الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

"انا بوليتكوفسكايا".. ثورة بلون الدم

27 أكتوبر 2006 23:08
السعد عمر المنهالي: ''ليست الثورة البرتقاليّة متوقّعة عندنا، ثورتنا نحن ستكون حمراء من لون الشيوعيين، أي من لون الدم''، بهذه الجملة التي لا تحمل سوى الشؤم، وضعت الصحافية الروسية ''آنا بوليتكوفسكايا'' شكلا لنهاية حياتها دون أن تدري أن حياتها الثائرة ستنتهي بالدم وليس بلونه فقط· وإن كانت في جملتها تلك قد وضعتها تكهنا بدور اليسار المتطرف في تغيير مستقبل بلادها، إلا أنها رسمت لوحة تقديرية لحال الإنسان في وطنها، لوحة سوداوية تنبأت بتغيير مأساوي شارك فيه آلاف الشيشانيين آلام الظلم ولون الدم· ولدت ''آنا بوليتكوفسكايا'' في الثلاثين من أغسطس عام 1958 في ولاية ''نيويورك'' الأمريكية، حيث كان والداها الأوكرانيان يعملان في البعثة الدبلوماسية في الأمم المتحدة التابعة للدولة السوفيتية، غير أنها تلقت تعليمها في بلادها روسيا وحصلت على الدرجة الجامعية في الصحافة من جامعة موسكو الرسمية عام ·1980 التحقت ''آنا'' بالعمل الصحفي في وقت شهدت فيه بلادها محاولات إصلاح النظام الشيوعي وصلت أوجها نهاية الثمانينات بداية التسعينات مع التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبيرة والتي كان من أهم نتائجها خصخصة القطاعات الاقتصادية الكبرى المملوكة للدولة وبدأ منح الاستقلال لجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وبالفعل كان عمل ''آنا'' في صحيفة "Izvestia" اليومية قبل أن تعمل في ''''Obshchaya ومن ثم صحيفة "Novaya" كمحررة مهتمة بمتابعة الكلفة الاجتماعية والإنسانية التي فرضت على الشعب الروسي نتيجة لتك التحولات، فاستطاعت أن تجد طريقا خاصا ومميزا في إحدى أكثر البيئات المهنية صعوبة· كانت الحرب في الشيشان نقطة انطلاقة مختلفة تماما في حياة الصحفية الروسية ''آنا بوليتكوفسكايا''، فقد كان الرد العسكري الذي واجهت به الحكومة الروسية محاولة الانفصال -وإعلان استقلال الشيشان من جانب واحد في نوفبمر عام 1991- نافذة جديدة بعيدة عن الإعلام سعت الدولة الروسية إلى إغلاقها عن أنظار الجميع، غير أن ما يحدث هناك في الأراضي الجنوبية للدولة الروسية كان محل اهتمام الصحفية ''آنا'' التي قررت استقصاء ونشر ما منع عنه غيرها من أقرانها من أبناء المهنة· نشطت ''آنا بوليتكوفسكايا'' نهاية التسعينات بعد الحرب الروسية الثانية على ''جروزني''، فحاولت خلال عملها في صحيفة ''نوفايا جازيتا'' نصف الشهرية أن تنقل معاناة الشعب الشيشاني بعد أن أغلقت كافة الأبواب في توصيل ظروفه للعالم الخارجي سيما للتأثير على الرأي العام الروسي لدفع متخذي القرار في الكرملين لوقف الحرب هناك· فانتقلت من راصدة لعدد قتلى وجرحى الحرب إلى مناقشة ومفندة لأسبابها بل وإلى ناقدة لنظام دولتها وسياستها في الأراضي الشيشانية!· اليتامى والمقابر الجماعية ركزت ''آنا بوليتكوفسكايا'' وقت اهتمامها بالوضع الشيشاني بمتابعة ملاجئ اليتامى وأوضاع المعوزين المتضررين من الحرب، ورغم أنها في بداية نشاطها المهني -في تلك البقعة المتوترة والتي لا تزال بلادها ترفض منحها الاستقلال- وهي على قناعة بأن لروسيا الحق فيما تقوم به من حماية لأمنها القومي، غير أن تلك القناعة تغيرت تماما بعد أن أصبحت على الجبهة الأخرى من المعركة· كانت الممارسات الروسية سواء من الجيش الروسي أو الشيشاني المدعوم من الكرملين اقدر على تغيير قناعتها عما تلقته من الآلة الإعلامية الروسية التي عمدت لسنوات طويلة على رسم صورة مخالفة تماما عن معاناة هذا الشعب، معتمدة في الوقت ذاته على إقصاء الآخرين عن أي صورة مختلفة عما ترسمه للروس وللعالم· كان نقل الواقع الحقيقي للداخل الشيشاني هدفا لا مجال للنقاش بشأنه في عرف ''آنا بوليتكوفسكايا'' الأمر الذي بدا - كما اعتبره بعض المهتمين بتقاريرها الدولية التي كانت ترسلها لصحيفتها- وكأنه سلخ مستمر لروح روسيا، خاصة وان فضحها للأعمال الوحشية بالتواريخ والأسماء كان بهدف - كما صرحت آنا- توثيق حوادث يمكن أن تعتبر وثائق لمحكمة جرائم يمكن أن تنشأ مستقبلا لمعاقبة القائمين على هذه الحرب· يبدو أن هذا الطريق الذي اعتمدته ''آنا'' قد أثار عليها جبهات مختلفة وإن تباينت فيما بينها، غير أنها اتفقت في اعتبارها هدفا يجب إزاحته، وهو ما عبر عنه احد كتاب صحيفة ''الجارديان'' في مقال كان قد كتبه عنها بقوله أن ''آنا استهلكت أرواحها التسعة''، في إشارة للمرات التي حاول فيها منتقدوها والمتضررون من مقالاتها التخلص منها، فقد حبستها القوات الروسية في الشيشان في احدى المرات في فتحة تحت الأرض، كما هددت مرارا بالاغتصاب والقتل، وفي احدى المرات تعرضت لتسمم أثناء طريقها لمدينة ''بيسلان'' أثناء احتجاز بعض الانفصاليين الشيشانيين أطفال مدرسة في سبتمبر عام ·2004 اضطرت ''آنا'' لأوقات ما لمغادرة روسيا بعيدا عن التهديدات التي لاحقتها، غير أنها لم تكن تبقى بعيدا فكانت تعود من جديد لتلقي بنفسها في أحضان القضية التي وهبتها حياتها، وهو ما خرج في كتابها الذي أسمته ''حرب قذرة'' لعام 2001 قلبت فيه الطاولة على المدافعين عن شرعية ومشروعية التواجد الروسي في الشيشان، دون خوف، كذلك كان حال باقي إنتاجها الذي أكد على انتهاكات حقوق الإنسان في الشيشان، والذي أخذت فيه ''آنا'' منحى آخر أكثر نقدا للغرب وللقوى الدولية التي بدعوى الحرب على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر غضت البصر عن ممارسات روسيا في الشيشان، محاولة بذلك استثارتهم للتدخل والتأثير على القرار الروسي بما ينهي المأساة الإنسانية هناك· نكتة الغرب ظلت القضية الشيشانية منسية، تخرج من وقت لآخر حسب ما تضطر الآلة الإعلامية للحديث عنها، فقد استطاع الروس وبجدارة تهميش هذه القضية وتحييدها على طاولتها، غير أن الأحداث الجسام كانت تعيد أهمية الشيشان بقوة إلى ذاكرة العالم، كما حدث أثناء حادثة مسرح موسكو في أكتوبر عام ،2002 وأثناء حادثة مدرسة بيسلان في سبتمبر عام ،2004 وفي أحداث عديدة سابقة لذلك هدفت للفت انتباه الرأي العالمي للقضية الشيشانية واستدعاء الذاكرة الإنسانية لوقف نزيف الدم هناك، غير أن المصالح الروسية مع القوى الدولية المؤثرة كانت أقوى بكثير من المشاهد الموسمية التي ترد عبر وسائل الإعلام والمعبرة عن الوضع المأساوي للشيشانيين· ولعل هذا ما يتكرر الآن مع حادثة قتل الصحافية ''آنا بوليتكوفسكايا''، فالمصالح الأمريكية والغربية عامة تلعب دورا محوريا في تحريك ملف حقوق الإنسان والأوضاع في الشيشان، إذ تظل هاتان القضيتان رهنا بمصالحه، وهو ما يدفعنا للتوقع أنهما ستظلان قضايا موسمية، خاصة وان ملف كوريا النووي والرغبة الدولية بموقف روسي أكثر حزما فيه، بالإضافة إلى عدد آخر من الملفات كملف إيران، تجعل من قضية قتل الصحافية الروسية مجرد عدد آخر جديد يضاف إلى أعداد سابقة في ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان ورقم يزيد في عداد ضحايا حرب الروس في الشيشان· ويبدو أن طبيعة التهكم التي اعتادت الصحفية ''آنا بوليتكوفسكايا'' التحدث بها لوصف الطريقة التي تتعامل بها الحكومة الروسية مع قضية الشيشان، يجب ان تُستحضر الآن مع تزايد ارتفاع أصوات المنددين بمقتلها، سيما ما صدر عن الغرب ومن الولايات المتحدة على وجه الخصوص، فأين كانت السيدة وزيرة الخارجية الأمريكية '' كوندوليزا رايس'' التي اجتمعت بزملائها الصحفيين في الثالث والعشرين من أكتوبر عام 2006 أثناء زيارتها لموسكو وعبرت عن أسفها لمقتلها مقدمة تعازيها لنجلها وزملائها، وفيما بعد اللقاء المشحون بالعواطف - كما ذكرت الوكالات- توجهت لتناول العشاء مع وزير الدفاع الروسي؟، كذلك حال التهكم على موقف الأوروبيين الذين طالبوا على لسان المفوضية الأوروبية للشؤون الخارجية ''بنيتا فيريرو'' بتحقيق واف ونزيه في حادث مقتل الصحفية ودعوة موسكو لزيادة حرية الصحافة في حين ظل جنرالات الحرب يحصلون على الأوسمة من حكام أوروبا، وذلك تأكيدا لقولها ''إن أوروبا أعلنت بوضوح من خلال حكّامها تأييدها لبوتين ولو كان أكثر الرجال شرّاً'' !!·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©