الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاعرات المتصوفات.. صفَتْ مشاربهنَّ فصفَتْ لغتهنّ

الشاعرات المتصوفات.. صفَتْ مشاربهنَّ فصفَتْ لغتهنّ
9 أغسطس 2012
تروي كتب المتصوفة حكايات تشبه الأساطير عن أحوال العشاق، وقصصاً تدخل في اللامعقول عن كشوفاتهم وانكشافاتهم. تلك عوالم فيها من الخوارق ما تصبح معه ألف ليلة وليلة بسحريتها وعجائبيتها طفلة صغيرة تلهو على شاطئ بحر. يقولون، وهم في أطمارهم المصنوعة من الشَّعر ذابلون، وما بين الشِّعر والشَّعر يتصلون بأقانيم الأنس، فيشهقون وإلى الأبد يغيبون. أنشدت فشهقت.. فماتت قال ذو النون: بينما أنا أسير على ساحل البحر إذ بصرت بجارية عليها أطمار شعر. فإذا هي ناحلة ذابلة. فدنوت منها لأسمع ما تقول فرأيتها متصلة الأحزان بالأشجان. وعصفت الرياح واضطربت الأمواج وظهرت الحيتان. فصرخت ثم سقطت إلى الأرض. فلما قامت نحبت ثم قالت: سيدي بك تقرب المتقربون في الخلوات. ولعظمتك سبحت النينان (الحيتان والمقصود جمع نون) في البحار الزاخرات. ولجلال قدسك تصافقت الأمواج المتلاطمات. أنت الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار، والفلك الدوار، والبحر الزخار، والقمر النوار، والنجم الزهار. وكل شيء عندك بمقدار لأنك العلي القهار. ثم أنشدت: يَا مُؤْنِسَ الْأَبْرَارِ فِي خَلَوَاتِهِمْ يَا خَيْرَ مَنْ حَطَّتْ بِهِ النُّزَّالُ مَنْ ذَاقَ حُبَّكَ لَا يَزَالُ مُتَيَّمًا قَرَحَ الْفُؤَادَ مُتَيَّماً بَلْبَالُ فقلت لها: عسى أن تزيديني من هذا. فقالت: إليك عني. ثم رفعت طرفها نحو السماء فقالت: “أُحِبُّكَ حُبَّينِ حب الهوى” وأنشدت حتى وصلت إلى قولها: “ولكنْ لكَ الحَمْدُ في ذا وذاكا”.. ثم شهقت شهقة فإذا هي قد فارقت الدنيا. لم تكن تلك الجارية رابعة العدوية إنما واحدة من المتصوفات المأخوذات في انخطافة الحال.. أما رابعة بنت إسماعيل العدوية صاحبة الشعر الثاني الذي ترنمت به الجارية فهي الصوفية الشهيرة التي ذاع صيتها، واستفتاها في دقائق التصوف كبار المتصوِّفة في عصرها. وتروى عنها أخبار كثيرة، وهي الوحيدة بالمناسبة التي توجد معلومات عنها رغم احتواء سيرتها على الكثير من التناقضات والإشكاليات خاصة فيما يتعلق بصباها وبكراماتها. فثمة من يرى أنها كانت راقصة، عرفت حياة اللهو والمجون ثم تابت إلى الله. وثمة من يرى في هذا افتراء عليها ولا يتسق مع طبيعة البيئة الأسرية التي عاشت فيها، حيث إنها ابنة رجل صالح كان جيرانه يسمونه العابد، حرص على تعليمها القرآن منذ صغرها، ناهيك عن المواقف الكثيرة التي تبرز حرصها على أن تأكل من حلال في وقت مبكر من طفولتها لأن والدها مات وهي صغيرة. من هذه المواقف أنها قالت لأبيها: يا أبت، لست أجعلك في حلّ من حرام تطعمنيه، فقال لها: أرأيتِ إنْ لم أجد إلاّ حراماً؟ قالت: نصبر في الدنيا على الجوع خير من أن نصبر في الآخرة على النار. فمن المستحيل منطقياً لمن تتلفظ بعبارات كهذه أن تمتهن الرقص أو الغناء لكي تقيم أودها وتحصل على عيشها. ومن ذلك ما يروى عن زهدها وورعها وتقواها: لقي سفيان الثوري رابعة - وكانت زرية الحال - فقال لها: يا أمّ عمرو أرى حالاً رثَة فلو أتيت جارك فلاناً، لغير بعض ما أرى، فقالت له: يا سفيان، وما ترى من سوء حالي؟ ألست على الإسلام، فهو العز الذي لا ذل معه، والغنى الذي لا فقر معه، والأنس الذي لا وحشة معه؛ والله لأستحيي أن أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟ وقالت: إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم، ذهب بعضك ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكلّ، وأنت تعلم، فاعمل. ولو أنها كانت من أهل الدنيا أو المتهافتين على فتاتها لما رفضت الزواج من العشرات الذين خطبوها ومنهم أبو سليمان الهاشمي الذي كان له بالبصرة كل يوم غلّة ثمانين ألف درهم، فبعث إلى علماء البصرة يستشيرهم في امرأة يتزوجها، فأجمعوا على رابعة العدوية، فكتب إليها: أما بعد، فإن ملكي من غلّة الدنيا في كل يوم ثمانون ألف درهم وليس يمضي إلا قليل حتى أتمها مائة ألف إن شاء الله، وأنا أخطبك نفسك، وقد بذلت لك من الصداق مائة ألف، وأنا مصير إليك من بعد أمثالها، فأجبيني. فكتبت إليه: أما بعد، فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن، فإذا أتاك كتابي، فهيئ، زادك، وقدم لمعادك، وكن وصي نفسك، ولا تجعل وصيتك إلى غيرك، وصم دهرك، واجعل الموت فطرك، فما يسرني أن الله خوَّلني أضعاف ما خولك فيشغلني بك عنه طرفة عين، والسلام”... وفي سيرتها وأقوالها الكثير مما يدحض مثل هذه المزاعم، وهي القائلة: “اكتُموا حسناتكم كما تكتمون سيِّئاتكم”، و”أستغفرُ الله من قلّة صدقي في قولي: أستغفر الله”. مذهب الحب هو ذا الشرق، سيد الروح وسيد الأصابع، الشرق الذي في سحره نسغ من الشغف الأسطوري المحمول على البوح. هي ذي الصبابة تزدهي في لغة تسيل عذوبة. هو ذا حزن المقامات يضيء القلب ويفتح الروح إلى آخرها. توفِّيت سنة 135 هـ / 752م، وعندما حضرتها الوفاة قالت لخادمتها: يا عبدة، لا تُوذني بموتي أحداً، وكفنيني في جبتي هذه، وهي جبَّة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون، فكفَّنتها في تلك الجبّة. في الجبة امرأة دينها وديدنها ودانتها الحب الذي ليس كمثله حب.. الحب الإلهي أو العشق الإلهي الذي صار مذهباً في التصوف. حتى إن مصطفى عبد الرازق قال: “السيدة رابعة هي السابقة إلى وضع قواعد الحب والحزن في هيكل التصوف الإسلامي، وهي التي تركت في الآِثار الباقية نفثات صادقة في التعبير عن محبتها وعن حزنها”، وذهب إلى أن “الذي فاض به بعد ذلك الأدب الصوفي من شعر ونثر في هذين البابين، لهو نفحة من نفحات السيدة رابعة العدوية أمام العاشقين والمحزونين في الإسلام”. يظل محب الله ملتاعاً، يكابد أمواج الشوق ويصارع في بحوره، و”لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه”، لهذا يظل مسكوناً بالحبيب لا يفارقه ولا يغيب عنه، وإن كان بين الناس فهو معهم بالجسد فقط أما الفؤاد فالله المحبوب مولاه وسيده وأنيسه: إني جعلتك في الفؤاد محدِّثي وأبحتُ جسمي من أرادَ جلوسي فالجسمُ مني لِلجليس مؤانس وحبيبُ قلبي في الفؤاد أنيسي ويرى بعض الباحثين أن المتصوفات يتقنعن بالشعر الصوفي ليقلن الشعر الغزلي، وأن هذه الزفرات والأشواق والصور الشعرية الجميلة والمشاعر العذبة موجهة إلى رجال حقيقيين يحببنهم، ويتسترن خلف التصوف والحب الإلهي هرباً من ضغوط المجتمع. ويذهب فريق إلى أبعد من ذلك، معتبرين هذا الشعر نوعاً من التفريغ الانفعالي عن الكبت وربما نوع من المرض النفسي. ولأن الشعر الصوفي شعر تأويلي فإن بعض الأبيات أو النماذج قد تثبت صحة مثل هذه التنظيرات، لكن التدقيق والقراءة المحايدة يمكنها أن تجد ببساطة من الصفات والقدرات ما لا يمكن أن ينطبق إلا على الله، كما في هذا الموقف: كانت رابعة إذا جنَّ عليها الليل قامت إلى سطح لها، ثم نادت: إلهي، هدأت الأصوات، وسكنت الحركات، وخلا كلّ حبيب بحبيبه، وقد خلوتُ بك أيها المحبوب، فاجعلْ خلوتي منك في هذه الليلة عِتْقي من النار. فالخطاب هنا موجه إلى الله، ولا يعقل أن تخاطب امرأة مسلمة من تحب بلفظة (إلهي)، فإذا ما اجتهد المؤولون لإثبات أن هذا الخطاب موجه إلى محبوب بشري فماذا يقولون عن العتق من النار الذي لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال إلا من الله، فهذا من شأنه وحده سبحانه وتعالى. أحوال العارفين يحاول الصوفي التعبير عن الأحوال غير العادية التي يعايشها فتعييه اللغة، وتضيق العبارة، ولهذا اخترع الصوفيون لهم ألفاظاً ومصطلحات وتعبيرات هي في الغالب مجازية. وهي رموز لا يفهمها إلا من عايش الحال وعرف المقام، ولهذا تأخذ الألفاظ دلالات غير دلالاتها المألوفة، وتبدو مفتوحة على التأويل. هكذا تتسع اللغة، وعندما تضيق العبارة تبوح الإشارة. فالترميز خاصية من خصائص الشعر الصوفي، والتأويل خاصيته الثانية، أما خاصيته الثالثة فهي التكثيف الشديد والإيجاز الذي يلمح ولا يصرح، ويسعى إلى قول الكثير في أقل قدر من الكلام. وللشعر الصوفىِّ النسائي خاصيةٌ تتعلق بعدد الأبيات، فالغالب الأعم من شعرهن أن يأتي في أبيات قليلة تصف حالاً من العشق أو الشوق أو الأنس أو المكابدة في الحب من غير إسهاب ولا تفصيل. لكنها على صغرها ترحل في عوالم الخيال الواسعة وتتميز برقة التصوير وعذوبة الكلمات وشفافية الحال والتدفق الإبداعي وسلاسة القافية والابتعاد عن التصنع، والعفوية والانسياب خاصة حين تحكي الشاعرة الصوفية عن محبتها وما تلاقيه من وجد: أحبك حبين: حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواكا تظهر هذه الأبيات رابعة الولهى، المتيمة بالعشق، المتفانية في الحب من خلال تفرغها للذكر وترك الدنيا بما فيها والانشغال بالمحبوب، وفيها من التجلي النوراني والرقي الروحي ما جعلها مكتنزة بالجماليات الفنية والعذوبة والسلاسة والانسياب الموسيقي، بحيث جاءت خلواً من الغموض، سهلة الحفظ تترد على ألسنة كل مهتم بهذا الحقل، بل بدا أحياناً أنها نموذج فني وأدبي وجمالي للشعر في أرقى تجلياته واجتراحاته. إشراقات روحية لم تكن رابعة العدوية هي المرأة الوحيدة التي عرفها تاريخ التصوف لكنها الأشهر بين المتصوفات والأكثر تعبيراً عن مكامن تجربتها الروحية الهائلة ودقائقها الثرة، أو قل هي (العَلَم النسائي) في هذا الحقل الذي يكاد يكون حكراً على الرجال لجهة الإعلام والذيوع والانتشار. فالمتصوفات بحسب ما يجد الباحث في كتب التراث ومتونه الأمهات كثيرات، ولهن حضور لا يخفى رغم كل المعوقات المجتمعية والثقافية التي واجهنها. وفي كتاب “الطبقات الكبرى” للشعراني فصل خاص للعابدات من النساء ذكر فيه نحو 16 متصوفة، حظي بعضهن بشهرة قليلة وغاب معظمهن عن اهتمام النقد. ولعل السبب في ذلك يعود إلى طبيعة التقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة عند العرب من جهة، وما وجده الأدب الصوفي بشكل عام من رفض ومحاربة سواء كان قائله رجلاً أو امرأة من جهة ثانية. ويعتقد الكاتب (مصطفى عاشور) أن صمت المصادر عن ذكرهن لا يعني أن “طريق التصوف الصحيح كان خاليا من النساء العابدات، ولكن هذا الصمت يمكن تفسيره بأن طبيعة التصوف والحب الإلهي والتعبد والتنسك هو طريق الصامتين عن ذكر ما يقومون به؛ فهو ليس طريقاً لاكتساب رضا الخلق وليس طريقا لتحقيق الصيت وذيوع الشهرة، وليس طريق التباهي بالطاعات، ولكنه طريق البحث عن رضا الله تعالى، فانشغال المتصوف والعابد يكون بما يرضي الله وأن الاهتمام بالخلق يسقط من نظره ويبتعد عن نيته، كما أنه طريق التكتم بالطاعة واعتبارها سراً من الأسرار التي يجب أن يحتفظ بها العابد بينه وبين ربه.. كل ذلك جعل طريق التصوف هو طريق الصمت والتكتم، ومن ثم لم تستطع المصادر التاريخية أن تحتفظ لنا بذكر هؤلاء النسوة العابدات؛ فإذا أضفنا إلى ذلك ما كان يحوط المرأة من صون والتزام بالبيت كل ذلك جعل القليل من أخبار العابدات لا يصل إلينا”. لكن، وبالرغم من ذلك كله، لم تغب أنوار هؤلاء العابدات تماماً، وما وصل إلينا يدلل على براعتهن وحضورهن وعلو كعبهن، في مضمار هذه التجربة الروحية الهائلة التي ذقن حلاوتها وذبن فيها وارتوين من نورانيتها. ويلفت النظر في تصوف النساء أنهن ظللن متمسكات بالدين القويم، فلا شطحات ولا تنصل من العبادات بل تعبد وخشوع وبكاء وإقامة على ما أمر الله به وابتعاد عن ما نهى عنه، وبحث لا يهدأ عن رضاه. لقد عرفن الطريق إلى الله وإلى التصوف الحق المبرأ من الجهالات والضلالات والقائم على المجاهدة والمصابرة والمستمد من الكتاب والسنة. وقد كانت السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد التي حجت ما يقرب من ثلاثين حجة تؤكد أن تصوفها يجب أن يكون اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله وأفعاله؛ لذا كان يقصد بيتها كبار العلماء والفقهاء ليستزيدوا من علمها وفقهها وعلى رأسهم الإمامان الشافعي وأحمد بن حنبل. ويتكشف مثل هذا الموقف في كلام المتصوفة مؤمنة بنت بهلول وقد سئلت‏:‏ من أين استفدت هذه الأحوال؟ قالت: من اتباع أمر الله‏،‏ على سنة رسول الله صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّم‏.‏ أما فاطمة بنت أحمد الحجافية العابدة الوالهة فتقول‏:‏ ماقال أحد لأحد‏:‏ يا أحمق‏،‏ إلا قلت‏:‏ لبيك‏،‏ وظننت أنه يعنيني به‏.‏ فلا أحد أظهر حمقاً ممن يوالي عدوه‏،‏ ويعادي وليه‏!‏ النفس والشيطان عدوان‏،‏ ونحن نواليهما ونطيعهما والكتاب والسنة مواضع نجاتنا وخلاصنا‏،‏ وقد أعرضنا عنهما‏.‏ وتقول إحدى المتصوفات: “من جعل السبب في الوصول إلى ربه غير ملازمة طاعته، واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقد أخطأ السبيل”. وليس هناك ما هو أدلّ على ذلك من قول رابعة العدوية: تُعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في الفعال بديعُ لو كان حبك صادقا لأطعته إن المُحبَ لمن يُحبّ مطيعُ وفي الحقيقة توجد نماذج كثيرة على مثل هذا التصوف الذي يخلو من الشطحات وادعاء معرفة الغيب وكشف الحجب والكرامات والأفعال الخارقة وغير ذلك، مما تشتمل عليه تجارب بعض المتصوفين الرجال، لكن التعميم جاء من كون هؤلاء المتصوفات لم يكتبن أو يسجلن تجاربهن كما فعل الرجال ولم يتركن خلفهن الكثير من النصوص التي تلقي الضوء على خصوصية تجاربهن. ومن اللافت في سير هؤلاء النساء قدرتهن على التعبير عن آرائهن ومبادئهن وأحوالهن بفصاحة وبيان، وتعكس نصوصهن الأدبية النثرية المتوفرة ثقافة عميقة مؤسسة على معرفة بالعلوم الدينية والشرعية، فضلاً عن القيم والفضائل الإنسانية. ويعترف كل الباحثين الذين تناولوا سيرة رابعة العدوية بغزارة علمها وسعة معارفها، وبقدرتها على معالجة الأحوال الصوفية المختلفة والبحث في فروض دقيقة في العقائد. أما فاطمة النيسابورية فوصفها العابد الشهير ذو النون المصري بأنها أستاذته في التصوف؛ وكان يقول عنها: “ما رأيت أحداً أجلَّ منها، كانت تتكلم في فهم القرآن”. وكانت من نساء خراسان من العارفات‏..‏ وعندما سألها ذو النون العظة - وقد اجتمعا في بيت المقدس‏ - قالت‏:‏ الزم الصدق‏،‏ وجاهد نفسك في أفعالك وأقوالك‏،‏ لأن الله تعالى قال‏: (‏فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم‏)‏ سورة محمد‏ (21)‏. ومن أقوالها‏:‏ “الصادق والمتقي اليوم في بحر يضطرب عليه أمواجه‏،‏ ويدعو ربه دعاء الغريق‏،‏ ويسأل ربه الخلاص والنجاة‏”. وهذه جمعة بنت أحمد بن عبيد الله المعروفة بأم الحسين القرشية، وهي التي صحبت المشايخ الكبار مثل أبي القاسم النصراباذي وأبي الحسين الخضري تقول‏:‏ “جرى بين يدي فضل العلم والعمل‏.‏ فقلت لمن تكلم فيه‏:‏ ليس العلم ما يتكلم به الناس‏، فهذا كله كلام ونطق‏..‏ العلم ما خاطب الله به نبيه صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّم فقال‏: (‏فاعلم أنه لا إله إلا الله‏..)‏ سورة محمد‏ (19).‏ فكل الناس قد أمروا بالقول النبوي وأمر صلوات الله وسلامه عليه بالعلم‏،‏ لعلو حاله‏،‏ وعظيم محله‏ (‏قدره‏)”.‏ أما أم داب وهي من كبيرات المتصوفات العابدات فكانت تحج كل سنة على قدميها من المدينة إلى مكة، إلى أن بلغت التسعين فكفّ بصرها فلما حضر وقت الحج رفعت رأسها إلى السماء، فقالت: إلهي وعزتك لئن فقدت نور بصري بين يديك ما فقدت أنوار شوقي إليك، ثم أحرمت وقالت: لبيك اللهم لبيك وخرجت مع صويحباتها. طالبات البصيرة وللمتصوفات في العلم والمعرفة نظرات تتفاوت بين واحدة وأخرى، ولهن في تلقيه وتدريسه مذاهب ومنهن واعظات ومعلمات وذوات بصيرة إيمانية؛ فعابدة اليمن التي اشتهرت باسم “الوهطية” وكان لها مجلس يحضره فقهاء اليمن وعلماؤها في وقتها، كانت ترى الحقيقة هي الغاية، وتربط بين العلم والعمل به، تقول: “طالب العلم هو العامل به”، وهي بهذا تخرج كل من يعرف ولا يعمل بما يعرفه من أن يكون “طالب علم”. وكانت فخروية النيسابورية تعظ العلماء بقولها: “إن الإنسان إذا تكلم بالعلم ليريح قلبه ونفسه يعظم في نفسه لاستحسانه كلامه، وإذا استعمل العلم أتعب نفسه وقلبه، وصغر في نفسه لعلمه بقلة إخلاصه في معاملته”؛ فبكى أحد العلماء في مجلسها وقال: “لا أقول إلا كما قال عمر بن الخطاب: امرأة أفقه من عمر”، وكانت إحدى المتصوفات تقول في حقيقة العلم: “إذا ترك القلب شهواته ألف العلم واتبعه، واحتمل كل ما يرد عليه”. وكانت المتصوفة البحرينية ماجدة القرشية تدعو المريدين أن يوازنوا بين الآمال والآجال، فتقول: “بسطوا آمالهم فأضاعوا أعمالهم، ولو نصبوا الآجال وطووا الآمال خفت عليهم الأعمال”. وكان لبعض المتصوفات تليمذات في التصوف، حتى إن شبكة البصرية جعلت من بيتها مدرسة للمريدات يتعلمن فيها أصول العبادة ومجاهدة النفس. وكانت أمة العزيز المعروفة بـ (هورة) تقول‏:‏ “العلم حياة الخلق‏،‏ والعمل مطيته‏،‏ والعقل زينته‏،‏ والمعرفة نوره وبصيرته‏”، و هورة تعد واحدة من أكابر المتصوفات والعارفات وربات الأحوال وقد لزمت بيتها خمسين سنة لم تخرج منه.‏ وفي كلامها عن التصوف تحدد سمات وفضائل ينبغي أن يتحلى بها السالك: “من لبس الصوف يجب أن يكون أصفى الناس وقتا‏،‏ وأحسن الناس خلقا‏،‏ وأكرم الخلق حركة‏،‏ وأعذب الناس طبعا‏،‏ وأجودهم نفسا‏،‏ وأسخاهم يدا‏،‏ وكما تميز عن الخلق بلباسه‏،‏ كذلك يتميز عنهم بأوصافه”. المحبات في أنسهنّ المحبة أكثر ما اهتم به المتصوفة، وما منهم إلا وتحدث فيها وقال وانشغل، فالمحبة عندهم هي اشتغال القلب بالمحبوب. ومع المحبة يأتي الأنس الذي صورته أكثر من متصوفة كلاماً وشعراً، وما منهن إلا ووجدت ذلك الوجد الذي يجعلها تأنس بذكر الله. لقد عرفت المتصوفة عائشة النيسابورية مثل هذا الأنس، واعتبرته نقيض الوحشة، وحضور أحدهما يعني غياب الآخر، “فمن استوحش بوحدته فذلك لقلة أنسه بربه”، وعندها أن القرب والبعد هما سبب الفرح أو الحزن فكانت تقول لابنتها: “يا ابنتي لا تفرحي بفانٍ ولا تجزعي من ذاهب وافرحي بالله‏،‏ واجزعي من سقوطك عن عفو الله”‏.‏. وتذهب لبابة الدمشقية إلى أن المحبة تتحقق بالمعرفة، من هنا يمكن فهم تلك العبارة التي تترقى فيها الروح في مدارج العارفين لتأنس بالله: “المعرفة بالله تورث المحبة له، والمحبة لله تورث الشوق إليه، والشوق إليه يورث الأنس به”. وكان الذكر منهج مؤمنة بنت بهلول في تحقق الأنس “ما أوحش ساعة لا يذكر الله فيها”، أما الغفلة عن الذكر فهي الفقدان والوحشة “الغافل ينام ولا يقوم، ولا تطيب ساعة لا يكون فيها ذكر الله عز وجل”. ولها في المحبة “إلهي وسيدي لا تجمع علي الأمرين: فقدانك والعذاب”، فإذا تحقق الأنس بالله كان النعيم الحقيقي لأنه “ما طابت الدنيا، والآخرة، إلا به ومعه”. ولشدة شوقها ولهفتها على تحقق هذه المحبة كان قلبها مشغولاً على الدوام بما لا يمكن للعقول أن تدركه كما يروي ابن أبي الحواري: قالت لي مؤمنة الصغيرة: أنا في شيء قد شغل قلبي، قلت: ما هو؟ قالت: أريد أن أعرف نعمة الله عليّ طرفة عين أو أعرف تقصيري عن شكر النعمة طرفة عين، فقلت لها: أنت تريدين ما لا تهتدي إليه عقولنا. وهذا ما كانت عليه لبابة المقدسية التي وجدت في الذكر والعبادة راحتها “ما زلت مشتغلة بالعبادة حتى صرت أستروح بها، فإن تعبت من لقاء الخلق، آنسني ذكر الله، وإذا أعياني حديث الخلق روحني التفرغ لعبادة الله والقيام إلى خدمته”. ولأن من يحتسي بحار الكون من المحبة يبقى فاغراً فاه يتزيد، كما يقول البسطامي، فإن منفوسة بنت أبي يزيد لم تكن ترتوي من حب الله أبداً، وفي مناجاتها له كانت تقول: “إلهي إنك تعلم أن العطشان من حبك لا يروى أبدا”. ووجدت أم علي زوجة أحمد خضرويه ثمرة القرب والحب شعوراً بالحرية المطلقة، ذلك الذي ينجم عن شعور الغنى المتولد عن استغناء المرء عن كل شيء. وأم علي هذه أنفقت مالها كله على الفقراء ومواساة المحتاجين، وكانت من عابدات عصرها؛ لذا كان العابد الكبير أبو يزيد البسطامي يقول عنها: “من تصوف فليتصوف بهمة كهمة أم علي أو حال كحالها”، ومن أقوالها: “فوت الحاجة أيسر من الذل فيها”‏.‏ وقالت أيضا‏:‏ “ما ذكرت فقري قط إلا ذكرت استغنائي بربي وغناه‏،‏ فيزيل عني مواقف الفقر‏،‏ وأقول‏:‏ يكون فقيرا من له سيد مثله؟”. عيار البعد من بين العابدات المتصوفات ربذة وأختها مضغة أختا بشر بن الحارث الحافي، أحد كبار الصوفية، واشتهرتا بورعهما وزهدهما بين الناس حتى أصبحتا مثالاً أو معياراً للبعد عن سبيل الورعين في نظر الإمام أحمد بن حنبل الذي قال فيهما‏:‏ “من أحب أن يعرف بعده عن سبيل الورعين‏،‏ فليدخل على أختي بشر الحافي ويسمع مسائلهما ويبصر طريقتهما‏”. سئلت ربذة عن أثقل شيء على العبد‏، وأخفه؟ قالت‏:‏ الذنوب أثقل شيء على العبد وأخفه عليه التوبة‏..‏ فما له لا يدفع أثقل شيء بأخف شيء؟. واحتفظت لنا كتب التراث باسم المتصوفة عائشة بنت عمران التونسية التي كانت تغزل الصوف وتقتات منه وتتصدق على المحتاجين، وكانت إذا بات عندها شيء من المال في ليلة تقول: “عبادتي اليوم ناقصة”. ومثلها كانت أم الأسود بنت زيد العدوية التي كانت تتحرى الحلال في كل سلوكياتها، وكانت تقول: “ما أكلت شبهة إلا وفاتتني فريضة أو وِِرد من أورادي”. وأما ميمونة بنت الأقرع فبلغ بها الورع أنها كانت توصي التاجر الذي كان يشتري منها ما تغزله بأن يقول لمن يشتري منه: إنها ربما كانت صائمة فلم تجوِّد صنعتها، وفطيمة امرأة حمدون القصار العالم الفقيه ومما قالته:‏ من أبصر نعم الله عليه شغله القيام بشكرها عن كل شيء‏.‏ سعادة القرب تصف ميمونة السوداء في هذه القطعة التي تتميز بالرقة والعذوبة الفنية حال العارفين السالكين الذين يحبون الله، قلوبهم مبصرة ولهم عيون ترى ما لا يراه الناظرون، وهم يطيرون في الملكوت بأجنحة لا ريش لها، وكل هذا كناية عن حال الوجد والانخطاف التي يعيشونها: قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرونا وألسنة بسر قد تناجي تغيب عن الكرام الكاتبينا وأجنحة تطير بغير ريش إلى ملكوت رب العالمينا فتسقيها شراب الصدق صرفا وتشرب من كؤوس العارفينا وهذه تحفة الشاعرة تصف سعادتها بالقرب الذي به يتحقق وجودها، ولولاه لما كانت شيئاً، وها هي تقول بعد أن اختص المحبوب قلبها بالغنى: أفادني كل المنى وخص قلبي بالغنى وقد أزال سيدي عن باطني ثقل العنا إن لم يكن يداركني بما أرجو فمن أنا مكابدات الفراق لكن الحال لا تسير دائماً على هذا النحو من الفرح والسعادة بل ثمة مكابدات ومجاهدات في هذا العشق، الذي تكثر فيه أحوال المجاهدة والعناء والمكابدة. ويلقى فيه المتصوف أنواعاً من المحن والبلاء خاصة أثناء خلوته الروحانية التي تستلزم الصبر والتجلد والضنى. ويقال إن المتصوفة تُحفة كانت جارية تباع وتشترى وذات يوم طلب منها سيدها أن تعزف وتغني له فغنت والدموع على خديها: وحقّكَ لا نقضتُ الدهرَ عهدا ولا كدّرتُ بعد الصفوِ ودّا ملأتَ جوانحي والقلبَ وجدا فكيفَ ألذُ أو أسلو وأهدا؟ فيا من ليس لي مولى سواهُ تُراك تركتني في الناس عبدا. ثم تساقطت دموعها واستغرقت في البكاء بصوت عال، وكسرت العود وأضربت عن الطعام والشراب. وتبرئ ريحانة (المجنونة) حبها من كل مطمع بما في ذلك الجنة، فهذه المتصوفة لا تسأل الله الجنة إلا لتراه، تقول في أبيات شعرية كانت تكتبها على ثوبها من الخلف: أنت أنسي ومنيتي وسروري قد أبى القلبُ أن يحبَ سواكا يا عزيزي وهمتي ومُرادي طال شوقي متى يكونُ لقاكا ليس سؤلي من الجنان نعيما غير أني أريدها لأراكا وقالت جارية متصوفة: لستُ أبكي فراق عيني لعيني وإنما خشيتي أن لا أراكا وقالت أخرى مجهولة الاسم والنسب: تفنى الليالي والزمان بأسره وهواك غضٌ في الفؤاد جديد بل تستعذب الشاعرة زحلة التي عرفت بالمناجيات طعم القتل في الغرام وهو مما يشيع في شعر المتصوفة: لا أقبل نصحكم فملوا عذلي ما أعذب في الغرام طعم القتلِ إن طلّ دمي فكم محب مثلي قد ضرج باللحاظ لا بالتبلِ ومن بين الأسماء التي ترد في الكتب عبر شذرات متفرقة هنا وهناك، ممن لم نجد لهن تراجم ولا آثاراً: ريحانة، حيونة، رابعة الشامية وهي غير رابعة العدوية، ميمونة، أمة الواحد بن المحاملي (ستيتة)، معاذة العدوية، رابعة القيسية، شعوانة، فاطمة بنت أحمد الحجافية، جمعة بنت أحمد بن عبيد الله (ام الحسين القرشية)، حكيمة، ميمونة المجنونة وهي غير ميمونة بنت ساقوله الواعظة، تحفة، أم هارون العابدة، عبدة أخت أبي سليمان الداراني، دردانة أخت أبي الحسن الحافظ من أسباط أبي علي الدقاق، أم داب، والدة أحمد بن عطاء الروذباري وهي أخت أبي علي احمد بن محمد الروذباري، ميمونة اخت ابراهيم الخواص، زحلة، عزيزة بنت علي المصرية، وغيرهن كثير...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©