الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كسوة الكعبة رحلة حب في كل عصور الإسلام

كسوة الكعبة رحلة حب في كل عصور الإسلام
15 نوفمبر 2010 20:28
الكسوة الشريفة أو كسوة الكعبة كانت ومازالت موضع اهتمام العرب والمسلمين ليس فقط لأنها تمثل نوعا من التشريف الواجب نحو البيت العتيق، بل ولأنها أول وآخر ما تكتحل به أعين زوار البيت الحرام في مواسم الحج والعمرة، وتبقى صورتها عالقة بالأذهان إذا ذكرت الكعبة المشرفة بل ومكة المكرمة في أي محفل كان. يبدو جليا أن العرب منذ ما قبل الإسلام كانت تحرص على كسوة البناء الحجري للكعبة بالأقمشة، لتستر به مداميك البناء عوضا عن حجب البناء المقدس كما رفع قواعده أبو الأنبياء إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام بالملاط أو الرخام وذلك على سبيل الحفاظ على الصورة الأصلية للكعبة بلا تبديل. ويذهب الإخباريون العرب مذاهب شتى في تعيينهم لمن كان له شرف كسوة الكعبة لأول مرة فمن قائل أنه كان سيدنا إسماعيل عليه السلام، وهناك من يذكر أنه كان عدنان الجد الأعلى للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تتابع العرب بعد ذلك على كسوتها بالأستار. وأول شخصية تاريخية نسبت إليها كسوة الكعبة كان “تبع أبي كرب أسعد” ملك حمير باليمن وقد كساها بنسيج يمني كان يعرف باسم “الخصف” عند عودته من غزوه ليثرب قبل نحو قرنين من البعثة النبوية، وينسب لتبع أنه كسا الكعبة بأقمشة يمنية فاخرة، منها “المعافير”و”الملاء”، وهي كسوة لينة رقيقة وعمل للكعبة بابا ومفتاحا. وتتابع ملوك حمير على كسوة الكعبة من بعده، فمنهم من كساها بأقمشة مثل “الوصايل”، وهي نسيج تميز بخطوط حمراء طولية، و”العصب”، وهي أقمشة ظل اليمن ينتجها طوال العصور الإسلامية وتستخدم فيها خيوط مصبوغة مع أخرى غير مصبوغة، ومنهم من كساها بالمسوح، وهي كسوة من شعر الإبل، و”الأنطاع” وهي كسوة من جلود الماشية. تشريف ونذور كان من عادة أمراء العرب في اليمن والحيرة أن يهدوا كسوات للكعبة على سبيل التشريف أو النذر، فنسمع عن “مطارف الخز” الخضر والصفر والخز قماش صوفي رقيق، وهناك أيضا “النمار العراقية” و”كرار الخز” وكلاهما من الحرير و”الحبرات اليمنية”، و”الأنماط” وهي بسط سميكة من النسيج، وكانت العادة أن تطرح الكساوي الجديدة فوق القديمة حتى بدت الكعبة مثقلة بطبقات من الأقمشة. وبدأت قريش تستأثر بكسوة الكعبة مع بداية العمل بتنظيمات قصي بن كلاب لشؤون البيت العتيق، ففرض على قبائل الحرم تمويل أو رفادة الكسوة سنويا، وظلت في بنيه حتى فتح مكة. وطلب “أبو ربيعة بن المغيرة المخزومي”، وكان ثريا بمكة، أن يقوم هو وحده بكسوة الكعبة في عام، وتقوم قريش بكسوتها في عام فكان له ما أراد ولذا سمته العرب “العدل” لأنه عدل أو ساوى قريشا بأسرها بعمله النبيل هذا. وأول كسوة كانت للكعبة على سبيل النذر كانت تلك التي قامت بها “نبيلة بنت حباب”، أم العباس بن عبد المطلب، وذلك بعد أن أضاعت ولدها “ضرار” فنذرت أن عثرت عليه أن تكسو الكعبة بالحرير والديباج فلما ظفرت به أوفت بنذرها. أما في العصر الإسلامي فمن المعروف أن قريشا لم تسمح للرسول محمد “صلى الله عليه وسلم” بدخول الحرم أو كسوة الكعبة في واقعة “صلح الحديبية”، فلما كان فتح مكة في عام 8هـ أبقى الرسول الكريم على كسوة الكعبة ولم ينزعها إلى أن حاولت امرأة تبخير أستار الكعبة فاحترقت، عندئذ كساها الرسول صلى الله عليه وسلم بالثياب اليمنية وكذلك فعل أبو بكر الصديق الخليفة الأول. الكسوة المصرية بدأت مصر تدخل زمرة الأقاليم التي صنعت بها أقمشة كسوة الكعبة بعد فتح المسلمين لها في خلافة عمر بن الخطاب، فنعلم أن الفاروق وكذلك عثمان بن عفان، رضي الله عنهما، قاما بكسوة الكعبة “بالقباطي المصرية”، وهي أثواب بيضاء رقيقة كانت تشتهر مصر بصناعتها من الكتان الفاخر المطرز بزخرفة نسجية من الصوف أو الحرير. ومنذ تولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة درجت عادة خلفاء الأمويين على أن تكسى الكعبة مرتين في العام الأولى، منهما في يوم “عاشوراء” وكانت الكسوة من قماش الديباج “القطيفة الحريرية”، والثانية في التاسع والعشرين من رمضان استعدادا لعيد الفطر وموسم الحج وكسوتها كانت من القباطي المصرية. ولم تتخلص الكعبة المشرفة من ثقل الكسوات المتتابعة إلا في أيام الخليفة العباسي المهدي الذي وجدها فرصة سانحة للتخلص من الكسوات السابقة للأمويين، بعدما رفع إليه أنه يخشى على بناء الكعبة من ثقل الكسوات المتراكمة عليها، وأمر المهدي في عام 160هـ بتجريد الكعبة من سابق الكساوي وألا يسدل عليها سوى الكسوة الجديدة. في عهدة العباسيين جاء الخليفة المأمون العباسي ليجعل للكعبة ثلاث كسوات، أولها في غرة رجب، وهي من القباطي المصرية، والثانية في السابع والعشرين من رمضان، وهي كسوة من الديباج الأبيض، أما الكسوة الثالثة وكانت من الديباج الأحمر فكانت توضع في يوم التروية تشريفا لموسم الحج. ومع سيطرة الفاطميين على الحجاز والخطبة لخلفائهم على منابر الحرمين الشريفين بمكة والمدينة المنورة صارت الكسوة تحمل من مصر عدا بعض سنوات قليلة شهدت اضطرابات أو سيطرة للعباسيين على الحرمين. وقد اشتهرت مدن “تنيس” و”دبيق” و”تونة” وكلها كانت مزدهرة فيما بين موقع بورسعيد حاليا ومدينة دمياط بقيام دور الطراز فيها بصناعة كسوة الكعبة منذ العصر الأموي وطوال العصرين العباسي والفاطمي، إلى أن قام الصليبيون بالإغارة عليها وتدميرها طمعا في ثروات تجارها وما تحفل به من أقمشة كانت لها شهرة عالمية آنذاك. فضلا عن غرض الصليبيين الحاق أي أذى بالشعائر الإسلامية. روايات من التاريخ احتفظ بعض ممن عاينوا كسوة الكعبة بطرف من الكتابات أو “الطراز” الذي كان يسجل على كسوة الكعبة. فينقل الفاكهي في كتابه “أخبار مكة” أنه رأى كسوة مكتوبا عليها “مما أمر به السري بن الحكم وعبدالعزيز بن الوزير الجروي سنة سبع وتسعين ومئة”، وكان السري قد استقل بحكم مصر عقب الفوضى التي عمتها بسبب النزاع بين الأمين والمأمون وتقاسم السلطة مع الجروي صاحب شرطته. وشاهد الفاكهي أيضا شقة من قباطي مصر كتب عليها بخط دقيق أسود”، مما أمر به أمير المؤمنين المأمون سنة ست ومئتين، “وكسوة من المهدي العباسي عليها” بسم الله بركة من الله لعبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه. مما أمر به إسماعيل بن إبراهيم أن يصنع في طراز تنيس على يد الحكم بن عبيدة سنة اثنتين وستين ومئة”. وكان إسماعيل واليا للعباسيين، أما الحكم بن عبيدة فغالبا ما كان ناظرا لدار الطراز في مدينة تنيس. ووجد الفاكهي أيضا بالكعبة كسوة من صنع مدينة “تونة” أيام هارون الرشيد، وقد سجل بها “بسم الله بركة من الله للخليفة الرشيد عبدالله هارون أمير المؤمنين أكرمه الله، مما أمر به الفضل بن الربيع أن يعمل في طراز تونة سنة تسعين ومئة”. وتؤكد رواية الفاكهي أن المهدي العباسي بعد أن تخلص من الكسوات التي كانت تحمل أسماء خلفاء الأمويين بذريعة الخوف على بناء الكعبة من ثقلها، سمح بأن تحتفظ الكعبة بالكسوات المتتابعة طالما كانت بأسماء العباسيين. في العهد الأيوبي تشير كتابات المؤرخين إلى قيام الأيوبيين بمصر بكسوة الكعبة بوصفهم حكاما من قبل الخليفة العباسي وأن أول موكب رسمي للمحمل المصري، هو الذي حجت معه شجرة الدر زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وقد صحب معه كسوة الكعبة المشرفة ومن بعدها صار تقليدا لحكام مصر من المماليك وأولهم الملك الظاهر بيبرس البندقداري الذي أرسل الكسوة في عام 658هـ بصفته قسيما أي شريكا للحكم مع الخليفة العباسي الذي وضعه في هذا المنصب بالقاهرة عقب مقتل المستعصم بالله العباسي علي يد هولاكو المغولي في عام 656هـ. ويظهر أن ملك اليمن المظفر الأيوبي قد استثقل أن يقوم أحد مماليك أسرته بكسوة الكعبة فقام هو بكسوتها في العام التالي مباشرة، وظل الأيوبيون باليمن يحاولون مزاحمة المماليك وتبادلوا كسوة الكعبة معهم عدة سنوات إلى أن تفرد المماليك بأمر الكسوة. وصارت للكسوة أوقافها التي ينفق من ريعها على صناعتها وشراء ما يلزمها من خيوط الفضة والذهب بدءا من عام 751هـ عندما قام الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك الناصر محمد بن قلاوون بوقف ثلاث قرى من قرى القليوبية وهي “أبو الغيط” و”سندبيس” و”باسوس”، وذلك برسم صناعة كسوة خارجية سنوية للكعبة المشرفة بمكة وكسوة داخلية حمراء وأخرى خضراء للحجرة النبوية بالمدينة المنورة مرة واحدة كل خمس سنوات. وكان إيراد تلك القرى يقدر بنحو 8900 درهم فضي سنويا. المرحلة العثمانية عندما استولى سليم الأول على ممتلكات دولة المماليك بمصر والشام أعلن نفسه خليفة للمسلمين، واتخذ لنفسه لقب “خادم الحرمين الشريفين” ضمن ألقابه المختلفة، وصارت إليه من وقتها مهام الإشراف على شئون الحرمين، بما فيها كسوات الكعبة والحجرة النبوية وكسوة مقام إبراهيم عليه السلام أيضا. وقام الخليفة العثماني “سليمان القانوني” بإضافة سبع قرى من دلتا الريف المصري إلى وقف الكسوة لتستمر مصر في تزويد الكعبة المشرفة بالكسوتين الداخلية والخارجية، وكذا كسوة مقام إبراهيم بالحرم المكي بينما عهد لدمشق بأمر كسوة الحجرة النبوية بالمدينة المنورة. ومن المعروف أن قافلة الحج الشامي كانت تنطلق من قرية “الكسوة” خارج دمشق حاملة كسوة الحجرة النبوية معها. وفي ما يتعلق بالمكان الذي كانت تصنع به كسوة الكعبة بعد تدمير مراكز صناعتها الأولى بشمال الدلتا يبدو أن القاهرة قد استأثرت بذلك التشريف، ويبدو أنها ظلت تصنع داخل القلعة مقر الحكم إلى أن أمر محمد علي باشا بإنشاء دار خاصة للكسوة بحارة السقاري بخط الخرنفش، وهي قائمة لليوم بحي الصاغة الشهير بقلب القاهرة. وكانت التقاليد تقضي بحمل الكسوة بعد نسجها من القلعة ثم من دار الكسوة بعد ذلك في موكب خاص إلى المشهد الحسيني، حيث يستقر بها المقام لتتم زخرفتها بخيوط الذهب والفضة، وذلك عقب انتهاء أيام عيد الفطر المبارك. ويسجل علي باشا مبارك في كتابه “الخطط التوفيقية” ذلك في معرض حديثه عن المشهد الحسيني بقوله “وفي شهر شوال تحمل إليه كسوة الكعبة المشرفة بموكب فتخاط فيه وتحمل منه بموكب إلى غير ذلك من العوائد الجليلة”. ويسمح ناظر الكسوة وكان من الأشراف لبعض الراغبين في نيل شرف وبركة المشاركة في زخرفة الكسوة ولو بخيط واحد. وتشير كتابات الرحالة المغاربة وكانوا جزءا أصيلا من موكب الحج المصري إلى أن المغاربة كانوا يفدون على مصر في نهاية شهر رمضان لينالوا فرصة الدخول إلى المشهد الحسيني وتناول واحدة من إبر الزخرفة وتمريرها داخل النسيج ولو لمرة واحدة وكان ذلك من دواعي الشرف الرفيع لديهم. وكانت الكسوة حسب مشاهدات الرحالة وبعضهم من الأوروبيين تصنع من القماش الأسود المطرز بالقصب ومنقوش عليها آيات من القرآن الكريم وتزدان حوافها بالنقوش الذهبية وقد سجل “فارمان” قنصل الولايات المتحدة في مصر وصفا رائعا للكسوة في عام 1872م. إن الكسوة التي تغطي الجدران الخارجية للكعبة كل عام كانت من الحرير الأسود الفاخر الموشى بالذهب وتزدان بالآيات القرآنية ويلحق بها ستار يعلق على باب الكعبة، وكسوة أخرى داخلية للكعبة كانت من الحرير الأخضر الموشى بالذهب أيضاً، وقدر القنصل الأميركي تكلفة الكسوة وقتذاك بنحو 23.55 ألف دولار، مضيفاً أن الحكومة تنفق على الحج أكثر من 330 ألف دولار، وهو مبلغ يعادل ضعف الإنفاق الحكومي على المدارس وقتها. ولما كانت الكسوة ترسل برفقة قافلة الحج المصرية، فقد اشتهرت احتفالات خروج القافلة في التاريخ باسم “دوران المحمل”، وهي تسمية تشير إلى الجمل أو الجمال التي تحمل أجزاء الكسوة الشريفة ويعرف الواحد منها بجمل المحمل ويجري اختياره بدقة من بين الإبل التي تتزود بها قافلة الحج. وتجدر الإشارة إلى أن مصر ظلت تزود الكعبة بكسوتها إلى عام 1962م. عندما قررت المملكة العربية السعودية إعادة تشغيل مصنع “أم القرى” الذي شيد في عام 1926م بأمر من الملك عبدالعزيز وصنعت به كسوة الكعبة منذ عام 1962م. فبقيت الكسوة التي كانت قد صنعت بالفعل في دار الكسوة بالخرنفش بمكانها وهي تعرض لليوم على زوار الدار. وظل مصنع أم القرى قائما إلى أن افتتح في عام 1397هـ 1977م المقر الجديد لصناعة الكسوة في “أم الجود”، وهو من المصانع الحديثة المتطورة، وعلى الرغم من ذلك فقد رأت الحكومة السعودية الإبقاء على التقاليد القديمة الخاصة بالزخرفة النسجية اليدوية تقديراً لقيمة العمل الإنساني في صياغة كسوة الكعبة.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©