الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سنغافورة بين السلطوية والديمقراطية

15 أغسطس 2015 21:46
في يوم الأحد الماضي، احتفلت سنغافورة بالذكرى الخمسين لاستقلالها. وكان هناك الكثير مما يدفع السنغافوريين للاحتفال بهذا اليوم، ومن ذلك أن دولتهم التي تتألف من مدينة واحدة، أثبتت أنها «كيان استثنائي» مثلما يفضل أن يصفها قادتها. فقد أصبحت مركز استقطاب عالمي لرؤوس الأموال والتجارة والسفر والشحن البحري. وساعد تنوعها اللغوي الذي يشتمل بشكل أساسي على الإنجليزية واللغة الصينية الشمالية «المندرين»، على جعلها البوابة الحقيقية لآسيا الصاعدة اقتصادياً. وفي الوقت نفسه، تسجل سنغافورة تفاقماً متواصلاً لمشكلة عدم تكافؤ الفرص بين مواطنيها. ولا زالت الأقلية المالاوية تصطفّ اجتماعياً وراء طبقتي الأكثرية من الصينيين والهنود. وكذلك تعاليم الدولة تميل إلى المحافظة ونبذ مبدأ الحرّية الإطلاقية إلى درجة أن قوانينها تمنع على المواطنين مضغ اللبان «العلكة». وهناك ما ينذر بتحدٍّ أكبر من هذا. ومن ذلك أن سنغافورة تعاني الآن من عيوب في طريقة ممارستها للديمقراطية بحسب مفهومها الغربي النظري البحت، حيث يحكمها حزب منفرد منذ 50 عاماً. والإعلام فيها موجّه، وكثيراً ما رفع الساسة دعاوى قذف بحق المنشقين والمحتجين على حكم الحزب الأوحد في إطار السلوكيات التي تمارس ضدهم بالإضافة لمحاربة الصحافة الأجنبية. إلا أن من الظلم والتجنّي أيضاً أن نحكم على سنغافورة من دون أن نتساءل عما تعنيه الديمقراطية اليوم، وما الذي يمكن أن تعنيه لدولة بحجم مدينة كسنغافورة؟ ولا يبدو أن للديمقراطية حضوراً حقيقياً يُذكر في البلدان التكنوقراطية للاتحاد الأوروبي، ولا حتى في التعاليم الراديكالية لحزب «سيريزا» اليوناني الذي يحكم في المكان الذي نشأت فيه البذرة الأولى للديمقراطية. وقد ساهمت الحروب غير المبررة، وانتشار اللوبيهات العاملة لتحقيق مصالحها الخاصة، وتفاقم ظاهرة العجز السياسي، في جعل الولايات المتحدة تحاكي الإمبراطورية البيزنطية البائدة. ولننظر من جهة ثانية إلى الهند التي تعتبر «الديمقراطية الأضخم في العالم»، وهي تشهد تحولاتها المقلقة الآن. وعبر العقود الماضية، تمكن الزعيم «لي كوان يو» من إنقاذ اقتصاد سنغافورة وإخراجه من المستنقع الآسن الذي كان يتخبط فيه. وأصبح كثيرون من أبناء الطبقة الوسطى في الهند يحلمون بزعيم مثله. وهم بمعنى آخر، يحتاجون إلى زعيم تكنوقراطي ميّال إلى السلطوية ويمكنه أن يتخذ القرارات الاقتصادية المصيرية من دون الخوض في التفاصيل والنقاشات والأطروحات البرلمانية الفارغة والمضيّعة للوقت. وبعد أن عانت الهند من مشاكل جمّة في عهود رؤساء الحكومات التكنوقراطيين من أمثال أنديرا غاندي وراجيف غاندي ومونماهان سينج، بدا وكأن الهنود المنتمين إلى الطبقة الوسطى وجدوا ضالتهم المنشودة في شخص «ناريندرا مودي» القائد المثالي (كما يصفونه)، وهو الذي ركّز أعلى سلطة في يديه وراح يتحدث بحماسة بالغة عن تشييد المدن الذكية والقطارات الأسرع من رصاصة البندقية. وبالطبع، ليس من المرجّح أن يتمكن مودي من محاكاة النجاحات العظيمة التي حققها «لي كوان يو» في مجال عصرنة الاقتصاد. أما في مجال محاربة خصومه، فقد سبق «مودي» الرجل الأسطوري في تاريخ سنغافورة. وأي انتقاد للخلل الديمقراطي في سنغافورة ينبغي أن ينطلق من العلم بعدم وجود تشابه بين الفكرة الأساسية للديمقراطية وبين الممارسات السياسية التي نراها في الهند وأوروبا والولايات المتحدة. والديمقراطية، في شكلها الكلاسيكي الأثيني الأصيل، هي نظام سياسي يأخذ بمبدأ المساواة المطلقة بين كل المواطنين، ويتعامل مع هذا المبدأ بجدية مطلقة. إلا أن مفهوم المواطنة بحد ذاته كان ناقصاً بعد أن حرمت النساء والعبيد من امتلاك هذا الحق. إلا أن المواطنين في المدن اليونانية القديمة تمتعوا بدرجة من التحكم بطرق معيشتهم وحماية أنفسهم من الأخطار. وكان نظراؤهم في الحضارات الأخرى يحلمون بتحقيق هذه الإنجازات. وقد شهدت المفاهيم الأولى للديمقراطية الكثير من التحريف والتعديل على مرّ العصور. وظهر أن «مبدأ حكم الشعب لمصلحة الشعب» قد استُبدل في العديد من الدول الديمقراطية بمبدأ «حكم الأغنياء والأقوياء لمصلحة الأغنياء والأقوياء». وبعد عقود من الجدل حول المعنى الحقيقي للديمقراطية، بات من الواضح الآن أن الشعار المثالي الذي كانت ترفعه ومفاده أن المجتمع يتألف من البشر الذين يعيشون جنباً إلى جنب من دون الحاجة لأن يتمتع قسم منهم بالسلطة التي يحكم من خلالها القسم الآخر، لم نعد نراه إلا في بعض الدول الديمقراطية الصغيرة. ويمكن القول إن سنغافورة تفوقت في هذا المسعى بشكل كبير على الديمقراطيات الكبرى التي تعاني من الشلل السياسي. فهي تنعم الآن بفعاليتها وزخمها الوظيفي الحكومي وبسكانها قليلي العدد الذين لا يزيدون عن 5,5 مليون نسمة ومن دون أن يكون لها أعداء على الإطلاق. بانكاج ميشرا* * قاص وروائي هندي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©