الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ومن الحجارة ما يسرد الأساطير

ومن الحجارة ما يسرد الأساطير
6 يناير 2008 00:45
كان رذاذ المطر التمّوزي بمثابة إشارة أولى لمكان مغاير وأجواء مختلفة عما عودنا عليه صيف المملكة العربية السعودية الملتهب· حماس سائق الأجرة وهو يشرح لنا أهمية قرية ''ذي عين'' التاريخية وأعلامها من الرجال كأبي هريرة الصحابي الجليل، و''الشنفرى'' شاعر أزد الصعلوك، كان الإشارة الثانية والتي تتالت بعدها لطائف الزيارة وفيوض المكان· تعدّ الباحة منطقةً سياحيةً بامتياز، وتشكل -للداخل والخارج- مركز جذبٍ بلغت أهميته أن خصصته عدة سفارات أجنبية وجهة لوفودها الزائرة· كما فازت قرية ''ذي عين'' الأثرية بجائزة أفضل موقع سياحي من خلال تصنيف الهيئة العليا للسياحة في المملكة العربية السعودية، الأمر الذي وجه أنظار مشغلي السياحة والسائحين على حدٍّ سواء بالاتجاه إليها، والعمل على رفع سوية الخدمات السياحية فيها، وإن كانت -إلى حين زيارتنا- ينقصها الكثير!· أسرار التسمية تقع ''ذي عين'' في منطقة الباحة الواقعة في الجنوب الغربي من المملكة العربية السعودية، وهي من أصغر مناطق المملكة العربية السعودية (36000 كم2) موزعة على 1200 قرية؛ ويحدّها من الشمال والغرب مكة المكرمة، ومن الجنوب والشرق جبال عسير، وتحتل منطقة الباحة أهمية كبيرة على الخارطة السياحية، حيث تعتبر في منتصف الطريق ما بين الطائف وأبها، وهما مدينتان سياحيتان أيضاً؛ وهي مؤلفة من عددٍ كبيرٍ من الجبال والقمم والغابات (حوالي 40 غابة) مثل غابة رغدان والقمع وغابة شهبة· وقد خدّمت المنطقة بمطار داخلي، وفنادق فخمة ومتنزهات، كما يمنح (التلفريك) للمنطقة وسيلةً سياحيةً جميلة للانتقال بين جبال السراة الشاهقة وسهول تهامة· على مسافة عشرين كيلومتراً من مدينة الباحة تقع قرية ''ذي عين''، وكانت طريق الحجاج القادمين من اليمن، ومركز تحصين عسكري أيام حروب القبائل قبل توحيد المملكة· وأخذت اسمها من جبلٍ فيه عين جارية، كان مصيفاً لأهل الوادي يضعون فيه نحلهم خلال فترة الصيف اللاهب، لبرودته، وفيه يقول المؤرخ ابن الجلال: ''سقطت عصىً لحاجٍ يمني في بئر من آبار تعز باليمن، فتجاهلها وأكمل مسيرته للحج، وعندما وصل هذا الجبل، مرّ ليتوضأ من عين مشهورة فيه، فوجد الماء قد ساق عصاه من اليمن حتى خرجت من تلك العين (!)''· كما أن للتسمية قصة طريفة أخرى كما سمعناها من أهل المنطقة تقول: إن أهالي القرية أصيبوا ذات يومٍ بقحط شديد، ومرّ بهم أعرابيٌّ يبحث عن عصا له فقدها عندما كان يرعى الغنم في البادية التي تبعد مئات الكيلومترات من موقع القرية في الجزء الشمالي من الباحة، وقال لهم: ''ابحثوا في هذا الموقع وسيخرج الماء لكم''، وبالفعل قاموا بالبحث وهو واقف معهم فانطلقت العصا من النبع وأصابت عينه واستقر طرفها بجفنه وظل يمشي في الوادي والعصا تنغرز فيه لم يخرجها والماء يتبعه حتى وصل إلى نقطة معينة في الوادي ونزع العصا فغار الماء في الأرض· عند هذا الموقع الذي أكد أهل القرية أن الماء لا يتجاوزه أبداً (!)''· وقد بدأ الناس في بناء منازلهم هناك مع تمام الألف للهجرة· واشتهر من أهلها أحمد بن سعيد الزيداني وله مصنف في الفقه· ومر بها العثمانيون واستفادوا من رخامها العالي الجودة (إذ اعتبر الجبل الذي تشرف عليه ''ذي عين'' مكوناً من المرمر)، كما استفيد منه أثناء توسعة المسجد الحرام وأقيم معملٌ بقربها· مناخ القرية حار صيفاً معتدل شتاءً، وذلك لكونها في منطقة منخفضة، وترتفع عن مستوى سطح البحر بحوالي 1985 متراً، أمطارها غزيرة جداً في الصيف بسبب موقعها بين كتلة من الجبال مما يودي إلى تكثف الغيوم وهطول الأمطار الرعدية، وعادة ما تكون متوسطة في فصل الشتاء مما وهبها أرضاً زراعية ممتازة، فقد اشتهرت بزراعة الليمون والكادي والريحان والنخيل والحبوب كالذرة والدخن· ولكن يظل موز المنطقة، والذي يمتاز بقصره وسماكته ومتانة قشرته وطعمه المعتدل الحلاوة بخلاف الموز المعروف في الأسواق، أهم محاصيلها التي تقصدها المناطق المجاورة· بيوت الحجر تبقى من القرية اليوم 31 منزلاً، ومسجد صغير· تحيطها مزارع غنّاء، ترتوي من العين الشهيرة الموجودة في القرية، ويتم تقسيم هذه المياه حسب نظام قروي قديم يعرف بـ(الشِرب)، حيث يتقاسم الأهالي مياه العين لري المزارع بناء على حجم المزرعة والمساحة المزروعة في الأرض· أما بيوتها، فقد بُنيت على قمة جبل وشُيّدت من الحجر الصخري، مسقوفةً بأشجار العرعر التي تنقل إلى القرية من الغابات المجاورة، وزينت شرفاتها بأحجار المرو · وتتعدد أدوار المنازل في القرية من دورين وتصل إلى سبعة أدوار· وتكاد تكون طريقة تقسيم المنزل وأدوار المباني السكنية، واحدة لكل البيوت في القرية، إذ يضم الدور الأرضي حظيرة حوشاً للماشية، بجواره من الخارج سور صغير الارتفاع توثق حوله حيوانات الركوب، ويخصص الدور الثاني لتخزين الأمتعة والأدوات والمواد الغذائية، وتخزن المحاصيل الزراعية والحبوب في مكان يسمى السفل ، وتخصص الأسر الدور الثالث للسكن، ويكون موزعاً في عدد من الغرف، ويطلقون عليه اسم (عليّة)، ويشمل صالة كبيرة ومطبخاً، ويستخدم السكان في القرية سطوح المنازل لتكون مكاناً لالتقاء أفراد العائلة والجيران، ويحيط بالسطح جلسة من جميع الجهات، وغالباً ما تحتوي المنازل على غرفة سطحية للنوم صيفاً، كما تستخدم كجلسة استراحة· وتزرع العائلات أحواض الرياحين والورود والنباتات الصغيرة على السطوح لتلطيف الجو وتعطيره· يخترق القرية عدد من الطرقات يتراوح عرض الطريق الواحد منها ما بين ثلاثة وخمسة أمتار، وترتبط بطريق يؤدي إلى منبع الماء من العين حيث يستقي الأهالي منها وتُسقى المزارع، كما ترتبط بطريق آخر يوصلها بمنطقة منبسطة تسمى (العيينة)، وهي أرض مخصصة لاحتفالات الأهالي الشعبية في مواسم الأفراح والأعياد· وجميع طرق القرية مرصوفة بواسطة الحجارة، وتكون على أماكن مائلة وتشق الطرق من المكان المائل وتُملأ بالتراب وتصف بالحجارة بشكل هندسي جميل، يدلل على خبرة ودراية أهالي القرية بأساليب البناء وشــــقّ الطرق في تلك المناطق الوعرة· لقد صدقت مقولة ابن المنطقة وهو يصف لي ''ذي عين'' بأنها أثرٌ لا تقل أهميته عن أي أثر حضاري إنساني عالمي، فقد عايناها (بأم العين)، ونحن نمشي على أرضٍ من مرمر ونلمس السحاب بأصابع دهشتنا ونحن نتجول بين بيوتها الحميمية· ''ذي عين''·· مدينة تعلق بالذاكرة ومكان سيظل يرتاده القلب·
المصدر: الرياض
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©