الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ذاك هو زايد... الأب المؤسس القائد

ذاك هو زايد... الأب المؤسس القائد
9 أغسطس 2012
التاريخ يَضَنُّ بصفحاته البيضاء إلا لبيض القلوب والأيدي، وتمتنع دفتا كتابه أن تحملا فيما بينهما إلا من كان وجوده كالعافية للناس وكالصحة للأبدان من البشر، فهو لا يُعلي شأن إنسانٍ لم يُعلِ شأنه بذاته، ولا يحفر أحرف اسمٍ بين كوكبة العظماء لمن لم تحفر أعماله قصصاً من المجد وتكتب مرويّاتٍ من المنجزات الخالدة، فكل اسمٍ يُزيّن صدر التاريخ كنياشين النصر جديرٌ بأن يقتفي آثاره المؤمنون بغدٍ أجمل والباحثون عن معالم واضحة تهدي السائرين في دروب المجد المتعبة، فهم وإن رحلوا عن هذه الدنيا فإن فكرهم ومنجزاتهم لا زالت حيّة نديّة لا تَدْرُسْ معالمها ولا يخبو أَلَقُ نجمها حتى يرث الله الأرض ومن عليها. زايد وصناعة التاريخ من تلك الأسماء التي صنعت للتاريخ مآثر لا تنتهي من بيض الصنائع وفريد الأعمال كان زايد الخير رحمه الله تعالى، فما فعله زايد يمتنع على غيره، وما أنجزه في تلك المدّة الوجيزة أدعى للدهشة منه للإعجاب، وما نجح به من تغييرٍ وخلق فارق هو أكبر من أن تستوعبه كُتب الخبراء ونصائح عرّابي الإدارة، ولئن أفاض البعض في مديح الدول التي لها قرونٌ طويلة وهي تحاول جاهدة رسم صورة نجاحها مع توافر العدد العديد من البشر وتضافر الجمّ الغفير من ممكنات التطوّر، فما بالكم بمن أوجد دولة ثابتة الأساس مثمرة الأفرع مديدة الظل على من أمّ نواحيها في غضون سنواتٍ يسيرة، وأحال الصحراء الجرداء رياضاً يانعة وقبائلها المتناحرة شعباً متناغماً متآلفاً؟ ذاك هو الفذ، ذاك هو زايد! لم يأتِنا زايد من الخارج، ولم نره يوماً يتأبط أجندة غيره، ولم نسمعه يوماً يُدندنُ بكلام نعرف ظاهره ويغيب عنا باطنه ومعناه، بل كان منّا، يتحدث بما نتحدث به، ويشاطرنا ما يحلم به لوطنه، ويمحضنا التوجيه ويطلب منا النصح، فلم يكن بمُتعالم لا يقبل رأياً إلا رأي نفسه، ولم يكن مُدعياً للصلاح الصرف فيُلغي مشورة غيره أو نُصحهم، بل أُثِرَ عنه مقولته الشهيرة: "إنني لا أنفرد برأي ولا أفرضه فرضاً، وإذا كانت هناك آراء مخالفة لرأيي لعدلت إلى الرأي الأصوب؛ لأنني أعتبر هذا فضيلة تحتمها العلاقات الطيبة والأخوة والحوار المثمر بين الرئيس وإخوانه حكاماً وشعباً لأن الإنسان يجب عليه أن يتصرف بروح المشاركة حتى تكون المسيرة واحدة". هنا كان أحد الدروس المهمة لقائد الأمة رحمه الله تعالى، فقد قَرَن وحدة المسيرة بضرورة المشاركة، فلا صوت فردٍ أو جماعةٍ بعينها يحق له أن يُغيّب أصوات الكل، ولا رأي فكرٍ معين يجوز له أن يُقصي الآخرين ويدّعي حصرية الصواب بما يؤمن به وما يدعو له، بل الصواب هو المشاركة وذلك التفاعل المثمر بين أطياف المجتمع كافة وبما يُحقق أهداف الوطن ويضمن وحدة لُحْمَتِه، فلا رأي فرد يُقسّم الكلمة الواحدة، ولا فكر مجموعةٍ يُفتّت المتماسك من فسيفساء المجتمع، وإنّ الفكر الذي يتبنى إلغاء الكل بدعوى عدم كماله ومثاليته لهو أشد إفساداً من نِصال حراب الأعداء وسيوفهم. ومن صَدَقت محبته لوطنه سعى لرأب ما قد يتصدّع منه وسارع لمنافحة من أراد به أو بمن يسكن نواحيه سوءاً. الوطن أمانة زايد إنّ الوطن أمانةُ زايد لدينا، ولم يرحل إلا وقد اطمأن قلبه بأن أبناءه لن يألوا جُهداً ولن يُفوّتوا فرصة للحفاظ على مكتسباته ومنجزاته وعلوّ شأنه بين دول العالم، فبناءٌ اكتمل بعد شتات، وكيانٌ اشتدّ بعد فُتات، وأرض اتحدت بعد فُرقة، وشعبٌ تعاضد وتآلف بعد بُعْدٍ وتخاصم، لواجبٌ على أهله أن يُحافظوا عليه، فقد جرّب آباؤنا الفرقة وغُصّتها، فكيف لنا أن نسمح بأن يبني آباؤنا كل هذا فلما يوكل إلينا ندعُ عُراهُ تنحلّ الواحدة إثر الأخرى، وينفرط عقد وطنٍ نما وأثمر وطاب ثمره لطيب يد من زرع وطيب قلبه وطيب مبتغاه، كما قال المولى سبحانه: "وَالْبَلدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ". كان زايد رحمه الله تعالى من طينة العظماء التي لا تزخرف الدنيا بالوعود الوردية، ولا تستميل القلوب بالكلمات المعسولة كديدن الكثير من عُلية القوم في مشارق الكوكب ومغاربه، بل كان ينحت صخر الواقع الصلد بمعول العزم وصدق النيّة وسموّ الطموح، ويصنع الحاضر الجميل بتتابع العمل المُضني وسعة البال ومخزون هائل من الصبر على لأواء الظروف وتهكمات المثبطين من أعداء النجاح، فقد علم رحمه الله معنى الآية الكريمة والتوجيه الرباني القائل: "إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" فبدأ بنفسه وتجشم المصاعب وترك الراحة وحمل شعار البناء ودثاره وتمرّد على حياة الدّعة ليفتح أبواب حياة التميّز ونيل قصب السبق، فالكبار لا تُقيّد خطواتهم سفاسف الدنيا بل يمضون للقمم راسمين الطريق لمن بعدهم ومتقدّمين الصفوف ليستيقن المذبذبون أنّ القائد هو من يسبق الجميع ليتأسى به أتباعه ويوقد جذوة حماسهم للمضي لتلك القمّة المنشودة! كان زايد... رجل أفعال ربما كان رحمه الله تعالى الاستثناء الوحيد في الشرق الأوسط، ليس في خلق كيانٍ متحد بل بالكف عن بهرجة الخطب الرنانة والإنشائيات العربية المألوفة، والعكوف على مزيد من العمل المضني، فلم يكن بمستغربٍ أن يجد المارّةُ زايدَ الخير يحفر بنفسه لزراعة نخلة أو ممسكاً بخرطوم مياه يتعهد به غيرها بالسُقيا، أو واقفاً في شمس النهار القائظ يتابع تمهيد كثبان الصحراء لإقامة مشاريع الإسكان لشعبه، وقد كان بمقدوره أن يسأل عن تقدّم مراحل العمل وهو في فيْء القصور وأجوائها المريحة، ولكنه القائد الذي يُتبِع القولَ الفعل، وتترجم تصرفاته ما يتحدث عنه وما يُنادي به، فالفعل فقط هو ما يبث في الكلمات الروح، فوحده المولى سبحانه من حقه المراقبة أمّا البشر فمن واجبهم العمل والكفاح وبذل الجهد لخلق مستقبلٍ أجمل لأوطانهم. لم يكن زايد يؤمن بأنّ النجاح يؤول فقط لمن هم أكثر قوةً أو أوسع خيالاً أو أعلى تعليماً من غيرهم، بل كان يؤمن بأن النجاح ترجح كفته لأولئك المنفتحين على التغيير والمستعدين للسير في طريق جديد للوصول لغايةٍ مختلفة، كما يقول نورمان فينسنت بيل: "عندما تُغيّر من أفكارك سيكون بمقدورك تغيير العالم"، فقد علم رحمه الله أن التقدّم قرين قبول التغيير وتبنّيه، وكان على يقين بأنّ أي تغيير له مناوئوه وهم كُثر، فهكذا جُبِلَت النفس البشرية على الخوف من المجهول، فسلك في نشر فلسفة التغيير أسلوباً رائعاً بعمل ما كان يدعو له وبتشجيع من حوله لإشراكهم معه في ذلك المنحى، فأتى الحصاد كما شاء وشاءوا: دولة مزدهرة متماسكة تُعلي شأن الفرد وتطمح للريادة، فلطالما سمعه المقرّبون منه وهو يؤكد أنّ ما تؤمن به هو ما سيُحدّد من تكون مستقبلاً! زايد الأب والإنسان كان من المعروف عنه رحمه الله تعالى دوام التشجيع للآخرين وحثهم على التنافس مع الناجحين وبث الحماس فيهم بأنهم قادرون على ذلك، فالعظيم ليس من يشعر الآخرون بصغرهم مقارنة به وبتميّزه البيّن عليهم، بل هو من يُشعرهم بعظمتهم وتفرّدهم وقدرتهم على خلق الفوارق الإيجابية في مجتمعهم، كما أنّ القائد الناجح ليس من يرى أنّه البطل الأوحد وأنّه لولاه ما اكتمل بنيان ولا استقام مسلك ولا صَلَح عمل، بل هو الذي يتذكر إسهامات أتباعه ويمتنّ لهم بذلك ويشكرهم عليه علناً حتى لا تخبو جذوة الحماس في نفوسهم للعمل بصورة إيجابية ومنتجة دوماً، فها هو يقول رحمه الله: "نحن نعتقد أن كل ما حدث في البلاد من تغييرات هو أولاً من صنع أبنائنا الذين أحسنوا استغلال الثروة التي وهبها الله لهم"، وأضاف في مناسبةٍ أخرى إثر أزمة الخليج وغزو الكويت: "في المحن تظهر معادن الرجال، فقد أبرزت أزمة الخليج أصالة شعبنا الأبي الذي نتوجه إلى كل فرد فيه بالتحية والإكبار". فلله درّك يا زايد كيف كنت، وأيّ دروسٍ كانت تصرفاتك اليومية تُقدّم! سعة باله وحكمته وتغاضيه عن عثرات الآخرين والبعد عن الاستعجال في ردود الفعل كان مما اختصّه الله به بين أقرانه، فالحفاظ على المجموعة يتطلب قلباً أبوياً حانياً لا يخسر الكيان بسبب خطأ يتيم أو عثرة لا يخلو منها بشر، فالخطأ قرينٌ للمحاولة ولابد من دوام التجارب للوصول إلى خطوات النجاح الصحيحة، الأمر الذي تُرفَضُ فيه المبالغة في المعاتبة أو الاستعجال في إطلاق الأحكام وقد أبدع رحمه الله تعالى في ترجمتها ببيتين في قصيدةٍ شهيرة له تقول: مترى العَيِل من بُونه مــا يلحـق لي يبـاه لـو جَدّْ يـا مـن دونـه ويخسر كل اصدقاه زايد والناس... حب بحب ولم يكن زايد ذاك القائد الذي يُقدّس "البرستيج" ويأنف من النزول بين الناس، بل كان من المألوف رؤيته بينهم، حتى في أيامه الأخيرة كان يمرّ بمنتزه مبزرة في العين ويأمر بوجبات طعام مجانية لكل الزوار والسيّاح ويأمر باستكمال المرافق وتوسعة الطرق وأن يستوصوا بالعمّال خيراً، وقد كان تواصله المباشر والدائم مع الناس وابتسامته المعهودة وقبوله دعوة من يدعوه تصرفاً متعارفاً عليه، به اقترب من الناس حتى صار أحبّ إليهم من أهليهم، وبه تأسّى الآخرون واقتفى هديه البقية فتماسكت بُنية الوطن وتقاربت الأرواح وتوحّدت القلوب قبل أن تتّحد الحدود الجغرافية، وكم كانت جُملته رحمه الله تعالى غاية في التعبير ومُبيّنة لطينة هذا القائد العظيم وهو يقول: "كيف لنا أن تستريح ضمائرنا إن لم نكن أمناء على مصير هذه الأمة، ساهرين على رعاية شعبها الذي أكرمه الله سبحانه، وجعلنا مسؤولين عن رعايته وتحقيق الرفاهية له؟". كان حُبّه لشعبه أمراً لا يختلف عليه اثنان، ولا زال حُبّ شعبه له حتى الساعة أخضرَ نديّاً، وعندما يكون بالإمكان خلق كل المشاعر من موقف يتيم فإنّه من المُحال عُرفاً وعقلاً أن تُحب شخصاً لموقفٍ واحد، بل الحب أصعب الأمور، إذ يحتاج لتراكم محصلاتٍ كثيرة ومرورٍ بمراحل إيجابية متعددة حتى نصل لتلك المرحلة، وهكذا كان زايد، بحر عطاء لا ينضب وباب معروفٍ لا يوصد وطّلّة خيرٍ لا تكفهر في وجه أحد، فكان من الطبيعي أن تحتفي به قلوب شعبه وأن تُفرِدَهُ وحده بكل ذلك الحب، وكم تناقل الناس قصص إيثاره رحمه الله وتقديمه لمصالح شعبه على حظ نفسه، فقد أُثِرَ أنه قبل أن يلي مقاليد الحُكم كان ضيفاً عند أحد إخوته فمدّ له بإناء حليب، فما كان من زايد الخير إلا أن أعطاه لرفاقه الذين كانوا حوله، فلما عاتبه أخوه بأنّ الحليب بالكاد سيكفيه كان ردّه رحمه الله بأن ما لا يكفي أصحابي لا أريده أن يكفيني، فبهذا ساد زمنه وبمثل هذه الأخلاقيات الإنسانية الرفيعة كان أُمّة لوحده، إن غاب كأنْ لم يحضر أحد، وإن حضر كأنْ لم يغب أحد! بل ومن مِنّا ينسى لقاءه الذي تم بثه مع أعضاء المجلس الوطني كما اعتاد ذلك وتقصّيه عن أحوال أبنائه المواطنين وذلك القسم المغلّظ بالله بأنّه لم يكن يعرف أنّ هناك من المواطنين من يسكن بالإيجار، وأمره الفوري ببناء مساكن بلغت قرابة 4500 مسكن في إمارة أبوظبي دُفعة واحدة فضلاً عن بقية مدن الدولة، أو ليس هو القائل: "إن القائد يجب أن يؤمن بأنه الأمين على الشعب وعلى ثروته، وأن يطبق على نفسه ما يطبقه على شعبه"، فنعم القائد كان ونعم الأمين، وطبيعيٌ أن يهتم الناس بقائدٍ يرون اهتمامه بهم وتقصيه عن حالهم وسعيه الذي لا يكلّ لإسعادهم فُرادى وجماعات، فليس بعد نعمة القائد العادل المحب من نعمةٍ يتمناها شعب. زايد: النجاح حليف الوحدة كما لم يكن أسكنه الله الفردوس الأعلى بأكاديميٍ أو (مُجمّع) شهادات أو مؤلف كتب، لكنه بفكره الفذ وألمعيته التي لم تُحوّرها نظريات الآخرين ولم تُجيّرها مبادئ المعسكرات الشرقي منها والغربي، كان ذا فلسفةٍ مختلفة ترى النجاح حليف العمل الجماعي والريادة للكيانات الكبيرة المتّحدة وأنّ المستقبل لن يؤول إلا لمن يوحّد مجهوداته ويلمّ شتاته، فلا مكان للصغار على مسرح التاريخ ولا بصمة ستُترك من قبل الشتات الممزقين، ولكنه في فلسفته هذه كان رأساً في الانفتاح واحترام اختلاف الآخرين، فقد قال: "يتهمني الناس إنني وحدوي.. وهذه تهمة لا أنفيها ولكني لا أفرض هذه الوحدة على أحد قط"، فالعقول الكبيرة ترى الاختلاف حقاً مشروعاً ما دام لم يتصادم مع حريّات الآخرين، ودور القائد أن ينصح الآخرين ممن لا ينضوون تحته، فإن قبلوا فنعمّاً هي وإن أبوا فقد أدّى حق النصيحة لإخوانه. فكر زايد رحمه الله كان ينظر للأمور من زاويةٍ لم تؤطرها العدسات المكبّرة للغربيين، والذين ما فتئوا يحاولون تقمّص دور الأستاذية على الشعوب الصغيرة، فقد أبلغ في الردّ على دعاويهم عن افتقاد النهج الديمقراطي -وهم يقصدون نماذجهم الخاصة بهم والتي لا زال يعْتورها الكثير من النقص والتلفيق وشراء الأصوات- بقوله: "إن بعض الناس يظنون أن هذا المجتمع لم يعرف النظام الديمقراطي من قبل، وهذا خطأ، لأن الآباء والأجداد عرفوا الشورى وآمنوا بها من قبلنا، لقد فعلوا ما نفعله نحن الآن، لكن كلاً بطريقته ومفاهيم عصره وسوف يظل مبدأ الشورى من أهم أسس حياتنا وإلى الأبد". وكم كان رائعاً عندما وضع مبدأ الشورى كنظيرٍ مكافئ للأنظمة الديمقراطية، وكم كان جميلاً ذلك الاستدراك بأنّ النظام لابُد أن يُكيّف وفق ظروف ومفاهيم ومعطيات كل عصر وهذا هو جوهر المرونة وما يُعرف بفقه الواقع، فلكل زمنٍ نظامه الذي يُلائمه ولكل عصرٍ أسلوبه الذي يتماشى معه، فلا جمود مميت ولا تميّعٌ مُلغٍ لخصوصية الكيان! زايد والحق العربي ولأن الكبار ذوو طول بالٍ وسعة عطن إلا أنّهم عندما يتعمد البعض طمس الحقائق أو تزييف الوقائع فإنهم لا يستكينون إذا استكان الناس ولا يطأطئون رؤوسهم عندما يوجل البقية، فقد كان زايد علماً في تلك المواقف وطوداً لا تزعزع مبادئه عواصف المرجفين وغوغائيتهم، فعندما سمع تُهم الغرب المُعلّبة عن قومه العرب ثارت تلك الحميّة في صدر حكيمهم رحمه الله وعاجلهم بكلماتٍ تختصر عشراتٍ من الكتب ومن بلاغيات الفلاسفة فقال -عندما أصدر قراره التاريخي بوقف تصدير النفط إبّان حرب أكتوبر 1973 للدول الغربية وعلوّ لهجة ساستهم بأنّ العرب يبتزون ويستغلون حاجة الآخرين-: "إن على هؤلاء الذين يصفون العرب بالابتزاز أن يعودوا إلى تاريخهم مع العرب، ليجدوا إنْ كان في مسلكهم ما يندي له الجبين خجلاً، فقد كان العرب دائماً وما زالوا أصحاب أخلاق ووفاء، وقد يرجع هؤلاء إلى أنفسهم ليقرأوا صحيفتهم مع العرب، وعندئذ سيجدون أن العرب قد صبروا على الظلم طويلاً وأنه لابد أن يكون للظلم نهاية". إشفاق الأب على أبنائه يقول الأديب الروماني القديم فيرجل: "مهما حدث فأنا أخشى الإغريق حتى عندما يأتون حاملين الهدايا!"، وكذلك الأيام، لابد أن تستعد لتقلباتها حتى لو كان واقعها وردياً وصباحاتها مخملية، فمن لا يستعد لتغيّرات الأحداث واختلافات الأيام وأهلها لن يصمد طويلاً في معترك الحضارة ومسلك الطامحين للمجد، وعندما يكون موضوع الرهان هو الوطن فمن المحتّم علينا ألا نتهاون في كل ما يمسّه أو يُعرض وحدته لخطر، وأن نتأسى بمسلك زايد ونهجه وأن يكون عملنا لضمان بقاء هذا الكيان وزيادة تماسكه، وكأني به رحمه الله وقد استشف نُذُرَ الأيام وقادم الحوادث عندما صرّح ذات يوم: "إذا كنا في هذه الدولة نستقل سفينة واحدة هي سفينة الاتحاد، فعلينا جميعاً أن نعمل على تحقيق سلامتها حتى تستمر مسيرتها وتصل إلى بر الّأمان، ولا يجوز أن نسمح بأي تهاون يعوق هذه المسيرة لأن نجاة هذه.. نجاة لنا.. وإذا فرض أن هناك من يحاولون إتلاف هذه السفينة فهل نسكت على ذلك، أبداً بالطبع، لأنها إذا غرقت فلا أحد يضمن السلام لنا". فهذا كلام المؤسس الوجِل على ما بناه وأسسه، وإشفاق الأب على أبنائه من بعده أن تتخطّفهم الأيدي، ودعوته للحفاظ على هذه السفينة، فلا سلبية ولا تغاضي إن كان هناك ما يشوب التصرفات، فالوطن ليس ألعوبة نتركها لمن شاء أن يلهو بها، أو محطة تجارب لمن مرّت بباله أفكارٌ من هنا أو هناك، أو مجالاً لكسب مراهنات وتحديات يقوم بها بعض ضعاف النفوس وحدثاء الأسنان، ولن يُفيدنا ندمٌ حينئذٍ إن لم نرعَ حق الوطن ونذدْ عنه كلما تعكّر الجو من حوله ببلاهة البعض أو سوء نيّة البعض الآخر. فالله الله في أمانة زايد، تمر بنا ذكرى رحيله الثامنة لا لكي نبكي فذلك لن ينفعه، ولكن لكي نتعهد ما بنى بالحماية والمحافظة، فإن فعلنا ذلك فقد أدّينا حقه علينا من بعدنا، وإن لم نفعل فلن نصحو إلا على أنياب المتربصين بنا من كل صوب! اللهم إنّ زايد بن سلطان قد نزل بك وأنت خير منزولٍ به، اللهم كما عدل بنا فاعدل به، وكما لطف بنا فألطف به، وكما أكرمنا فأكرمه، اللهم إنّه كان خير الحاكم فأسكنه في مستقر رحمتك وأنزله في فردوسك الأعلى، اللهم إنه رحل ونحن راضون عنه فارضَ عنه، اللهم كما حفظتنا وحفظت بلادنا في حياته فاحفظنا في غيابه وقِنا شرّ من أراد بنا سوءاً. مهرة سعيد المهيري كاتبة إماراتية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©