الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإنسان.. أبو التاريخ

الإنسان.. أبو التاريخ
9 أغسطس 2012
تحفل كتب التاريخ بالأحداث والمواقف على مر الأزمان، وبرغم هذا يجد الإنسان أن هناك الفجوات الزمنية الطويلة في عمر الإنسانية دون تدوين بل بدون ذكر، ويعتبر بعض العلماء أن الجزء الأكبر والأطول من عمر الإنسانية بقي مجهولا ولم يتم فيه تدوين أي أحداث أو قصص، وهم يشيرون إلى الحقبة التي عاش فيها الإنسان بلا كتابة أو حديث (التخاطب). هذا الأمر أشار إليه الدكتور محمد ماهر حمادة، في مؤلفه البحثي القيم: “الكتاب في العالم”، عندما قال: “يعتبر اختراع الكتابة الحد الفاصل بين عهدين، عهد ما قبل التاريخ والعهد التاريخي، حيث يميز العلماء والمؤرخون في تاريخ الإنسانية المدون بين عهدين، العهد الذي لم تصلنا سجلات مكتوبة عنه، وهو عصر طويل موغل في القدم، وتصلنا المعلومات عنه من البقايا المادية لشعوب تلك الفترة، والعهد التاريخي الذي يبدأ عادة في أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد حيث بدأت تصلنا سجلات مكتوبة استطعنا أن نتعرف بواسطتها على حياة تلك الشعوب”. يمكن أن نضيف أنه رغم هذا العمر القصير في تاريخ الإنسانية، فإن المراجع التي نعتمد عليها تتلبسها بعض الضبابية والغموض، وبالتالي فإن ما يطلق عليه العهد الثاني التاريخي ليست الحقبة التاريخية الواضحة بكل تفاصيلها.. الغريب في هذا السياق إن كثيرا من الأحداث التاريخيه نقلت لنا بواسطة المشافهة (الحكي) أي من خلال ما يعرف بالراوي (القاص)، حيث يروي الأجداد للأبناء، وهؤلاء يقصّون الرواية على الأحفاد.. وهكذا تستمر السلسلة جيلا وراء جيل، وفي كل مرة تتعرض الرواية الأصلية لبعض الزيادة والتهويل، فتتحول المواقف الواردة فيها الى ما يشبه الأساطير والأحداث الخارقة للعادة. وعلى الرغم من هذا العيب الخطير، فإنه تم الاستئناس ببعض تلك الحكايات لفهم بعض المواقف او العادات لدى بعض الشعوب المنعزلة أو البعيدة عن وهج الحضارة. تعريفات وقواعد وهذا يقودنا الى ما يعرف حديثاً بالتأريخ الشفاهي، والى الاهتمام المتزايد به ومنحه المزيد من العناية سواء لدينا في الإمارات أو في دول عربية أخرى، وهذا الاهتمام له ما يبرره وما يدفع إليه. فالتاريخ الشفاهي بدأ مع الإنسان الأول واستمر حتى يومنا هذا، فبمجرد أن تعلم الإنسان الكلام فأنه في الحقيقة تعلم سرد المواقف والأحداث ونقلها للآخرين لتستمر خالدة في الذاكرة المحكية. ولا شك ان جملة سائرة، أو ـ لنكون أكثر دقة ـ بعض من العادات والتقاليد كانت أسسها وإطارها مثل هذه الممارسة اللغوية، فتواترت الأحداث والمواقف واتخذ بعضها طابع التقديس والعناية البالغة بالنظر إلى ظروف تلك الازمان، ما نتج عن هذا الاهتمام حدود ومبادئ تعارف عليها مجموع المجتمع، وبمرور الأيام اكتسبت الصفة التي تشبه القانون الإلزامي حيث يطرد وينبذ كل من يخالفها او يتجاوزها. إذا، فإن التأريخ الشفاهي وعلى غير ما يعتقد البعض أنه ظهر في الغرب أولا خلال منتصف القرن الماضي، هو ضارب العمق في تاريخ الإنسان، في مناطق العالم المتنوعة وعلى اختلاف شعوبه وثقافاتها.. لكن هذا التاريخ الشفاهي يتميز في المنطقة العربية، بحبكة ووصفة خاصة لا مثيل لها لدى اي أمة من أمم الأرض. ويكفي ان نلقي نظرة على مسيرة الشعوب العربية، سواء في ما يعرف بالعصر الجاهلي أو بعد ظهور الاسلام وتتالي حقبه من قيام الدول والعهود مثل الأموية والعباسية وغيرها، فإن العربي اعتمد كلياً على المشافهة في سرد وقائع أيامه الغابرة وفي حل شؤون حياته الحاضرة. والسبب في ذلك واضح وجلي، وينحصر في ضآلة عدد الذين يقرأون ويكتبون في المجتمعات العربية الأولى، وكانت ـ يومها ـ ذاكرة العربي هي سجله الذي يقاوم عاديات الدهر وعوامل التعرية. في ذلك السجل ـ أي سجل الذاكرة ـ صان العربي قرآنه، وفيه أيضا حمى خريطة الأنساب التي تحتل أولوية في سلّم القيم العربية، وأرشف أيامه (معاركه)، وحفظ أدبه المتوارث المتجسد في قصائد الشعراء الكبار. ويكفي ان نشير الى ان المعلقات السبع لم تحفظ في البداية على الورق، وإنما خزنتها العقول.. إذن، يمكن الاطمئنان إلى أن كل ما نعرفه عن أجدادنا الأولين: حكاياتهم ووصف حروبهم ومعاركهم، وأدبهم، وكذلك ما يندرج في تراثهم تحت وصف البلدان والديار.. كل ذلك وغيره، وصل إلينا، عبر ما نسميه اليوم التأريخ الشفاهي. والسؤال الذي لا يفارق المهتمين هو: ما هو هذا التاريخ؟ كيف يمكن تحديده وضبطه؟ وضع كثير من الباحثين تعريفات متعددة للتاريخ الشفاهي، والبعض منهم وضع شروطا وضوابط له، لكن من أشهر التعريفات التي بإمكانها أن تجمل ماهية التاريخ الشفوي في عبارة واحدة، هو التعريف الذي يقول به المؤرخ ثادسيتون: “التاريخ الشفوي هو ذكريات وتذكرات أناس أحياء حول ماضيهم”. وهذا التعريف رغم اختصاره إلا أنه مباشر وواضح، وقد أكد الباحث عمار السنجري في كتابه بعنوان “التاريخ الشفاهي في دولة الإمارات العربية المتحدة” إن الروايات الشفاهية “لا تقل أهمية عن رأي مؤرخ يستمد معطياته التاريخية من الوثائق والتاريخ المكتوب عن الفترة ذاتها قد يكون الذي دونها ليس من أبناء المنطقة”. وإذ نتفق مع سياق هذا التعريف، لكن ذلك لا ينبغي أن يدفعنا لكي نتجاهل الأصوات الرافضة اعتبار التاريخ الشفاهي من ضمن مصادر التاريخ العلمي المتعارف عليه، فهؤلاء (وجلهم من الأكاديميين الملتزمين بالقواعد المدرسيج في التأريخ) يتهمون التأريخ الشفاهي بأنه ذاتي ولا يتسم بالموضوعية والدقة وهما من أهم أسس وزدوات المؤرخ المحترف والعادل. ومن العيوب التي تساق ضد التاريخ الشفوي هي إن الراوي الذي يسرد الحدث، غالبا ما يضيف إليه آراءه الخاصة ووجهات نظره، وربما أمنياته، بل يذهب بعض الرواة إلى تضخيم أدوارهم أو أدوار المقربين منهم في سياق الحدث المروي.. انتقادات وشواهد في ظل هذه الوقائع، تدور اليوم معركة بين نمطين من التأريخ: الشفاهي والعلمي أو ما يمكن تسميته التقليدي.. وعلى الرغم من الشكوك التي تثيرها هذه المعركة فإن التأريخ الشفاهي يحقق منذ سنوات إنجازات ومساحات أكبر من القبول والترحيب، في العديد من البلدان. وإذا كانت مدارس التأريخ التقليدية (وهي مدارس علمية في كل الأحوال) لديها ما يبرر عدم اطمئنانها الكامل لتسجيلات التأريخ الشفوي ورواياته بسبب عدم صفاء ونقاء المعلومات المنقولة على ألسنة الشهود، لكننا ايضاً لا يمكن أن نغفل الدور الكبير والخطير الذي قام به التأريخ الشفوي في نقل قسم كبير من إرثنا الحضاري والمعرفي على الأقل منذ ما يقارب 1500 عام، لذا فإن رفض هذا النوع من التأريخ هو رفض لإرث عظيم من المعلومات والأفكار والأحداث والقصص العظيمة. وذلك ينبغي أن يكون أدعى لنا لكي نتمسك بما ساقه إلينا الأسلاف من مكنون صدورهم. ويكفي أن نقول إن علماء التاريخ الأوائل، وعلى رأسهم المؤرخ اليوناني هيرودوت (عاش في القرن الخامس قبل الميلاد) والذي يطلق عليه صفة أبو التاريخ، حرصوا وحرص هو تحديدا ـ أي هيرودوت ـ على جمع القصص حول الماضي وتفحص الآثار عند تجواله ورحلاته، حيث كان يقابل الناس ويدوّن قصصهم وذكرياتهم عن بعض الأحداث التي وقعت.. لقد نقل لنا هيرودوت زخما إنسانيا عظيما بفضل اتباعه لهذه الطريقة في التدوين، رغم ان هناك من يقول ان كتاباته تفتقر إلى الدقة والمصداقية لأنه كان يدون دون تمحيص كبير، ولكن عند النظر إلى مجلداته في كتابة التاريخ وما حوته من أحداث وأوصاف نعلم تماما لماذا أطلق عليه مسمى أبوالتاريخ، وهو يستحق عن جدارة هذا اللقب. اليوم، بات التاريخ الشفاهي ثقافة وعلم له أسس وطرق وهذا ما ذهب له الدكتور ناصر بن علي الحميري، في ورقة علمية، بعنوان: “أساليب وطرق الجمع الميداني في مجال التراث والتاريخ الشفاهي”، حيث وضع وصفا وقواعد لتدوين الروايات المنقولة على ألسنة الناس، وعرّف موضوعات وسمات التأريخ الشفوي، وأوضح الملكات والخبرات التي يجب أن تتوفر في الراوي والباحث. والدكتور الحميري، يضع هذه الرؤية العلمية لأنه يتمتع بخبرة طويلة في هذا المجال، وهذا يعود إلى اهتمامنا في الإمارات بمجال التأريخ الشفاهي.. هذا العلم القديم/ الحديث، والذي يعد مصدرا لا غني عنه في معرفة ماضينا، وهو ما يقتضي تطوير أدوات الجهات والعاملين في هذا المجال، وتوفير الدعم الملائم لهم لتحقق المزيد من النجاحات، وشواهد هذا الاهتمام هو وجود قطاعات حكومية أخذت على عاتقها العمل ليكون هذا المجال مؤسساتي مثل قسم التاريخ الشفاهي التابع لإدارة البحوث والخدمات المعرفية في المركز الوطني للوثائق والبحوث والذي قامت بعمل لقاءات وتسجيلها مع كثير من الشخصيات الكبيرة في السن وحفظ وتدوين ذكرياتهم عن المنطقة والأحداث والمواقف. في ضوء ذلك، يصح القول إننا نقوم بتجديد وإعادة بعث التأريخ الشفاهي لكي يتواكب مع روح العصر وتطوره، وكم هو جميل أن يكون الإنسان العادي هو المؤرخ وهو الذي ينقل القصص للأجيال القادمة، ومن دون شك إنه تاريخ من الانسان للإنسان.. ولكي تتحقق المنفعة المرجوة، لا بد للعقلية الثقافية أن تستوعب هذا النشاط الإنساني، وبذلك نحافظ على ريادتنا ليس في العالم العربي وحسب وانما على مستوى العالم بأسره في الاهتمام ورعاية واستخدام هذا العلم ـ التأريخ الشفاهي ـ لتبقى ذاكرتنا متوهجة جيلا بعد جيل بتاريخ بلادنا وقصص كفاح الأجداد والآباء لتدوم هذه النهضة وتستمر مسيرة التطوير الحضاري، وتحفظها الذاكر، ونكون قد نجحنا في بناء جسر متين بين الماضي وصولا للحاضر ولنتخطى المستقبل بتفوق.. وفي ظني أن هذا سيكون حليفنا القوي في أي تحد يواجهه وطننا الإمارات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©