الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

...نائمون في العسل

...نائمون في العسل
9 أغسطس 2012
الكتابة علاقة بين كاتب وقارئ، فيها الكثير من التعقيد، لكن كيف يتصرف الكاتب حين يكون على يقين من ان القارئ لن يأبه كثيرا بالموضوع الذي يتناوله؟ يفاجئنا د. عبدالرشيد المحمودي بهذا الموقف في مقدمة كتابه الجديد “غربة الملك الضليل”، ذلك ان الدراسة في هذا الكتاب تدور حول إمرؤ القيس وهو يدرك ان القارئ المعاصر لم يعد يهتم بمثل هذه الموضوعات، يتهم القارئ بأنه “يضيق افقه عن الشعر العربي القديم” وهذه ظاهرة “جديدة نسبيا” فلو انه اصدر كتابا عن ابن ابي ربيعة او من هو أقل شهرة مثل اوس بن حجر، في زمن طه حسين والعقاد واحمد امين لوجد اهتماما من القارئ، لكن اليوم لم يعد هناك اهتمام، وصار الشعر العربي القديم حبيس أسوار الجامعة ومقررات الدراسة في كتابات ودراسات أكاديمية، يرى انها لا تصلح للقراءة، حيث وضعت لأغراض نفعية، كتاب جامعي او مذكرة دراسية يتداولها الطالب ثم يؤدي الامتحان آخر العام فيما ورد بها ولا شيء بعد ذلك. ولا يعتد بموقف ورأي القارئ، “لنتركه في غفلته نائما في العسل” ولن يتوقف المغامرون من الكتاب والباحثين عن المغامرة، ويبدو انه قرر التحدي ليس بالموضوع فقط بل بعنوان الكتاب فقد كان بإمكانه اختيار عنوان آخر له. قطيعة القارئ لم ينصرف عن الشعر العربي القديم وحده بل ان الشعراء الجدد يريدون أحداث قطيعة مع الشعر العربي القديم فقد تمردوا عليه، وقدموا القصيدة الجديدة، حتى وصلنا إلى ما يسمى اليوم “قصيدة النثر” وباتت القصيدة التقليدية مرفوضة إلى حد كبير بين الشعراء الجدد وكذلك النقاد فما بالنا بالقارئ الذي يبدي د. عبدالرشيد استياءه من موقفه، في الواقع ليس الشعر العربي القديم وحده، بل الحديث ايضا فلا احد يتذكر اليوم أو يحاول التوقف امام قصائد أحمد شوقي أو محمود سامي البارودي وسواهما. ويتناول الكتاب، كذلك عددا من الشخصيات الأدبية والفكرية مثل د. طه حسين ودوره في تأسيس التأريخ للأدب العربي، ثم قضية الشعر الجاهلي، التي لم يتوقف البحث فيها إلى اليوم، وقد اتهم طه بسببها في أمانته العلمية وفي إيمانه الديني، الشق المتعلق بالإيمان حسمه وكيل النائب العام محمد نور، حين حفظ التحقيق معه عام 1927 استنادا على ان شكوكه فرضتها مقتضيات البحث العلمي وانه لم يكن لديه أي قصد جنائي من وراء ذلك، ومن ثم نجا طه حسين من تلك التهمة وبقيت التهمة الأخرى تلاحقه وهي انه اخذ فكرته في انتحال الشعر الجاهلي نقلا عن المستشرق الانجليزي “مرجليوث”. نفى طه حسين ذلك تماما، ونفاه أيضا “مرجليوث”، لان محاضرته التي قال فيها بانتحال الشعر الجاهلي كانت عام 1925، ومحاضرات طه حسين التي ألقاها علي الطلاب كانت في نفس السنة، وهي التي أصدرها في كتاب بعد عام لكن خصومه لم يصدقوا ذلك حتي بعد ان اصدر د. عبدالرحمن بدوي كتابا اثبت فيه ان الشك في صحة الشعر الجاهلي قائم منذ قرون وقال به بعض النقاد العرب مثل ابن سلام. يثبت د. عبدالرشيد ان الشك في الشعر الجاهلي موجود في مقالات طه حسين الاولى عام 1911 حين بدأ يدرس بالجامعة المصرية، ربما بتأثير محاضرات استاذه “ناللينو” وهو مستشرق ايطالي كان يقوم بالتدريس بالجامعة ولاحظ ناللينو في محاضراته ان عدم الموافقة بين أخبار الأشعار التي تنسب إلى التبابعة وأخبار الكتابات الحميرية الحقيقية دليل على ان الاشعار مختلقة. انتقاد وفي عام 1914 ينتقد د. طه ابن خلدون لانه اعتمد في تاريخه على الروايات الشفهية ولم يعتمد على الوثائق المكتوبة، وفي العام التالي، عام 1915 ينكر الوجود التاريخي لشخصية الخنساء، لأسباب عديدة واعتبرها شخصية اسطورية وينسى الكثيرون أنه تخصص في التاريخ وهو يدرس بالجامعة، وقد انتمى الى المدرسة التاريخية التي ترى ان التاريخ يعتمد على الوثيقة، وتلك مدرسة ذاعت في القرن التاسع عشر ولذا ظهر في الغرب من يعتبر شكسبير أسطورة وانه لا وجود له، وكذلك الحال بالنسبة لارسطو وفي التاريخ العربي هناك من قطع بأن الفارس عنترة بن شداد شخصية اسطورية تماما ولا وجود لها، المهم ان طه حسين واصل البحث على هذا النحو حتى وصل إلى موقفه من الشعر الجاهلي وان الكثير من قصائده تم انتحالها في العصر الإسلامي. يصف د. عبدالرشيد نظرية استاذه في الشعر الجاهلي بالشمول والتطرف الشديد لكن يعز عليه ويرفض تماما الطعن في أمانته العلمية وانه نقل تلك النظرية او سرقها من “مرجليوث”. المؤلم ان الدارسين والباحثين العرب توقفوا عند طه حسين بينهم من يدافع عنه وان رآه اخطأ في الاستنتاج وهناك من يهاجمه ويتهمه في دينه وفي ضميره العلمي لكن لم نجد ابحاثا علمية سواء في الشعر الجاهلي او تاريخ العرب في الجاهلية، لو حدث ذلك لتقدم البحث العلمي وتقدمت رؤيتنا للثقافة وللتاريخ العربي قبل الاسلام، ذلك ان ملاحظات طه حسين تبقى صحيحة في معظمها وهي ان الكثير من مفردات الشعر الجاهلي أقرب الى الثقافة الاسلامية وإلى المجتمع العربي بعد الإسلام، وهذا يعني ان هناك حلقة علمية مفقودة ومن ثم يجب البحث فيها، بدلا من التوقف عن طه حسين لنمتدحه او نلعنه وننسى ان قرنا من الزمان يقترب على آراء طه حسين، وهذا يعني اننا لم نتقدم علميا ونقديا خطوة واحدة، لقد جعلنا من طه حسين “عقدة” يصعب تجاوزها. خصومه يتوارثون اتهامه وشتمه ومحبوه يتواثون الدفاع عنه لكن لا احد يضيف إلى البحث العلمي. ينتقل بنا المؤلف من القديم ومن عمر بن ابي ربيعة وامرؤ القيس إلى طه حسين والشعر الجاهلي وإلى قصيدة النثر، ومن الادب الى السياسة والفن ومن القاهرة إلى لندن وباريس. مثل هذا الكتاب بات نادرا، ذلك ان الإصدارات الجديدة يغلب عليها الموضوع الواحد وافتقدنا الكتب التي تحمل العديد من الموضوعات والمجالات فتقدم للقارئ المتعة والتنوع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©