الذهب والورد” هذا خطابا مزدوجا لقصيدة النثر التي اهتم منذ البداية بعالمها اللغوي وهذيانات الخيال التي تنتظم داخل النص، وتصبح جزءا من تحقيق برنامج أنسي الحاج في جمع الفوضى والتنظيم ضمن فضاء قصيدة النثر وحريتها المتناقضة أيضا بين التسيب الإيقاعي والصوري واللغوي ظاهريا، وانبنائها على التكثيف والترابط والإيقاع البديل المخلوق بالتقابل والتعارض والتوافق والتكرار. من «الذهب والورد» قولوا هذا موعدي وامنحوني الوقت سوف يكون للجميع وقت، فاصبروا اصبروا عليَّ لأجمع نثري. زيارتكم عاجلة وسفري طويل نظركم خاطف وورقي مبعثر محبتكم صيف وحبي الأرض.. صارت لغتي كالشمع وأشعلتُ لغتي وكنتُ بالحب. لامرأة أنهضتُ الأسوار فيخلو طريقي إليها. جميلة كمعصية وجميلة كجميلة عارية في مرآة كقمر الأغنية من كفاح الأيام أقبلتْ وفاءً للنذور ومكافأةً للورد ولمعتُ منها كالجوهرة. وكنتُ في ثياب لونها أبيض لأنها كانت حمراء جسدي كالخزف، ولغتي كالشمع اتخذت الحب عوض كل شيء... مكان كل شيء فماذا صنعتُ بالحب وأخذتُ ذهب النساء وردة الذهب فماذا صنعتُ بالذهب وماذا فعلتُ بالوردة؟ انقلوني إلى جميع اللغات لتسمعني حبيبتي... العالم أبيض المطر أبيض الأصوات بيضاء جسدك أبيض وأسنانك بيضاء الحبر أبيض والأوراق بيضاء قلبي أسود بالوحشة ونفسي حمراء لكن لوح العالم أبيض والكلمات بيضاء
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©