الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«محمل الحج» ملحمة شعبية مصرية انطلقت منذ عهد شجرة الدر

«محمل الحج» ملحمة شعبية مصرية انطلقت منذ عهد شجرة الدر
14 نوفمبر 2010 20:50
المحمل المصري هو الأبعد شهرة بين قوافل الحج التي كانت تنطلق باتجاه مكة لأنه يأتي للأراضي المقدسة وفي معيته كسوة الكعبة المشرفة، وكان أكثر القوافل تنوعا بما يضمه من حجاج القارة الأفريقية، فإلى جانب حجاج مصر كان هناك أيضاً حجاج من أرجاء المغرب العربي وبلاد التكرور أو ممالك المسلمين بغرب أفريقيا وبعض حجاج الأندلس. كان خروج المحمل من مصر مناسبة شعبية ورسمية مشهودة منذ ما قبل عهد المماليك وبقيت كذلك إلى أن تم افتتاح قناة السويس في عام 1869م. وفقدت مصر اتصالها الأرضي مع شبه الجزيرة العربية. وقد ارتبط المحمل بالاهازيج والاغاني الشعبية التي اطلق عليها اغاني المحمل واصبح المحمل واغانيه جزءا اصيلا من الفلكلور المصري. وكان للحج المصري طريقان أشهرهما الطريق البري المار بشبه جزيرة سيناء والثاني الطريق البحري عبر البحر الأحمر، وازدهر الأخير في حقبة الحروب الصليبية التي شملت بلاد الشام رغم المخاطر التي كانت تحيط بركوب البحر في السفن الشراعية المعروفة بالجلاب. وقائع من التاريخ سجل الرحالة الاندلسي ابن جبير وقائع رحلته للحج من القاهرة التي انتقل منها للفسطاط الميناء النيلي الواقع إلى جنوبها، واستقل مع بقية الحجاج مركبا نيليا اتجه جنوبا لمدة 18 يوما هي الأكثر راحة والأقل خطرا بين أيام رحلة الحج، حيث كان المسافرون ينزلون للتجارة والتزود بالماء والغذاء من القرى المنتشرة على ضفتي النيل ويكون الوصول لمدينة قوص جنوب مصر نهاية للرحلة النيلية وبداية لرحلة صحراوية شاقة تنتهي بهم عند ميناء عيذاب على البحر الأحمر “جنوب السويس الحالية”. وتبدأ متاعب الحجاج فور مغادرة قوص حاملين معهم المؤن إذ ينتقلون لنقطة مغادرة المعمور المصري وهي المعروفة باسم “المبرز” وهناك توزن أمتعتهم لتقدر أجرة الجمال والحمالين ويجري تفتيشها من قبل رجال الجمرك بحثا عن أمتعة ثمينة يحملها الحجاج بغرض الاتجار بها حيث لم يكن يسمح بمرورها إلا بعد دفع الرسوم المستحقة عليها للديوان. وقد تضرر ابن جبير من غلظة رجال الديوان واستخدامهم للأسياخ الحديدية للكشف عما بداخل أمتعة الحجاج، مؤكدا أن هذه الأفعال لم تكن لترضي الناصر صلاح الدين الأيوبي لو علم بها. محطات على الطريق من “المبرز” إلى “عيذاب” تستغرق رحلة الحجيج حوالي 38يوما ليجد الحجاج أنفسهم في بلدة اشتهرت في الذاكرة الشعبية المصرية بأنها كانت محبسا استخدمه سليمان عليه السلام لحبس العفاريت. و”عيذاب” كانت جديرة بتلك الشهرة لدرجات الحرارة المرتفعة بها ولندرة المياه الصالحة للشرب ولجشع بعض أهلها وسوء معاملتهم لحجاج بيت الله الحرام. أما الطريق البحري من عيذاب إلى جدة فرغم أن الرحلة فيه كانت تستغرق 8 أيام فقط فإنها كانت محفوفة بالمخاطر وأقلها العواصف والأنواء التي كانت تؤدي لغرق بعض السفن بمن فيها من الحجاج أو الاصطدام بالشعاب المرجانية قبالة ساحل جدة وإن كان بحارة السفن المعروفة بالجلاب قد اشتهروا بمهارتهم في الإبحار الآمن بين الشعاب المرجانية. أما الطريق البري الذي كان يمر عبر شبه جزيرة سيناء فقد كانت له حظوة خاصة لدى المؤرخين والرحالة كما حظي بعناية الدول وجهود السلاطين لتنظيم قافلة الحج وضمان سلامة من يلتحقون بها. ويطلق على رحلته “المحمل المصري” نسبة إلى الجمل الذي يحمل الهدايا العينية والنقدية إلى البيت العتيق وكان يغطى بقبة من الجوخ وكان ذلك الجمل يصاحب قافلة الحج في كل عام بدءا من حج شجرة الدر زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب في عام 645هـ أو منذ سلطنة الظاهر بيبرس في عام 670هـ. ويعتقد البعض أن كلمة المحمل تشير أصلا للهيكل الخشبي المخروطي المحلى بالزينات وكان مخصصا لجلوس السلطان إذا خرج لأداء الفريضة ويظل خاليا إن لم يذهب السلطان رفقة الحجيج. وظل سلاطين مصر من المماليك يهتمون بالمحمل وخروجه ويزيدون في زينته سنة بعد أخرى، حتى بلغت زنة كسوة المحمل مع هيكله الخشبي 14 قنطارا وصارت الهدايا توضع في صناديق يحمله قطار من الإبل. دورتان للمحمل يشير أحد الرحالة المغاربة إلى المحمل الذي شهد خروجه في القرن الثاني عشر الهجري “18م.” واصفا إياه بأنه حسن الطلعة ويبدو عليه جمال الصنعة بخرط متقن وشبابيك ملونة بأنواع الأصباغ، وعليه كسوة من الديباج المزركش بالذهب. وكان للمحمل دورتان أولاهما في شهر رجب تنبيها للأذهان بقرب موعد موسم الحج وإعلانا بأن الطريق آمن من هجمات اللصوص وقطاع الطرق وتسمى “الدورة الرجبية” أو “الرجبية”، أما الدورة الثانية فكانت تجري بعد ثلاثة أو أربعة أيام من انتهاء عيد الفطر وتعرف بالدورة الشوالية وفيها يكون الخروج لمكة المعظمة. وكان المحمل في عصر المماليك يبدأ مسيرته من القلعة مقر حكم السلاطين ويجلس السلطان المملوكي على دكة أسفل القلعة “ميدان القلعة حاليا” لاستعراض المحمل وما يحمله من هدايا وأقوات مرسلة للحرمين الشريفين ويتقدم المحمل أمير الحج وهو من أمراء المماليك الكبار ثم يشق الموكب شوارع القاهرة مارا بباب زويلة ثم شارع بين القصرين حتى ينتهي إلى بركة الحاج بشمال شرق القاهرة وهي نقطة التقاء الحجاج لبدء رحلة الحج بالطريق البري. ولم يختلف الأمر كثيرا خلال العصر العثماني وإن أصبح الموكب منظما وفقا لأوامر السلطان لباشا مصر الذي كان يتخير أفضل بكوات العسكر ليكون أميرا للحج يتولى “تشهيله” أي كراء الجمال وشراء المؤن وتنظيم مسيرته وشؤون الدفاع عنه خلال الطريق. مراسم وطقوس يمدنا محمد البتانوني في كتابه “الرحلة الحجازية” الذي سجل فيه وقائع رحلة خديوي مصر عباس حلمي الثاني للأراضي المقدسة في عام 1327هـ “1909م” بوصف كامل لمراسم خروج المحمل في يوم يعده مشهودا بالقاهرة، حيث تمشي في الموكب الجنود الراكبة والبيادة “المشاة” وحرس المحمل وركبه وخدمته من ضوية “حملة المشاعل” وعكامة يتقدمهم أمير الحج الذي يعينه الجناب العالي الخديوي سنويا، وبعد أن يدور المحمل دورته الأولى بميدان القلعة يمر على “المصطبة” وهي المكان المعد لجلوس الجناب العالي الخديوي يوم الاحتفال ومعه رجال الحكومة والعلماء وهنالك يأتي مأمور الكسوة الشريفة وبيده زمام جمل المحمل فيستلمه الجناب العالي منه ويسلمه إلى أمير الحج، وعندها تضرب المدافع من القلعة ويسير الموكب يتقدمه أصحاب “الأشاير” من فرق الصوفية بألوان بنودهم وعماماتهم الملونة ثم الجنود ثم جمل المحمل يتقدمه أمير الحج ويتلوه المحاملي المسؤول عن قيادة الجمل والجمالة والفرايحية “قارعو الطبول” على جمالهم، ويستمر هذا المحمل سائرا إلى المحجر فالدرب الأحمر ويمر من باب زويلة فالغورية فالنحاسون فباب النصر فالعباسية وهناك يتفرق الموكب وينزل ركب المحمل إلى خيامهم التي ضربت فى صحراء العباسية، وينصب المحمل في وسط ساحتها ليزوره من يتبرك به حتى إذا كان يوم السفر إلى السويس نقلوه مع أدواتهم وذخائرهم إلى وابور المحمل الذي يكون مهيأ في محطة العباسية وبعد شحنه يسير إلى السويس. وكان الطابع الشعبي غالبا على الموكب قبل أن تعمد الحكومة إلى إسباغ صفة رسمية وعسكرية عليه عقب افتتاح قناة السويس. وكانت مشاركة أهالي القاهرة من الحجاج عادة ثابتة فضلا عن الحجاج المغاربة وقد اشتهر هؤلاء بإثارة المشاكل عند مرور الموكب خاصة إذا رأوا شيئا مما يعده المالكية منافيا للإسلام. واللافت أن إبل محمل الحاج المصري التي كانت تتجاوز الألف كان نصف عددها يخصص لحمل المياه في روايا أو قرب من الجلد ويكون كبير السقائين مسؤولا عن تزويدها بالمياه الصالحة للشرب وعن توزيع المياه على الحجاج أثناء الرحلة. هيئة وظيفية كان للمحمل المصري هيئته الوظيفية التي تتلقى رواتب ثابتة من الحكومة وتتمتع في ذات الوقت بصلاحيات واسعة من أجل تدبير احتياجات قافلة الحج لعل أهمها شراء الأغذية والمياه بل وشراء العملات الرئيسية وفقا لأسعار خاصة تعلنها السلطات وليس لأحد من الباعة والتجار أن يخالفها بحال من الأحوال. وكان “أمير الحج” هو الشخصية الأبرز بين هؤلاء الموظفين الذين يتوزعون على نحو 42 وظيفة منها “الدوادار” وهو حامل دواة الحبر التي يستخدمها أمير الحج لكتابة الأوامر وتوقيعها وبوصفه من العسكر كان يعتبر القائد الميداني لحرس المحمل و”قاضي المحمل” ويفصل في المنازعات التي قد تنشب بين الحجاج و”أمين الصرة الشريفة” وهو المسؤول عن الأموال المرسلة للحرمين والمخصصة للإنفاق على القافلة وله قيادة وتوجيه “المحاملية” ساسة الإبل. وهناك أيضا “البيرقدارية” وهم قادة الجند ممن يحق لهم حمل البيارق أو الأعلام فضلا عن مسؤولين عن تزويد القافلة بالمؤن والمياه ومشرف على المطبخ وخباز وطبيب وبيطار وأخيرا “مبشر الحاج” وكانت مهمته تبدأ فعليا عقب عودة القافلة من الأراضي المقدسة إذ يسبق القافلة بهجينه السريع للإبلاغ عن أحوال الحجاج وما حدث بشأنهم من سرقات أو وفيات ويكون وصوله للقاهرة قبل نحو أربعة أيام من إياب قافلة الحج بمثابة تبشير وإعلام ليستعد ذوو الحجاج لملاقاتهم. وكان أمير الحج الشخصية الرئيسية في المحمل المصري بما له من صلاحيات واسعة وواجبات جمة فقد كان منوطا به جمع الناس حتى لا يتفرقوا ويوزعهم على مجموعات لكل منها قائد وأن يرفق بهم أثناء السير حتى لا يعجز الضعيف أو يضل المتأخر وأن يسلك بهم أسهل الطرق وأخصبها وأن يسير بهم إلى الماء إذا انقطع وإلى المراعي إذا قلت وأن يدفع قطاع الطرق عن الحجاج وأن يراعي الوقت حتى لا يفوتهم الحج وكان له أن يقوم المنحرف ويؤدب الخائن ويقيم عليه الحد إذا كان بالطريق. رحلة العودة أما رحلة العودة لقافلة الحج فقد كانت مسرحا للمشاعر المتناقضة التي حرص الرحالة من الأوروبيين على تسجيلها .فإلى جانب الأهالي الذين يحتفون بالزغاريد بعودة ذويهم سالمين من رحلة الحج الشاقة متوجين بلقب المناداة الأثير لدى عامة المصريين”سيدي الحاج” كانت هناك مناظر للحزن تتقطع لها نياط القلوب ولاسيما عندما تولول النساء أو يجهشن بالبكاء عندما يعلمن بوفاة مفاجئة لمن يترقبن حضوره أو عندما يتسلمن متعلقات المتوفي رغم علمهن المسبق من مبشر الحاج بحالات الوفاة. زمن يسير إلى الخلف من هؤلاء الرحالة الفرنسي “جيرار دي نرفال” الذي سجل مشاهداته في بلاد المسلمين في سفر كبير هو “رحلة إلى الشرق” وكان مقيما بالقاهرة وقت إياب الحجاج في 15 يناير عام 1843م. وهرع إلى خارج باب الفتوح ليشهد عودة المحمل وسجل مشاهداته قائلا “خيل إلي أن الزمن يعود إلى الخلف وأنا أرى مشهدا مهيبا حيث طلائع فرسان الوالي انطلقت بين الجماهير بدروعهم البراقة وخوذاتهم الوضاءة .وبعيدا فوق التلال المترامية أرى آلافا من الخيام الملونة حيث توقفت قافلة الحجاج للراحة من وعثاء السفر ولم يخل المشهد من المنشدين ونافخي الأبواق وقارعي الطبول والدفوف.وما كان أروع مشهد هذا الأوركسترا الشرقي فوق أسنمة الهجن وطائفة من المغاربة الذين يكثر بينهم الدراويش يرددون بحماس شديد أوراد الذكر والمديح ويزدان الموكب بألوان الرايات والبيارق بينما الأمراء والشيوخ في ثيابهم الفاخرة على صهوات جيادهم ذات السروج المزركشة بالقصب والمرصعة بالأحجار الكريمة مما يزيد المشهد رونقا وبهجة”. فرح الرجوع تعود قافلة الحج تقليديا في شهر صفر وكانت لها طقوس خاصة أيضا حيث تدخل من باب النصر رغم انها غادرت القاهرة من باب الفتوح وفي ذلك مراعاة لعوائد خلفاء الفاطميين الذين كانوا يخرجون للفتوحات من باب الفتوح ويعودون للقاهرة من باب النصر. وفي أثناء مرور موكب العودة تطلق مدافع القلعة اثنتي عشرة طلقة تحية لعودة المحمل وتغص الشوارع بالناس الذين يبدون حرصا شديدا على الاقتراب من المحمل ولمسه ثلاث مرات ثم تقبيل أيديهم ومسح وجوههم طلبا للبركة . وجرت العادة على أن يقوم أهل الحجاج العائدين بتزيين واجهات المنازل بالرسوم والأصباغ الملونة والتي تحمل بشكل أساسي رسوما لجمال المحمل مع بعض عبارات تقليدية من قبيل “حج مبرور وسعي مشكور” كما تعلق الرايات والبنود بين الدور وفي المساء تقام الولائم للقادمين بقصد تهنئة الحجاج بسلامة الوصول. بيد أن عودة محمل الحج لم تكن دائما وردية الملامح بهيجة المنظر فكثيرا ما لفتها أجواء من الحزن والأسى ولاسيما في بعض سنوات العصر العثماني التي عجز فيها أمراء الحج لأسباب مختلفة عن حماية القافلة عند عودتها من اعتداءات على طول الطريق ومما سجله المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي في كتابه “عجائب الآثار” عن عودة الحجاج للقاهرة في الحادي عشر من شهر صفر عام 1201هـ “1786م” أن الحجاج دخلوا مصر وهم في أسوأ حال من الجوع والعري ونهب جميع أحمال أمير الحج وأحمال التجار .وكانت القافلة قد تعرضت لهجوم اللصوص الذين لم يكتفوا بنهب ما يحمله الحجاج من أمتعة وسلع بل أسروا النساء جميعهن واستغاث الحجاج بأحمد باشا الجزار أمير الحج الشامي الذي لم يكن في وضع يتيح له الاشتباك مع اللصوص ولعله صانعهم بمال لينجو بقافلته ولجأ للتفاوض معهم بشأن النساء فقط فأحضروهن عرايا وليس عليهن إلا القمصان وأجلسوهن جميعا فكل من وجد امرأته أو أخته أو أمه أو ابنته اشتراها ممن في أسره.
المصدر: الاتحاد
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©